بين سيطرة القعيطيين على مدينة المكلا في نوفمبر عام 1881م، و خروجهم منها في سبتمبر عام 1967م مدة من الزمن لا تتجاوز التسعة عقود (ستة وثمانون عاما) في هذه المدة القصيرة من عمر التاريخ تشكلت السلطنة القعيطية، وتوسعت تدريجياً لتشمل معظم مساحة حضرموت، وقد سبق دخولهم لمدينة المكلا خطوات سياسية وعسكرية يمكن عدها بالتمهيدية لكنها ساعدت في تأسيس كيانهم السياسي بمساندة ثروة العائلة في حيدر أباد بالهند، وبالمؤازرة البريطانية. بدأ الحكم الرسمي للسلطنة القعيطية بالسلطان عوض بن عمر القعيطي وانتهى بالسلطان غالب بن عوض بن صالح، وبينهما حسب تسلسل التولية: السلطان غالب بن عوض وعمر بن عوض وصالح بن غالب وعوض بن صالح بن غالب القعيطي وإذا كان (القدر التاريخي)قد وضع جيلنا في ضمن رعايا السلطنة القعيطية في السنوات الأخيرة من عهدها، فإنه – أي هذا القدر- جعل منهم بعد زوالها، وفي نظام الحكم الجديد بجناحه اليساري المتطرف جيلاً للثورة. في تلك المرحلة الثورية خاصم الثوار- مثل معظم الأنظمة الثورية – التاريخ وتوابعه، ووصفوا ما قبلهم بالعهد البغيض، والبائد، وصنفوا ساسته بركائز الاستعمار، ورموز التخلف والرجعية، ولكن ….. في مدينة المكلا ظلت شواهد تحكي جانباً من قصة التاريخ فهذا قصر السلاطين (القعطة) أو قصر المعين الذي زاحمته تسمية ثورية (قصر 14 أكتوبر) ظل راسخاً رسوخ المدينة الأصيلة في تاريخها، فمن خلال ذهابنا إلى مدارسنا التي شيدت في عهد السلاطين القعيطيين أو عند عبورنا بمحاذاة المستشفى الذي بني في ذلك العهد، أو بجلوسنا في بحر (المشراف) المخصص للنساء منذ عهد السلاطين، لابد من مشاهدة قصر المعين حتى صارمن ضمن تفاصيل حياتنا اليومية، بل امتدت علاقتنا به إلى داخل أسواره وزواياه، وأحيانا التسلل إلى فنائه وبعض غرفه في حركة من البراءة لا خصومة لها مع التاريخ، ولا مع أهله لكنها كانت تؤسس لتساؤلات جنينية دفينة قابلة للتوسع والبروز. وظلت التساؤلات في مكمنها! ولم تستطع المدرسة تحفيزها أو إرواء عطشها، وحتى في الجامعة لاسيما في قسم التاريخ بكلية العلوم والآداب والتربية بمدينة المكلا غاب السلاطين الكثيريون والقعيطيون، من مفردات المناهج الدراسية إلا اللمم، وحل محلهم شخصيات تاريخية بعيدة عن حضرموت بل صارت لهم السطوة في قاعات الدرس التاريخي، ولاشك أن وراء هذا الطمس قصة معروفة، ومع هذا وللأمانة العلمية فإن دراستنا الجامعية الأولى نبشت في التربة الجامدة، ودفعت الفضول التاريخي لمعرفة المزيد عن المغضوب عليهم من السلاطين والرجعيين. في عام 1996م زار السلطان غالب بن عوض القعيطي حضرموت، وقوبل في مدنها وأريافها بحفاوة لافتة ، وجاءت الزيارة بعد سنتين من سقوط مدينة المكلا بيد ما سمي بقوات الشرعية. كانت الأوضاع وقتئذ كما هي اليوم تمضي من سيء إلى أسوأ، كان برنامج الفيد في عنفوانه، وفي تأصيله (المنظم) لثقافة الفوضى، أما برنامج السلطان فقد كان حافلاً، من ذلك زيارته لبيت نجل شاعر السلطنة القعيطية الشيخ عبدالله الناخبي القريب من بيتنا، وبعد انتهاء واجب الضيافة أدت (حافتنا) واجب التحية من خلال احتشاد الناس، وارتفاع أصوات الزغاريد المعبرة عن الفرح من بعض نسوة الحافة. كان هناك من يردد : نريد كهرباء يا سلطان؟؟ في هذه المهرجان العفوي لم أتشرف بمشاهدة ضيف حافتنا، وتأجل اللقاء إلى مكان له الكثير من الدلالات!. في تلك المرحلة، ووسط هذه الأجواء كنا في مرحلة الإعداد لرسالة الماجستير عن تاريخ حضرموت بين الحربين العالميتين، في معظم الأوقات تجدنا جالسين في المكتبة السلطانية التي أسسها السلاطين القعيطيون الملاصقة بالجامع الذي عمره السلاطين القعيطيون وبالقرب من أنقاض سدة المكلا قبل الأخيرة التي بناها القعيطيون وعلى مسافة غير بعيدة من الميناء(الفرضة) الذي شيده السلاطين القعيطيون. في تلك المكتبة كانت المصادر والمراجع تعج بالأخبار التاريخية وتزخر بالأحداث والصراعات، كنا نشعر أحياناً بقربنا من المتنافسين، ونحسب حالنا في مكان يسمح لنا برأب الصدع وتقريب وجهات النظر، ثم ننهمك في وسط هذه المعمعة إلى أن يرفع أذان الصلاة. في المسجد غالبا ما يكون حظنا في الصفوف الخلفية، ثوان معدودات ويشرع الإمام في تكبيرة بداية الصلاة، وبينما السكينة تسود أرجاء المسجد فجأة دخل السلطان غالب بن عوض واثنان من المرافقين له من البوابة الرئيسة للمسجد، وبتلقائية لا أستطيع وصفها، وبعد همس لا يكاد يسمع انفطر المسجد إلى قسمين فإذا بالسلطان رغم إصراره على البقاء في موضعه ينزل عند رغبة الناس ويتقدم بحياء واضح إلى الصف الأول خلف الإمام مباشرة!. في تلك اللحظات الفريدة، وبزخم الأحداث التاريخية المتزاحمة في الدماغ خُيّل لي بأن التاريخ بُعِث بلحمه وشحمه ودمه. لا نريد التحدث عن مشاعر السلطان فربما دونها أو قالها للمقربين منه، ولكن إذا سمحنا لأنفسنا بالتخمين فإن المشاعر لاريب ستكون فياضة، ولها وقعها المريح في أعماقه، وستزيده محبة لهؤلاء الناس الطيبين الذين لا توجد لديهم خصومة تاريخية سافرة مع آبائه ، كما لا نريد التعليق على رمزية زيارة السلطان في تلك المرحلة العصيبة من تاريخ حضرموت، ولا على ما أظهره له الناس من تقدير وحفاوة، وهي نعمة كبيرة تهون عندها مكاسب الدنيا الزائلة. إن السلاطين القعيطيين وسلطنتهم في ذمة التاريخ، ومن حق المؤرخين الحكم لهم أو عليهم بحسب اجتهاداتهم العلمية، ربما ينظر البعض بألم إلى حادثة القصر الشهيرة (1950م) التي سقط فيها عدد من الشهداء في ساحة القصر القعيطي ويعدونها من صفحاتهم السوداء، ومع تأكيدنا على ذلك فإن حادثة القصر الأليمة كانت في إحدى وجوهها مواجهة مباشرة بين المتظاهرين الغاضبين وهيبة كيان السلطنة، وهذا لا يعني تبرير فعل القتل، وعلى العموم لا يتسع المجال هنا للمزيد ولكن من المهم وضع التساؤلات لأصحاب الحكم اللاحق للسلاطين من قبيل : كم قتل الثوار من الثوار؟ وكم من الناس قتلهم الحكام قهراً وغدراً؟ غادر السلطان غالب المكلا على عجل، وعدنا إلى مكتبة السلاطين القعيطيين لا نحمل اللعنات على أحد، نريد فقط معرفة الحقيقة أو ما قرب اليها من قول أو عمل. ربما تهيأت لنا نحن طلبة التاريخ فرصة الاطلاع على قدر يسير من المعلومات التاريخية ربما ،ولكن من المؤكد أننا ما نزال بحاجة إلى أن نفهم الكثير والكثير.