شباب الغضب يحمل العسكرية الأولى مسؤولية القمع في تريم    أسوأ يوم في تاريخ المسجد الأقصى !    وقفتان مسلحتان في مديرية الصافية استمراراً لنُصرة الشعب الفلسطيني    تعاون الأصابح يخطف فوزاً مثيراً أمام الشروق في بطولة بيسان الكروية 2025    إيران تفوز على غوام في مستهل مشوارها في كأس آسيا لكرة السلة    المجلس الانتقالي الجنوبي يصدر بيانًا هامًا    مجلس القضاء: المطالبة بتحسين الأوضاع ليس مبررا لتعطيل العمل بالمحاكم    الرئيس الزُبيدي يشدد على أهمية النهوض بقطاع الاتصالات وفق رؤية استراتيجية حديثة    وزير التجارة يكشف في حوار مع "الصحوة" إجراءات إنعاش الريال ويعلن عن حدث اقتصادي مرتقب    القوائم النهائية للمرشحين لجائزة الكرة الذهبية 2025    قبيل مشاركته بكأس الخليج.. التعديلات الجديدة في قانون التحكيم الرياضي بمحاضرة توعوية لمنتخب الشباب    ترتيبات لاقامة مهرجان زراعي في اب    محافظ إب يدشن أعمال التوسعة في ساحة الرسول الأعظم بالمدينة    عصابة حوثية تعتدي على موقع أثري في إب    البخيتي يحذر من صراع عربي - عربي .. هذه اولى حلقاته!    رصاص الجعيملاني والعامري في تريم.. اشتعال مواجهة بين المحتجين قوات الاحتلال وسط صمت حكومي    هائل سعيد أنعم.. نفوذ اقتصادي أم وصاية على القرار الجنوبي؟    منتخب اليمن للناشئين في المجموعة الثانية    مجموعة تجارية خاصة جدا يجب أن تكون معاملتها وفقا لأحكام القانون    الصراع في الجهوية اليمانية قديم جدا    عساكر أجلاف جهلة لا يعرفون للثقافة والفنون من قيمة.. يهدمون بلقيس    إصابة 2 متظاهرين في حضرموت وباصرة يدين ويؤكد أن استخدام القوة ليس حلا    حتى لا يحتضر السياسي الاعلى كما احتضر البرلمان    وفاة وإصابة 9 مواطنين بصواعق رعدية في الضالع وذمار    محاضرات قانونية بالعاصمة عدن لتعزيز وعي منتسبي الحزام الأمني    الأرصاد الجوية تحذّر من استمرار الأمطار الرعدية في عدة محافظات    الهيئة التنفيذية المساعدة للانتقالي بحضرموت تُدين اقتحام مدينة تريم وتطالب بتحقيق مستقل في الانتهاكات    سون نجم توتنهام يصبح أغلى صفقة في الدوري الأميركي    خسارة موريتانيا في الوقت القاتل تمنح تنزانيا الصدارة    آسيوية السلة تغيّر مخططات لمى    الاتحاد الأوروبي يقدم منحة لدعم اللاجئين في اليمن    خبير طقس يتوقع أمطار فوق المعدلات الطبيعية غرب اليمن خلال أغسطس الجاري    الفصل في 7329 قضية منها 4258 أسرية    وزارة الدفاع ورئاسة هيئة الأركان العامة تنعيان الشيخ محسن عطيفة    جامعة لحج ومكتب الصحة يدشنان أول عيادة مجانية بمركز التعليم المستمر    خطر مستقبل التعليم بانعدام وظيفة المعلم    من الصحافة الصفراء إلى الإعلام الأصفر.. من يدوّن تاريخ الجنوب؟    طالت عشرات الدول.. ترامب يعلن دخول الرسوم الجمركية حيز التنفيذ    الريال اليمني بين مطرقة المواطن المضارب وسندان التاجر (المتريث والجشع)    صحيفة بريطانية : إجراءات حكومية جريئة وراء التعافي المفاجئ للعملة اليمنية    من هي الجهة المستوردة.. إحباط عملية تهريب أسلحة للحوثي في ميناء عدن    صنعاء تفرض عقوبات على 64 شركة لانتهاك قرار الحظر البحري على "إسرائيل"    دراسة أمريكية جديدة: الشفاء من السكري ممكن .. ولكن!    هيئة الآثار تنشر قائمة جديدة بالآثار اليمنية المنهوبة    موظفة في المواصفات والمقاييس توجه مناشدة لحمايتها من المضايقات على ذمة مناهضتها للفساد    تعز .. ضغوط لرفع إضراب القضاة وعدم محاسبة العسكر    اجتماع بالمواصفات يناقش تحضيرات تدشين فعاليات ذكرى المولد النبوي    مجلس الوزراء يقر خطة إحياء ذكرى المولد النبوي للعام 1447ه    الأبجدية الحضرمية.. ديمومة الهوية    لا تليق بها الفاصلة    حملة رقابية لضبط أسعار الأدوية في المنصورة بالعاصمة عدن    ( ليلة أم مجدي وصاروخ فلسطين 2 مرعب اليهود )    رئيس الوزراء: الأدوية ليست رفاهية.. ووجهنا بتخفيض الأسعار وتعزيز الرقابة    تضهر على كتفك اعراض صامته..... اخطر انواع السرطان    رجل الدكان 10.. فضلًا؛ أعد لي طفولتي!!    مرض الفشل الكلوي (15)    من أين لك هذا المال؟!    تساؤلات............ هل مانعيشه من علامات الساعه؟ وماذا اعددناء لها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لحظة حرية:ماذا بعد اسقاط النظام؟
نشر في لحج نيوز يوم 06 - 03 - 2011

يفخر اليمنيون بأنّهم يشاركون في تطوير عملية ديمقراطية سبقت بلدانا ًعربية وإسلامية لا تعرف مجتمعاتها حتى الآن، أبسط أنواع المشاركة السياسية، وتجاوزت في الوقت نفسه سقوف الممارسة الديمقراطية في معظم البلدان العربية والنامية التي تسير على طريق الديمقراطية.
و يمكن القول إنّ الديمقراطية كانت الفائز الأول في كافة المباريات الانتخابية التي شهدتها بلادنا بدءاً بانتخابات مجلس النواب عام 1993م وعام 1997م مروراً بالانتخابات الرئاسية عام 1999 وانتخابات المجالس المحلية عام 2001م والانتخابات النيابية الأخيرة عام 2003م، وانتهاء ً بالانتخابات الرئاسية لعام 2006م ، وقد جسدت هذه المباريات التي شارك فيها أكثر من سبعة ملايين وخمسمائة ألف ناخب وناخبة تحولاً تاريخياً هاماً في مسار تطور النظام السياسي في بلادنا، منذ قيام الثورة اليمنية (26 سبتمبر - 14 أكتوبر) إذ أصبحت إرادة الشعب عبر صندوق الاقتراع هي المصدر الوحيد لشرعية الحكم في اليمن باعتبار أنّ الشعب هو مالك السلطة ومصدرها.
بصرف النظر عن التجاذبات والاستقطابات الحزبية والاشكاليات التي رافقت مختلف المباريات الانتخابية، فقد شكل الاحتكام إلى صندوق الاقتراع والتسليم بحق المواطن في اختيار من يحكمه ومن يمثله في هيئات السلطة المنتخبة سلوكاً حضارياً يؤشر على تراكم متصاعد لتقاليد الممارسة الديمقراطية ، وما يترتب على ذلك من متغيرات جوهرية في بُنية الثقافة السياسية الديمقراطية التي يتم اغناؤها بقيم الحوار والانفتاح والقبول بالآخر، وبما يحقق درء المخاطر والمفاسد الناجمة عن مفاعيل رواسب الثقافة السياسية الشمولية وما تنطوي عليه من ميول نحو الفوضى التي تمهد لعودة نزعات الاستبداد والأحادية والإقصاء والتكفير والتخوين!!
ليس مطلوباً من أحزاب المعارضة التنازل عن حقها المشروع في الاختلاف مع برنامج وسياسات الحزب الذي فاز بثقة أغلبية الناخبين وهو المؤتمر الشعبي العام.. بيد أنّه ليس من حقها منعه من تنفيذ هذا البرنامج الذي اكتسب شرعيته الدستورية عبر صندوق الاقتراع، ومواصلة التحريض ضده بعد أن قال الناخبون والناخبات كلمتهم الحاسمة ، وصولا الى المطالبة باسقاط النظام من خلال الشوارع .
ولئن كانت أحزاب المعارضة قد أدمنت على التهديد بالعودة الى الشارع لاسقاط سلطة الحزب الحاكم الذي ينافسها في الانتخابات، فإنّ انتقالها إلى المطالبة باسقاط النظام الديمقراطي التعددي بدلاً من اسقاط السلطة يؤشر على دخولها في مأزق حادٍ أصبحت معه غير قادرة على تقويم الأسباب الحقيقية لعجزها وفشلها في نيل ثقة أغلبية الناخبين، حيث تلجأ إلى أقصر الطرق وهي الصراخ والعويل وإطلاق الاتهامات يميناً ويساراً بعد إعلان نتائج كل انتخابات، وصولاً إلى المطالبة باسقاط النظام كله!!
ثمّة علامات بارزة في مسار الديمقراطية الناشئة التي تشهدها بلادنا، وهي حرية التفكير وعلنية المناقشات وحرية التعبير عن الآراء والمطالب بالوسائل السلمية والقانونية، بيد أنّ الحرية والعلنية غير معصومتين على الدوام من الانحراف نحو الفوضوية، الأمر الذي يتطلب أسلوباً واقعياً في التعامل مع المنابع الفكرية والاجتماعية للميول الفوضوية في المجتمع، بصرف النظر عن عدم تجانسها.
من الخطأ الاعتقاد بأنّ الجانب الأكثر جاذبية في الفوضوية هو نزعتها المتمردة على الأوضاع والوقائع السلبية، بل إنّ الجانب الأكثر جاذبية فيها هو ثوريتها المتسمة بالجموح الفوضوي نحو سقوف مرتفعة من المطالب ذات الطابع الانقلابي تارة، ونفاذ الصبر ضد كل شيء تارةً أخرى.
وهنا تبرز أهمية الديمقراطية في التعامل مع الجانب الأول بوصفه احتياطياً مباشراً لأيديولوجيا القفز على الواقع، وما يترتب عليه من انحرافات انتهازية ، وضد الجانب الثاني بوصفه خطراً مباشراً على التطور الموضوعي للديمقراطية ، وتهديداً بالعودة إلى الشمولية والاستبداد.
بوسعنا القول ان التحليل النقدي للانحرافات الانتهازية يقودنا إلى استنتاج هام ، وهو أنّ انتشار تلك الانحرافات بقدر ما ارتبط على الدوام بمصادرة الديمقراطية وتضييق قنواتها وتعطيل أطرها وقمع الآراء وإشاعة أجواء الإرهاب الفكري في حياتنا، وخاصة ذلك الإرهاب الذي يمارسه السياسيون بدرجة رئيسية، بقدر ما ارتبط الكفاح ضدها بممارسة الديمقراطية وإشاعتها وتوسيع نطاقها في حياة المجتمع بشكل عام.
ما من شك في أنّ إرساء دعائم المناقشات الحرة بين مختلف الأفكار والآراء يُعد من الناحية العملية نقداً مباشراً للأخطاء التي ارتكبت في الماضي أثناء هيمنة الثقافة السياسية الشمولية والنزعات الدوغمائية المصابة بالوهن الذهني والتفكير المعلب ، والتي ارتبط وجودها بغياب الديمقراطية.
يخطئ من يعتقد أنّ الحرية تعني الفوضى والقفز فوق الواقع ، كما يخطئ من يحاول درء الفوضى بوضع قيود على الحرية، فمشاكل الديمقراطية لا تعالج إلا من خلال الديمقراطية نفسها، وبقدر التوجه نحو ديمقراطية أوسع بقدر التوجه أيضاً نحو مسؤولية أكبر، فلا حرية من دون ديمقراطية ولا ديمقراطية من دون حماية ولا حماية من دون سيادة القانون.
ولئن كانت إشاعة الديمقراطية وحرية التفكير والتعبير تساعد على التطور المستمر لأساليب العمل والبناء والمبادرات الإبداعية ، فإنّها تساعد أيضاً على أن تستند هذه الأساليب إلى قاعدة راسخة من التجديد المستمر لأساليب التفكير، وهي مهمة يستحيل تحقيقها من دون إشاعة أجواء الحرية في مجالات التفكير والعمل معاً.
في هذه الحالة يمكن القول إنّ تنوع الآراء في مجرى الممارسة السياسية لا يضعف وحدة المجتمع، بل أنّه يساعد على أن تكون مهمة تطوير السياسة غير خاضعة لنخب فوقية معيّنة تحتكر بصورةٍ مطلقة الممارسة السياسية.
لا ريب في أنّ الخطر الحقيقي الذي يهدد وحدة المجتمع هو ذلك الذي ينبع من افتقاد المعرفة وضياع الحقيقة وعدم القدرة على التعامل مع المتغيرات التي تحدث في الواقع والبيئة العالمية.
ويتسع الخطر على هذه الوحدة حين يتم الفصل بين الرغبات والواقع مما يقود إلى تجاهل الاتجاهات الجديدة والملموسة للتطور، وما ينجم عن ذلك من إشكاليات تنشأ بفعل تحويل الأفكار إلى نصوص جامدة وتصورات جاهزة ونهائية تعيق حركة التقدم وتشوه الممارسة وتهدد الوحدة، وحدة الأرض ووحدة المجتمع ووحدة العالم !!
في هذا السياق يدفع الفكر والممارسة السياسية ثمناً باهظاً من جراء الإرهاب الفكري الذي يولد مسوخاً من الانحرافات الانتهازية في حياتنا الفكرية والثقافية، تبدأ في أضعف حالاتها بالنصية المدرسية البليدة التي تسلب الفكر حيويته وتصيبه بالجمود العقائدي القاتل، ثمّ تنتهي في أبشع حالاتها إلى الفوضى والانحراف.
وهكذا ، يصبح الإرهاب الفكري أحد أبرز المنابع التي يعود إليها ضعف الشعور بالمسؤولية، وتكون النتيجة انسحاب المفكرين والمثقفين من ساحة المبادرات الإبداعية، أو تدجين بعضهم، باستثناء حالات نادرة يدفع أبطالها حياتهم أو حريتهم أو سعادتهم ثمناً لحقهم في التفكير الحر وإيمانهم بحرية الاختيار.
تأسيساً على ما تقدم يمكن القول إنّ الديمقراطية هي مدرسة لتعلم قيم الحوار والنقاش والاختلاف في إطار التعايش السلمي لكافة مكوّنات المجتمع المدني، وهو ما لا يمكن تحقيقه من دون ضمانات وضوابط دستورية أو قانونية تنظم وتحمي الحريات والحقوق المدنية من خطر الفوضى بما هي سلوك عدواني ينتهك الحريات والحقوق المدنية سواء جاء هذا السلوك من قبل السلطة وأجهزتها ، أو من داخل المجتمع المدني نفسه حيث يُعد سوء استخدام الحرية شكلاً من أشكال العدوان عليها وانتهاك قيمها، الأمر الذي يعلي من أهمية ودور سلطة الدستور والقانون في تنظيم العمليات الديمقراطية في إطار دولة المؤسسات الخاضعة للشرعية الدستورية.
والثابت أنّ الديمقراطية لا تكون مدرسة للتعلم من دون أن تكون هيئات الدولة التشريعية والتنفيذية المنتخبة وهيئات المجتمع المدني كالأحزاب والمنظمات غير الحكومية والصحافة ووسائل الإعلام الحرة مدارس للتعلم أيضاً، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل سيادة الفردية والعشوائية والفوضى.. فالأحزاب الخاضعة لسلطة النخب العائلية والقروية والأوليغارشيات القبلية لا تصلح لأن تكون مدارس لتعلم قيم الحرية والديمقراطية، وبالقدر ذاته فإنّ الصحف ووسائل الاعلام الخاضعة للإدارة «الدكاكينية» المنفلتة من سلطة القانون والقيم المهنية، لا تصلح لأن تكون مدارس لتعليم الصحافيين العاملين فيها قيم الحوار والاختلاف والنقاش، وإكسابهم مهارات وخبرات مهنية خصوصاً عندما ترتبط فوضى إنشاء وسائل الاعلام الحزبية والخاصة بسوء استخدام الحرية من خلال تحويلها إلى أداة للتحريض والابتزاز والكذب والتلفيق والقذف والتكفير والتخوين والإساءة إلى الكرامة الشخصية للمواطنين.
بوسعنا القول إنّ الواقع السياسي في بلادنا لا يخلو من النجاحات والأزمات والتناقضات والمصاعب بما هي نتاج موضوعي للعملية الديمقراطية التي بدأت بإرادة وطنية مستقلة ومن دون إملاءات خارجية قبل حوالي ستة عشر عاماً منذ قيام الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990م .. ولا يمكن تطوير النجاحات ومعالجة هذه الأزمات والتناقضات والمصاعب بدون إعادة اكتشاف الواقع من خلال دراسة وتحليل مصاعب التطور نحو الديمقراطية، وهو ما تعجز عن تحقيقه المراهنات الخاسرة على التدخلات الخارجية التي تعتمد دائماً مبدأ إسقاط القوالب الجاهزة ومعايير الديمقراطيات الأميركية والدنماركيةوالأوروبية على أوضاع متخلفة في بلدان الديمقراطيات الناشئةالتي تنتج موضوعياًأدواتهاالخاصةعلى نحوٍيجعلها في حال تصادم مع النمذجة والقولبة الوافدتين من خارج الواقع!
من نافل القول إنّ ثمة ميولاً عالمية للهيمنة برزت بعد انتهاء الحرب الباردة حيث برزت نظرية صدام الحضارات لصموئيل هنتجنون ونظرية نهاية التاريخ لفرنسيس فوكوياما اللتان شكلتا إطاراً أيديولوجياً للميول التي ارتبطت بتحول الليبرالية إلى مذهب محافظ جديد بعد أن أدى غياب الشيوعية كخطر يهدد الديمقراطية الليبرالية إلى تضاؤل دور ومكانة يسار الوسط في الديمقراطية الليبرالية وتنامي دور وتأثير ما تسمى الليبرالية الجديدة بمذهبها المحافظ الجديد.
والحال أنّ التحول نحو الديمقراطية، وتوسيع المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أضحى مطلباً موضوعياً في العديد من بلدان العالم وخصوصاً البلدان المتخلفة والنامية التي انغلقت على نظم شمولية مرنة أو استبدادية مطلقة، وبقدر ما وجدت هذه البلدان والمجتمعات في انتهاء الحرب الباردة وما رافقها من استقطابات أيديولوجية وعسكرية واقتصادية وأمنية مناخاً جديداً لإطلاق ميكانيزمات النمو والتحديث التي تساعدها على استخدام الحريات السياسية والاقتصادية كحوافز للتنمية والتطور واللحاق بالحضارة الحديثة، بقدر ما اصطدمت بنزعات الهيمنة التي عبرت عنها الليبرالية الجديدة ومذهبها المحافظ الجديد من خلال سعي قوى الهيمنة إلى تصدير نماذج وقوالب جاهزة للديمقراطية على نحوٍ يعرقل تقدم هذه البلدان على طريق التطور الديمقراطي والاقتصادي الطبيعي.
وإذا كانت الوصفات الجاهزة التي اعتادت المؤسسات المالية والنقدية الدولية على تصديرها بواسطة الضغوط السياسية والاقتصادية والتجارية إلى البلدان المتخلفة والنامية في إطار الإستراتيجية المسماة إعادة التكيف والتثبيت الهيكلي والإصلاح الاقتصادي بهدف فرض معايير الإدارة الاقتصادية والاجتماعية المناهضة لوظائف الدولة في البلدان الصناعية المتقدمة على الدول النامية والفقيرة التي تضطلع الدولة فيها بوظائف حيوية لا يمكن الاستغناء عنها ، فإنّ ثمة وصفات جاهزة أخرى تصدرها مؤسسات سياسية دولية بهدف تسويق معاييرالممارسة الديمقراطية في الدول المتقدمة ونقلها بصورة ميكانيكية إلى البلدان المتخلفة عبر بعثات تبشيرية في صيغة معاهد وبرامج للتدريب والتأهيل والتمويل من خلال الإستراتيجية المسماة ببرامج المساعدة على تنمية الديمقراطية، وفي مقدمتها برنامج نشرالديمقراطيةوالفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط الجديد الذي ترعاه وتموّله الإدارة الأمريكية والبرنامج الدنماركي الذي يموله الاتحاد الأوروبي!!.
لا نبالغ حين نقول إنّ الليبرالية الجديدة ومذهبها المحافظ الجديد وما تنطوي عليه من ميول للهيمنة أوجدت تناقضات في البلدان المتطورة نفسها خصوصاً بعد اكتساب نزعات الهيمنة الاقتصادية أبعاداً عسكرية تحت تأثير أحداث 11 سبتمبر 2001م، وتدشين الحرب العالمية على الإرهاب، حيث برزت معايير متعددة في ممارسة الديمقراطية، وقد تجسدت هذه التناقضات في تصادم مصالح دول الاتحاد الاوروبي التي سعت إلى التمسك بمعايير الحرية المطلقة مقابل الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين سعتا إلى إعلاء أولوية الأمن على الحرية.
ومن نافل القول إنّ الواقع السياسي في اليمن يواجه أزمات وتناقضات بسبب تفاقم سوء استخدام الحريات المدنية وانفلات معاييرها ، ولا يمكن فصل هذه الأزمات والتناقضات عن التدخلات الخارجية التي تحفز على الاستقواء بالأجنبي والتهافت على ما تسمى ببرامج نشر الديمقراطية وفق المعايير الخارجية التي تسعى الليبرالية السياسية اليمينية الجديدة إلى فرضها على بلدان الشرق الأوسط بشكل خاص ، وبلدان الديمقراطيات الناشئة بشكل عام ، بهدف جعل التحول الديمقراطي في هذه البلدان جزءاً من إستراتيجية إعادة هيكلة المجتمع الدولي وبناء نمط جديد من العَلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية الدولية بما يخدم نزعة الهيمنة التي تعد الشكل الأبرز للمذهب المحافظ الجديد على الصعيد العالمي.
وإذا كانت برامج المساعدة التي تصدرها الولايات المتحدة وأوروبا لا تخلو من النزوع نحو الاستقطابات إلا أنّها واجهت مصاعب في أوروبا الشرقية والفلبين وكوريا الجنوبية وأمريكا اللاتينية، كما أنّها تواجه رياحا ًمدمرة في الشرق الأوسط وأفريقيا ، الأمر الذي أدى إلى إفلاس الإطار الأيديولوجي لليبرالية السياسية اليمينية ومذهبها المحافظ الجديد من خلال اعتراف فرنسيس فوكوياما في مقال نشره بمناسبة الذكرى الثالثة لغزو العراق بأنّ الولايات المتحدة لا تستطيع أن تقرر أين ومتى ستحصل الديمقراطية ؟، ومؤكداً على أنّه لا يمكن للغرباء الأجانب ،أن يفرضواالديمقراطيةبما هي عملية طويلة المدى يجب أن تنتظرالنضج التدريجي للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،وهو ما تحتاجه المجتمعات المتحولة ، لترشيد الممارسة الديمقراطية ومعالجة تناقضاتها ومصاعبها من خلال معايير واقعية لا معايير ونماذج جاهزة خارجية يتم تصديرها عبر برامج تدريبية وبعثات تبشيرية !!
وبوسع المتابع للتطرف الملحوظ في مواقف وممارسات أحزاب ( اللقاء المشترك) لجهة المطالبة باسقاط النظام السياسي القائم على الديمقراطية التعددية في بلادنا إلى جانب، التشدد في المطالبة بسقوف لاحدود لها من المطالب السياسية بعيداً عن أية معايير أو ضوابط ، أن يلاحظ مدى تأثر هذا التطرف ببرامج نشر الديمقراطية التي تقوم بتسويقها أطراف دولية باتجاه تعميم ما تسمى ( الفوضى الخلاقة ) ، وهي واحدة من واحد من برامج المساعدة الأجنبية التي سخر منها فوكو ياما بما هو المرجع الذي وضع الإطار الأيديولوجي لليبرالية الجديدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي من خلال أطروحته الشهيرة "نهاية التاريخ" حيث حذر في مقالته التي أشرنا إليها سابقاً من الوهم بإمكانية صناعة الديمقراطية والإصلاحات بواسطة الفوضى الخلاقة ، مؤكداً على أنّ إرساء الديمقراطية في الشرق الأوسط سوف يتحقق بواسطة عملية طويلة المدى تنتظر نضجاً سياسياً واقتصادياً تدريجياً لتكون فاعلة ومستمرة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.