مازال الدكتور عبدالقادر باعيسى ينقلنا إلى فضاءات جديدة عامرة بالعطاء ، بعد أن ولجنا واحته الظليلة التي تتزاحم فيها الاشجار الخضراء حيث أقتطفنا ثماراً من ثمارها اليانعة ، والرحلة في عقل هذا الحضرمي الأصيل جد ممتعة ومفيدة ، وما يجعلني أقول هذا : هي تلك المداخلات التي يتحفنا بها القراء الأفاضل فهم العمود الفقري لمقالاتنا .. تقييماً ، وإعجاباً .. نواصل الرحلة مع الدكتور عبدالقادر باعيسى أستاذ النقد العربي الحديث .. ونسأله : * القارئ هو الأقرب إلى الإحساس بالمادة الإنسانية واستيعابها من الناقد الذي قد تكون ذائقته الأدبية تصلبت وتوقفت عند مذاهب معينة، ما مدى صحة هذه المقولة؟ ( ج ) لعل سؤالك يشير إلى مفهوم (القارئ) وهو مفهوم حديث مقابل مفهوم (الناقد) وهو مفهوم قديم يجعل للناقد سلطة على النص، فيحكم عليه، أو يرفضه، أو يستهجنه، لمجرد أنه لا يتماشى مع خطه النقدي، أو حتى لم يرق له، فيقضي الناقد على النص بضربة قلم واحدة، وربما على الأديب، وهذا المفهوم ما عاد معتمدا بصورة كبيرة في النقد العربي عموما، وإن ظلت بعض الأسماء متمسكة به، حتى لا تفقد مركزيتها في إطار الهيمنة الثقافية، بينما مفهوم القارئ مفهوم حداثي لا يعطي القارئ أي سلطة على النص، لا بالحكم عليه ولا توجيهه، أي إنه يرفض حكم القيمة بالسلب أو بالإيجاب، وإنما يقرأ النص من حيث هو لغة، فيعمل على تأويله واستنطاق خصائصه الجمالية، وبهذا (فالقراءة) غير قطعية ولا فاصلة وتستكشف ما استطاعت منها، وبهذا لا تغلق النص على أي قراءة قادمة، إنها لا تعطي (القارئ) أي مركزية عالية على النص، بخلاف مفهوم (الناقد). ربما كانت هذه المقولة تنطبق على بعض النقاد الأكاديميين، ذلك لأن الجامعات، في العالم العربي، تحولت، في بعض جوانبها، إلى ما يشبه القلاع التي لا تسمح بالتجديد، ولا بالقبول السريع بالتغييرات المعرفية المتسارعة حتى لا يفقد بعض أساتذة النظريات النقدية واللغوية كراسيهم، ولعل النشاط النقدي المتنوع أكثر وضوحا في المجلات الأدبية، والصحف، لكنه مهما بلغ، يظل حضورا غير مؤصل كالذي يحدث في الدرس الأكاديمي، من حيث إنتاج الأبحاث المحكمة، والرسائل العلمية، والمحاضرات.. وكثير من الأساتذة الأكاديميين ينفتحون على المناهج الحديثة ويدخلون مفاهيمها وتقنياتها إلى محاضراتهم، ويكتبون بها بحوثهم، وعليه فإن الجامعة هي المكان الأنسب للنشاط النقدي المؤسس على وعي نظري ومنهجي، ويمكن أن تكون المقابلة قائمة بين بعض الأكاديميين المتصلبين عند نظرياتهم التي لا يرغبون في أن يتزحزحوا عنها، والقارئ الذي لا يقيد نفسه بشيء من ذلك. وعلى أية حال يظل فارق الوعي بين القارئ والناقد موجودا إلى حد كبير، ومتماسا أيضا، ذلك لأنك قد تجد (قارئا) يتبع الأسلوب الحديث في التحليل، لكنه يحاول أن يفرض سلطته على النص، وقد تجد (ناقدا) يلتزم لمنهجيته النقدية الكلاسيكية لكنه لا يضغط كثيرا على المبدع والنص، فيكتفي بقراءة الظروف السياسية والاجتماعية التي أثرت في إنتاج النص، متحدثا بإسهاب عن مضمونه، مع إلقاء مسحة عابرة على الناحية الفنية. وفي المحصلة الأخيرة لا يستطيع الناقد ولا القارئ أن يقولا كل شيء عن النص، وإن امتاز الأول بمحاولة فرض سلطته كما فعل الآمدي في كتابه (الموازنة) بوصفه ناقدا فحلا لا ترد كلمته ولو كانت على أبي تمام الأكثر براعة شعرية، بينما يمتاز الثاني (القارئ) بحيوية أكبر في تتبع خصائص النص الجمالية. * كيف يحلل الناقد الأدبي النصوص الأدبية، ويستنبط صفاتها وخصائصها، ويحكم عليها كما ينبغي أن تكون؟ وهل من الضرورة أن يكون الناقد ملما بالتراث النقدي وبالاتجاهات النقدية التي يعاصرها؟ وما هي رؤيتكم للحركة النقدية في بلادنا ومدى ارتباطها بالواقع الثقافي والأدبي العام؟ وإلى أين وصلت؟ (ج) يتم تحليل النصوص بأي منهج من مناهج التحليل إما القديمة نسبيا كالمنهج الاجتماعي، والمنهج النفسي، والمنهج التاريخي، والمنهج اللغوي، والمنهج التكاملي، وإما الحداثية كالمنهج البنيوي، أو الأسلوبي، أو السيميائي، أو التفكيكي، أو منهج التلقي والتأويل، ولكل منهج آلياته الخاصة في التحليل والقراءة، لكنها جميعا، أعني المناهج الحداثية، تنظر إلى النص من حيث هو لغة، تستوقف القارئ فيه كثير من المعالم الجمالية بعيدا عن شخصية الأديب ونفسيته وظروف عصره الاجتماعية والسياسية، مما تهتم به المناهج السابقة على المناهج الحداثية كالمنهج النفسي الذي يحول النص إلى وثيقة سريرية تكشف عن نفسية الأديب، وعقده، كما فعل النويهي والعقاد في دراسة أبي نواس، والمنهج الجدلي (الماركسي) الذي يرى في الأدب انعكاسا للواقع وتمثيلا- إلى حد كبير- للطبقة التي ينتمي إليها الأديب، ومن ثم فالنقد الحداثي لا يحكم على النصوص، يقرؤها فقط، لتقدم كل قراءة إضافة إلى المدونة النقدية وإلى شخصية النص اللغوية التي تحتمل عددا كبيرا من القراءات، وهو ما يحفز على العودة إلى النص دائما، وقراءته في كل مرة بنفس جديد من قبل القارئ نفسه أو من قبل قارئ آخر، ومن هنا تكون الحداثة وفية للنص بما في ذلك النص التراثي الذي تقلبه على وجوه مختلفة، وتعيد اكتشاف ما خفي فيه من أسرار طمرتها القرون، وهذا لا يتعلق بالشعر، وإنما بالسرد العربي أيضا الذي يتعرض بدوره لاكتشافات رائعة على يد أقطاب السرد. ولعله من المهم للقارئ معرفة كل المناهج والتيارات ومعرفة موقعه منها، وإلا كيف ستكون قراءته خصبة وعميقة، فضلا عن تمتعه بحس نقدي رفيع، يستطيع متابعة خيوط النص الدقيقة، والربط بينها. أما عن الحركة النقدية في بلادنا فيمكن التعرف عليها من خلال المؤلفات النقدية الموجودة في الساحة، وهي في الغالب الأعم قراءات ذات اتجاه حداثي، محمل برغبة جادة في قراءة النصوص وإضاءتها، وتتعدد آلياتها المنهجية وفقا ومنطلقات أصحابها، فالدكتور عبدالله حسين البار أنجز عددا من الكتب والدراسات تعنى بالتحليل اللغوي- الحداثي للنص لاسيما في المجال الأسلوبي، بينما يهتم الدكتور أحمد سعيد عبيدون بالقراءة السيميائية، وكذلك الأستاذ زهير الهويمل، ويهتم الدكتور طه حسين الحضرمي بالقراءة السردية وفقا ومفاهيم علم السرد الحديث، وكذلك الدكتور عبده بن بدر، وللأخ أكرم باشكيل إضاءات جيدة في المجال السردي والأدبي عموما، وهنالك أسماء أخرى يبدو أن إنتاجها في القراءة النقدية توقف منذ فترة ليست بالقصيرة، لأسباب متعلقة بها. والملاحظ أن القراءات الحداثية لا تستقطب إلا قراء محدودين هم في الغالب من الشغوفين جدا بالنص الأدبي لما تنطوي عليه الحداثة من مفاهيم ومصطلحات جديدة وآليات تحليل مختلفة لم يعهدها القارئ الحضرمي، والعربي عموما، لاسيما أن هذه القراءات متنوعة وتحاول أن تواكب الجديد بما يجعلها في أزمة ابتعاد، إلى حد واضح، عن عموم القراء، أو عن الواقع الأدبي والثقافي العام، كما جاء في سؤالكم. أما إلى أين وصلت هذه القراءات؟ فقد أنجزت أشواطا جيدة يمكن لأي متابع للإصدارات والكتابات إدراكها، ولعله كان ينقصها التفاعل الحواري والنقاشي في ما بينها من خلال اللقاءات الأدبية والندوات، فضلا عن أنها بحاجة إلى إثراء في واقعنا الأدبي حتى يتعرف عليها الكثير من القراء لاسيما الشباب، بدل هذا الفراغ الهائل الذي يعيشونه في مجال المعرفة عموما والمعرفة بالنظرية النقدية والأدبية الحديثة خصوصا. * هل ننتظر من الدكتور باعيسى رداً شافياً على السؤال الذي يطرح نفسه والمتعلق بالهموم التي تتمحور في الجانب الشخصي والأكاديمي والمجتمعي ، وبأي منها سيبدأ ؟ وكيف يرى علاقته بطلابه ومستوياتهم التعليمية ؟ وهل هو راض عنها بمقياسه الأكاديمي الدقيق ؟ ج) هذه مجموعة أسئلة وليست سؤالا واحدا، ولعلني أقف معك أولا عند الهم الشخصي الذي أكاد أركزه أكاد أركزه في هم الوطن الذي أسقطته علينا السياسة بكل إشكالاتها، لاسيما الهم الذي سقط على حضرموت التي تنوعت بها السبل، فمفهوم الوطن بالنسبة لجيلنا اضطرب عدة مرات خلال خمسين عاما، وارتبكت معه كثير من الأمور، فلدينا ما يلي: 1) الوطن حضرموت (الدولة القعيطية). 2) الوطن حضرموت (الدولة الكثيرية). 3) الوطن الجنوب العربي. 4) الوطن جنوباليمن. 5) الوطن اليمن. 6) وهنالك من ينادي اليوم بأن يكون الوطن حضرموت الصغرى. هذا الاضطراب بين الوطني- المحلي، والوطني- الأعم شكل ومازال يشكل إرباكا مزعجا لكثير من المثقفين والسياسيين والمواطنين على حد سواء في ما أدى إليه من نتائج، فتغير مفهوم الوطن بهذه السرعة وخلال مدة وجيزة من الأحداث التاريخية المتلاحقة لم تشهده أي منطقة عربية كما شهدته حضرموت، في انقسامها على نفسها أولا بين قعيطية وكثيرية، دون أن تلحق أي من هاتين الدولتين اسم حضرموت باسم دولتها انطلاقا من كون الممالك في ذلك العهد أشبه بالاحتياز الخاص كالمملكة المتوكلية اليمنية والمملكة الأدرنية الهاشمية، وإن حافظوا على حضرموت صحراءها وواديها وبحرها في رمزية أعلامهم، وخدموها بصورة واضحة. وأن تكون حضرموت منقسمة على نفسها مرة، وأن تكون من الجنوب مرة أخرى، وأن تكون من اليمن مرة ثالثة، وأن تعود -كما يقال- إلى الوضع التاريخي في ما صار يسجل الآن في الوثائق باسم إقليم حضرموت أو الإقليم الشرقي مرة رابعة، وخلال مدة زمنية وجيزة (نصف قرن تقريبا) كل هذا أثر فينا، وترك فينا هذا الارتباك والهم، فنحن من جيل عاصر فترة الحزب الاشتراكي اليمني، وفترة الوحدة، ونعاصر الآن ما يستجد من أمور بدأت تلوح في الأفق، وربما استبق بعضنا بحياته إلى معاصرة الدولة القعيطية أو الكثيرية، وخلال هذه المدة المرتبكة كثير من الأهداف غدت سرابا، ولعل هذا صاغ انفعالاتنا النفسية والذهنية على هذه الحالة من الاضطراب، وستجد كثيرا من الأسماء السياسية والمثقفة الكبيرة ليس من جيلنا بل حتى من الأجيال السابقة علينا، تنقلت بين هذه المواطن خلال هذه المدة الوجيزة دون أن يستقر الزمن بأحد منهم على فكرة واحدة أو هدفية واحدة. والإشكالية هي أن كثيرا من الاتجاهات السياسية أسهمت في تأسيس الوطن العام، وكان كل ينطلق من مصالحه الخاصة، أو من مصالح منطقته الخاصة، حسب موقعه السياسي والسلطوي، واستغلت –في ما يبدو- في كثير من الوطنيين الحضارم، وغيرهم، رغبتهم في الاستقلال والتحرر من الاستعمار، وهي مبادئ سامية، ولعله ما تزال إلى الآن ترسم المبادئ الجميلة، ولا أدري ما إذا كانت ستغدو أحلاما متهاوية في المستقبل القريب أو تتحقق، فبوصفي واحدا من هذا الجيل أعيش هذا الارتباك، وأتمزق به يوميا. لقد ارتبط بتلك التحولات الدرامية ارتباك في الجانب الاجتماعي، والسياسي ، والعسكري، والسلطوي، والتربوي، والمعيشي، والشخصي لكثير من الأفراد، إن لم أقل لكل فرد، واللافت أن تلك الآثار السيئة ترسم في إطار جاذب، هو الازدهار الوطني، أو خير الوطن. أصبحنا كالمصابين بعقدة الخوف (فوبيا الخوف) المعروف في علم النفس والذي يصاب به بعض الأفراد، أما أن يصاب به جيل بأكمله، أو أجيال، فالمسألة بحاجة إلى نظر، وكثيرا ما أخفت المبادئ الكبيرة تحتها عددا من الأهداف الخاصة التي تجلت سوءاتها بمرور الأيام، ولعل الأجيال الحضرمية التي عاصرت هذه الأوضاع بما فيها جيلنا مسؤولة عن عدم رسم شيء من الأهداف الخاصة لحضرموت، ومسؤولة عن هذا الاضطراب الذي نعاني منه، قبل أن نحمل أحدا المسؤولية. نلتقي في الحلقة الرابعة القادمة ، حيث سنناقش العديد من القضايا والهموم ، والدكتور عبدالقادر باعيسى بلغتة الجميلة ، جعلنا قراء ننهل من علمه وثقافته الواسعة .. والآن نودعكم أحبتي ،على أمل اللقاء بكم في الأسبوع القادم .