خلال سنة ونيف، أكثر من خمس عمليات اغتيال شهدتها مدينة العلم والعلماء والماء، غيل أبي وزير؛ هذه المدينة الوادعة الهادئة، التي تتوثّب على منطقة منبسطة بين بحر وجبال، فجوُّها يبعث في نفسك شيء من السكون والتأمل والتفكر، ولهذا كانت المدينة حاضنة للأسر الحضرمية والقامات العلمية التي أتت من وديان حضرموت وغيرها، لتتشكل على أرضها عجينة جميلة رائعة من التعايش بين أهلها ونزلائها، فكانت ثمارها يانعة، وعطاءتها كبيرة، ومسيرة إنجازاتها محفورة في مخيلة من عاش فيها، ولو لم يكن من أهلها، والشهادات تترى على هذه المميزات. في بداية السبعينات شهدت مدينة الغيل حادثة اعدام واحدة، كانت غريبة على أهلها، وظلت حكايتها حديث الركبان والأجيال، لا غرابة في ذلك، فمجال انشغال النفوس شيء آخر بعيد عن سفك الدم، بعيد عن الانتقامات، بعيد عن المشاحنات الدموية، ثمة مشاحنات نعم، بل وأحقاد وتحاسد وتباغض بين الناس، فهذا لا مفرَّ منه؛ ففي كلِّ وادٍ بنو سعد، أما أن يصل الأمر إلى القتل الذي شأنه أعظم من الحقد أو الحسد أو التباغض، فقد يعفو كل واحد عن الآخر بجهد مصلح أو يقظة إيمان وضمير، ومراجعة للخلق ليتحول من السوء إلى الحُسن، أما أن يقتل إنسان أخاه الإنسان؟ فهذا هو الفساد بعينه الذي حذّر منه الخالق، وحكى حواراً بينه وبين ملائكته، قبل خلق آدم وإنزاله إلى الأرض؛ هذا الحوار لم يكن سوى إشارة وتنبيه لئلا يقع آدم وذريته وقبائله وشعوبه في هذه المهالك المخيفة. حين تغترب المدينة، تظهر في أحيائها سلوكيات ليست فيها من قبل، ولا لها أصلٌ من تاريخها ومكوناتها، هنا؛ تعلم أنّ الحياة فيها ليست كالحياة التي تعرفها ولا المدينة التي تقطن فيها، استُورِد إليها الفساد بقضّه وقضيضه، ونخر فيها، وظهرت عليها مظاهر انحراف فكري دخيل، وهو أخطر من الانحراف الخلقي، فالثاني قد تتأتي محاصرته بالوعظ الحسن والإرشاد والحكمة في التصرف، أما انحراف الفكر والعقل فثمة صعوبة في تعديله وتقويم اعوجاجه..وأياً كان هذا الانحراف الفكري دينياً أو حزبياً أو قبلياً سمه ما أحببتَ وهويتَ واقتنعتَ؛ فهو انحراف بالغ الخطورة على السلم الاجتماعي، يحفر حفراً عميقة في أرضية المجتمع وينخر في جدرانه لترى الثقوب واضحة كلما سُدّ ثقب اتسع ثقب وخرق آخر، ولا يرقّعها إلا لطف من المولى الكريم جلّ في علاه. غيل باوزير، المكلا، الشحر، سيئون، القطن، ونحوها من مدن حضرموت التاريخ العريق، اغتربت هذه المدن الجميلة والهادئة، وازدادت غربة بتفرّقِ أهلها أوزاعاً واشتاتاً؛ تحزّب مقيت، وعصبية جاهلية، وفساد وفوضى؛ حتى كأنّك لا ترى فرقاً بين فوضى الشمال وفوضى الجنوب، وفراغ أمني مخيف! تتعجب أن تقع حادثة قتل واغتيال قربَ مركزِ شرطة، مغلق الأبواب في الصباح الباكر، أما الجنود فإما أنّهم يغطون في سبات عميق لا توقظه طلقات رصاصٍ لا يبعد عنهم سوى خطوات يسيرة!! أو أنّهم لا يقوون عن الدفاع عن أنفسهم ولا عن زملائهم، لسان حالهم تجاه من وظّفهم هذه الوظيفة المهينة: ألقاهُ في اليمِّ مكتوفاً وقال له:** إياكَ إياكَ أن تبتل بالماء! والعجيب! بساطة تفكير من وقع عليه التهديد بالقتل وهو يرى عدد من زملائه يُقتلون تباعاً، فلا يُغيّر من سير حياته وبرنامج عيشه، ولا هو يحتاط على الأقل من مغبة السقوط في بطن فتنة طلّت برأسها؛ فلما رأت فراغاً وترهلاً في السلطان، وهشاشة في النظام، وغياباً شبه تام للعدل؛ سادت الفتنة بين الناس ولسانُ حالها تصيح متجهمة: هيت لكم هيت لكم! إِنَّ للفتْنَة مَيْطاً بَيِّناً … فرُوَيْدَ المَيْطَ منها تَعْتَدِلْ فإِذَا كان عَطاءٌ فأْتهِمْ … وإِذَا كان قِتَالٌ فاعْتَزِلْ إِنَّما يَسْعَرُها جُهَّالُها … حَطَبَ النَّارِ فدَعْها تَشْتَعِلْ لنتساءل فقط بشيء من البراءة الأصلية: من الذي أوصلنا لهذه الحالة من الغربة المدنية والدينية؟ من في مصلحته نشر ثقافة القتل المحرم بدليل الوحيين المقدسين، الذَيْنِ لم يفتحا الأبواب لهكذا عمليات ينطلق أصحابها من فكر متأجج بالانتقام بصرف النظر عن من هم هؤلاء؟ ومن مدبرها ومخططها ومنفذها؟ فالقتل مطلقاً سيء بذاته.. وما دور الناس العوام والنُخب على حد سواء تجاه هكذا اغتراب؟ اللهم لطفك ورحمتك يا الله.