الوعي السياسي لبعض التكوينات السياسية في بلادنا ينغلق على نفسه، يعيش عزلته، يمارس فعله النضالي ممتزجا بوعي سلطوي يدفع به بمعزل عن إمكانية الالتقاء والتقارب مع التكوينات السياسية المماثلة له في المجال والهدف، هو يعيش لحظته بامتياز، ويحقق وجوده في المجال السياسي بالصيغة التي يراها هو. هذا النوع يخشى من امتدادات الآخرين وتأثيرهم، ويحاول أن يقدم ذاته في فرديتها باسم الجميع حتى لو أدى ذلك إلى تفكيك السياق الذي يعمل فيه أو إرباكه، وبهذه الطريقة يعيش حالة من الانتماء إلى قضايا الناس والانفصال عنها في الوقت نفسه، ويستعد لتقديم عطاء كبير بحثا عن المساند والنصير، ويهتم بالأسماء ذات الوجاهات في سبيل تعزيز وجوده بعيدا عن الجماهير التي لا يعتمد عليها إلا كرديف عام لا بأس من إضافته. هذا النوع لا يستطيع التخلص من الآليات السياسية والسلطوية التي حكمت تفكيره سابقا، فيعمل في الحاضر كما كان يعمل في ماضيه، يتعامى عن حيوية الأحداث والوقائع والشواهد من حوله انطلاقا من ذاتيته المسيطرة عليه، والمرتكزة في ما يبدو على وعي قبلي، ووعي شخصي مغالى فيه (متضخم) ووعي سلطوي نتج عن ممارسات سلطوية سابقة. لعل الوطن عند رموز بعض هذه التكوينات مجال ممتاز لتحقيق الذات التي تعمل على إنجاز فعل سريع ونشط في المجال السياسي تواطؤا أو مع سبق الإصرار والترصد، يتخارجون مع ذاتهم ويتداخلون معها باسم الوطن الذي يحاولون أن يتصرفوا في أموره بمشيئتهم الخاصة، وعندما يصل هذا النوع إلى السلطة تظهر عليه علامات الذاتية والانغلاق والاستعلاء بصورة أكبر، ولأنه لم يعتد أن يرى غير نفسه يضطر إلى القوة والقمع لقصم معارضيه لينتهي في الأخير بالطريقة نفسها، بل تتضح فرديته في اتخاذ القرار حتى وهو في مرحلة النضال مازجا بذلك بين الوعي السلطوي المركزي والوعي النضالي. الصراع بالنسبة لهذا النوع هو الطريقة الأساسية لإعلان حضوره، ولعله يظل يعيش الصراع بشكل مستدام انطلاقا من نزعته الذاتية السلطوية التي يحاول بها استباق إمكاناته وطاقاته مقدما صوته على أنه صوت الجميع، فيترك السلطوي لديه أثرا سلبيا في النضالي والوطني ويشوهه، ولذلك هو يعيش حضور الفعل السياسي بنشاط واضح بغض النظر عن نوعية هذا الفعل، كما يعيش ضعف قدرته على الالتحام بقضايا الجماهير التي يتسع نشاطها في مجال مختلف فيضطر للتكيف معها وقتيا ريثما يتسنى له أن يجد منفذا منها فينقلب عليها ويتركها. عيب هذه الذاتية أنها تجعل نفسها الأنا والآخر، ووجودها في المجال السياسي على هذه الصفة ربما يعكس حالة انقسام تتسع خروقها مع الأيام لاسيما إذا قابلتها ذاتيات مماثلة بعيدا عن صوت الجماهير العام الذي يجدر أن تخضع له الذاتيات صغرت أم كبرت.