الموقف في لبنان هذه الأيام لا يسمح لعاقل أن يعبر عن عواطفه، ولا أن يستعرض رأيه من منطلقات ذاتية، بحجة دعم طرف مقابل الآخر، وإنما تقتضي الحكمة تناول الوضع من خلال قواعد معرفية واضحة، وسنن كونية لا يختلف بشأنها اثنان، عسى أن يكشف زاوية غمت أو يسجل بالحد الأدنى أنه بلغ ما كان يعلم لمن لم يكن يعلم، نصيحة مخلصة له. لن أدخل في تفاصيل المحكمة الدولية والقرار الظني، فقد أسهب بشأنهما الخبراء ورجال القانون الدولي عبر الصحف والفضائيات الدولية، حتى لم يعد لدى أبسط القراء والمتابعين شك بأن المراد منهما رأس حزب الله، وتدفقت المعلومات على العامة كالطوفان بدءا بوثائق ويكيليكس مرورا بشهادة توني بلير ومذكراته، وقوفا عند مذكرات بوش الابن، و وثائق الكيدورسي وموقف جاك شيراك من المرحوم رفيق الحريري، الذي لم يزد عن التلميح له بالخيانة للبنان، وآخرها المكالمة التي نسبتها مجلة ' فورين بوليسي' الأمريكية لجيفري فلتمان يوم 17/11 ، التي تضمنت سعيه بخبث ودهاء لتمزيق حزب الله عبر قرار 1757، وقبلها شهادته أمام الكونغرس الأمريكي حول مبلغ 600 مليون دولار التي رصدت لتشويه صورة المقاومة بكل الوسائل، ولا ما كشف عنه وزير الاتصالات وجهاز المخابرات اللبنانيين، حول احتلال العدو الإسرائيلي لكل الاتصالات بل والتلاعب بها إلى درجة استنساخ خطوط وشرائح قد تحمل بما يريده، ولا ما نشرته صحيفة هآرتس حول اعتماد المحكمة الدولية على مساعدات معلوماتية من شعبة 8200 للموساد، لتؤسس عليها أدلة الاتهام الظني، كل هذا وغيره يصب في اتجاه واحد بات معلوما وراسخا لدينا، ضرب المقاومة الإسلامية في لبنان، ولا يحتاج المرء لدرجة عالية من الذكاء حتى يعرف لماذا ولصالح من؟ ومفهوم جدا أن تكون الولاياتالمتحدة قائد الجوقة، ومن ورائها بريطانيا وفرنسا وألمانيا واسبانيا، جميعهم أوضح علنا الأسباب العقائدية أولا وغيرها، التي توحدهم كالبنيان المرصوص لحماية الكيان الإسرائيلي. لا يعنيني كثيرا هؤلاء لأنهم ليسوا شركاء في لبنان، بمعنى لن يمسهم سوء ولا ضرر إذا انهار لبنان، ولا يشكل خطرا على وجودهم ولا على مصالحهم تمزق هذا البلد، كما لا تعنيهم وحدته وقوته إلا من جانب ما يؤثر على العدو الإسرائيلي. هذه هي الحقيقة التي أرجو ألا يعارضني بشأنها عاقل، ولعل أقرب الأدلة زمنا على هذه القاعدة، ما ادعته حكومة فؤاد السنيورة بأنها طالبت من اليوم الأول لعدوان إسرائيل على لبنان تموز/يوليو 2006 بوقف العدوان، من أجله؟ ومن مد العدو بالذخائر حين تراجع احتياطه الاستراتيجي للخط الأحمر ؟ أليست الولاياتالمتحدة ! لم يكن يعني ساستها أشلاء الأطفال، ولا جثث العجائز فضلا عن البنى التحتية. إذن ما يدعو للقلق بشأنه هم اللبنانيون أنفسهم، ذلك أن كل خطر محدق، تنقلب نتائجه عليهم دون سواهم، والخاسر الوحيد هم اللبنانيون ومن ورائهم الأمة، وطبعا الرابح الوحيد هو العدو الإسرائيلي ومن يقف إلى جانبه. لا شك أن بعض الفرقاء في لبنان وعلى رأسهم السيد سعد الحريري رئيس الحكومة،يعتقد جازما بصحة موقفه، وملخصه الوثوق بالولاياتالمتحدة كداعم قوي، يمكن الاستناد عليه للاستئثار بالحكم، يقابله بالضرورة إمكانية استئصال شأفة حزب الله، وتجريده من سلاح المقاومة، ولبلوغ هذا الهدف المنشود كل السبل والأدوات مشروعة من حرب تموز/يوليو 2006 إلى المحكمة الدولية والقرار الظني المصطنع، وهنا مربط الفرس، لا يتسع المقام هنا لسرد أمثلة حية على من وثق بالولاياتالمتحدة، وخذلته في أحلك الظروف، بل قطعت حبالها معه حتى في الحالات الإنسانية، لعل أقربها إلى شرقنا الأوسط شاه إيران، الذي انقلبت عليه بعد أن أعطاها كلما طلبت منه، وكان أقوى حليف استراتجي لها بالمنطقة، لم يتأخر حتى في مد العدو الإسرائيلي بالبترول حين كان يدك الجيوش العربية ويحتل الأراضي ويرتكب المجازر كعادته، لكن بعد الانقلاب على الشاه قلبت الولاياتالمتحدة ظهر المجن، ليس فقط في منعه من الإقامة على أراضيها أو أراضي حلفائها، بل تجاوز الأمر إلى حرمانه من العلاج اثر مرض عضال يستدعي الوقوف إلى جانبه من الناحية الإنسانية، حتى هذه لم يحظ بها، ماذا أغناه الاستناد عليها والوثوق بها، وماذا جنى من دعمه لربيبتها إسرائيل، لا شيء سوى الخذلان والإهانة. هذا عن الوثوق بهذا الكيان الغادر،أما التوهم بدحر قوة حزب الله، فهنا لي وقفة ترتكز على معرفة ميدانية واقعية، وتجربة حية تعتمد على صبر أغوار هذا الطراز من رجال حزب الله، المسألة لا علاقة لها بالطائفية أو القطرية، وإنما بعقيدة دينية أصيلة وراسخة، زبدتها الشهادة في سبيل الله دفاعا عن الأرض والعرض هذا باختصار شديد، متى تمكنت هذه العقيدة من الرجل أو المرأة فلا شيء يهزمه هيهات، هذا الطراز من الرجال عرفته الجزائر إبان ثورة التحرير المظفرة، لن أنسى ما حييت تلكم الصورة التي انتزعتها من أحد أقطابها، وكنت أقرأ تقاسيم وجهه حين كان يروي تفاصيلها مترفعا، كان محكوما عليه بالإعدام، زج به في سجن بربروس وهو أشد سجون العدو قسوة وتعذيبا، هناك كان أحد قادة الثورة ' العربي بن مهيدي' ذلك الأسد الذي سلخت فروة شعره من على رأسه، ليبوح بأسرار إخوته المجاهدين، فأبى وقضى شهيدا، يقول الرجل: قبيل الفجر وسكون عنبر الموت يطبق على الجدران، منا النائم ومنا من يصلي ومنا من يرتل القرآن همسا، نسمع أزيز الأبواب الحديدية و قرع السلاسل، انه الإعلان الأكيد لتنفيذ حكم الإعدام بأحدنا، وكما تعلم نحن في زنزانات انفرادية، يقوم الجميع يطل من خرم الباب الحديدي، مع سؤال يملأ الكون هل حانت ساعة الرحيل ؟ يعود شريط الحياة بأدق تفاصيله بين أعيننا، هي لحظات قصيرة لا تتجاوز بضع دقائق، يملؤها بداية وقع خطى متثاقلة، وسحب السلاسل واصطكاك المفاتيح، يلعب فيها العدو على أعصابنا، هنا ترتفع الأصوات تهز جدران المعبر هزا بالتكبير والتهليل، يسارع الحراس لفتح زنزانة الشهيد المرتقب، ترتفع أصواتنا مرة أخرى ولكن بقوة أكثر نردد الشهادتين، ونهنئ ونبارك لصاحبنا، الذي يغادرنا شامخ الرأس مرفوع الهامة، يودعنا ويوصينا بالصبر وبالجزائر خيرا، مؤكدا وهو ذاهب إلى المقصلة أن النصر لابد حليفنا، ذلك وعد الله والله لا يخلف الميعاد، تدمع عينا الرجل، أسأله عن السبب فيرد بسكينة ووقار: ليتني كنت مكانه، لقد اشتقت للأحبة. هذا الرجل بعينه (رحمه الله) وضع بسجن بربروس في قبر نصفه ماء لمدة شهر، لا يمكنه الوقوف ولا التمدد، يقضي حاجته فيه، شهر كامل حتى تفتت لحمه ، لم يهزم ولم يركع والتفاصيل طويلة... هذا هو طراز رجال حزب الله، أنظر ماذا فعلوا في الجزائر، وماذا فعل بهم العدو الفرنسي الذي لا يختلف وحشية عن الأمريكي والإسرائيلي، ثم ماذا كانت النتيجة، لذلك أقول للشيخ سعد الحريري حتى هذا المعتقد -استئصال شوكتهم- غير مؤسس وغير واقعي، وآسف .. فلن يهزم رجال حزب الله وهم على هذه العقيدة أبدا، والعاقل من يضع يده بيد المنتصر حتما، خاصة إذا كان صاحب عقيدة وقيم ومبادئ، والمفلس من سلم أمره لغادر لا اخلاق له ومهزوم حتما. ' فلاح جزائري