بين التحريم والتشجيع، وبين عجلة إنتاج تسير نحو التوقف وأخرى متوقفة أصلاً، وبين استعدادات تجري على قدم وساق للمواجهة وأخرى تجري على أحرِّ من الجمر للتفعيل والتأجيج، يجد المصريون أنفسهم واقعين مجدداً في «حيص بيص». هل يشاركون في العصيان؟ ولأن غالبية اتحادات الطلاب أيدت فكرة العصيان، فإن جيل الآباء نعت العصيان بأنه يقتصر على أولئك الذين مازالوا يتلقون المصروف من «بابا» أو «ماما» أو كليهما، إضافة إلى زملائهم ممن سبقوهم وتخرجوا في الجامعات لكنهم قابعون في طوابير العاطلين. وفي المقابل، ينتقد هؤلاء الجيل الأكبر الذي تربى على مبدأ «ان فاتك الميري (الحكومي) اتمرغ في ترابه». ولا يتوقف مستخدمو وناشطو «فيسبوك» و «تويتر» عن الدلو بدلوهم في شؤون العصيان وخفايا الإضراب. فبين موضح لأهداف العصيان، ومقترح لخطواته، ورافض له كفكرة من الأساس تراوح المشاركات وال «لايك» على «فيسبوك»، وال «تويت» و «ري تويت» على «تويتر». «لو قالوا لك إن العصيان المدني سيخسر مصر بليون جنيه، فالانفلات الأمني يخسر السياحة 70 بليوناً. ولو قالوا إن العصيان المدني سيهوي بالبورصة إلى الحضيض، فاعلم أن البورصة ملك لرجال مبارك وليست لنا. والأهم من كل ذلك، مبارك سرق منك 70 بليوناً»!. بلايين الجنيهات التي يخشى على ضياعها البعض جراء العصيان تتعرض هي الأخرى للتشكيك، فهناك من يؤكد على «تويتر» أنه يعارض تماماً فكرة العصيان والتوقف عن العمل مذيلاً اعتراضه بجملة بسؤال توضيحي: «وما ذنب اقتصاد الصين حتى تضربوه وتوقفوا عجلة إنتاجه؟»، في إشارة ساخرة إلى أن غالبية المنتجات في الأسواق المصرية صينية المنشأ. وإذا كانت المنتجات الصينية الرخيصة تسيطر بالفعل على السوق المصرية، فإن أفران الخبز ومحلات البقالة وعربات الخضر والفاكهة ما زالت مصرية المنشأ وتشكل محوراً مركزياً واستراتيجياً في كل بيت. هذه الأهمية دعت الكثيرين إلى المضي قدماً لتخزين ما يمكن تخزينه في البيوت خوفاً من أن تجد دعوات العصيان آذاناً صاغية لدى تلك الفئات. وتجري حالياً عمليات تكديس أرغفة الخبز، وتكويم تلال الخضروات، بل وشراء الشمع وتخزين مياه الشرب في العديد من البيوت تحسباً لأي طوارئ، سواء كانوا مع العصيان أو ضده. وبين معسكري «ضد» و «مع»، فإن محاولات البعض لتفسير الفكرة من خلال شرح تأييد الزعيم الهندي التاريخي غاندي لفكرة العصيان باعتبار أنه «حق أصيل للمواطن في أن يكون متمدناً، وينطوي على ضبط النفس، والعقل، والاهتمام، والتضحية»، إضافة إلى الاستشهاد بما فعله المصريون إبان ثورة 1919 أدَّى إلى مزيد من التخبط والضبابية. وتراوحت الردود بين «وإحنا مالنا ومال الهند؟» و «في 1919 كنا نضغط على الإنكليز. هو إحنا عندنا إنكليز الآن؟!». وعلى الرغم من عدم وجود إنكليز محتلين حالياً، لكن في مصر قوى عدة تتجاذب المشهد. فالبعض من أنصار التيارات الدينية أقنعوا سكان مناطق شعبية بأن العصيان المدني هو أسلوب جديد يتبعه العلمانيون الكفار لإقامة الدولة المدنية المناهضة للدين. والبعض الآخر يبذل قصارى الجهد لإقناع المحيطين بأن العصيان ليس كفراً، وليس معارضاً لعجلة العمل المتوقفة عن الدوران أصلاً. الطريف أن استطلاعات الرأي التي تجرى على مدار اليوم حول موقف المصريين من العصيان تتلون بلون أصحاب الاستطلاع. ففي استطلاعات المواقع ذات الطابع الديني لا تقل نسب المعارضين للعصيان عن 90 في المئة، في حين تراوح نسبة التأييد والمعارضة في المواقع منزوعة التوجهات الدينية لتقترب من المناصفة. لكن الأكثر طرافة هو روح الدعابة التي أبت أن تترك حراك العصيان يمر من دون أن تلقي عليه بظلالها، فبين مسجل لموقفه: «واحشني والعصيان المدني عنك حايشني»، وآخر معارض لموقف حزب «الحرية والعدالة» ذراع جماعة «الإخوان المسلمين» الرافض للعصيان بالتأكيد على شعارهم الإعلاني «نحمل الخير لمصر» ولكن بعد تعديله إلى «نحمل العصيان المدني لمصر»، تدور رحا المناقشات السياسية وفتاوى العصيان بين التحريم والتشجيع. انتشار مكثف في مشهد ملموس شهدت المدن المصرية والطرق السريعة انتشاراً مكثفاً للجيش المصري بصورة غير معهودة ولم يسبق لها مثيل منذ الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك في 11 فبراير/شباط من العام الماضي. رفضت القيادات الإسلامية الشائعات التي رافقت هذا الانتشار بأن هناك انقلابا وشيكا يستولي خلاله الجيش على السلطة ويعلن الأحكام العرفية، فيما أكد عسكريون أن ما يحدث يتوافق مع الدستور، وحدث مرات عديدة خلال العقود الماضية لتأمين البلاد من أخطار محدقة. فسر اللواء اسماعيل عتمان مستشار رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة ذلك بأنه يهدف لتأمين البلاد والمنشآت الحيوية بمشاركة الشرطة المدنية. بينما أكد اللواء عبدالمنعم كاطو الخبير العسكري أن نزول الجيش عقب الأحداث التي شهدتها مصر مؤخرا بعد مذبحة بورسعيد يأتي طبقاً للمهام الدستورية التي تحددها المادة 82 من الدستور، بالنص على أن القوات المسلحة لديها مهام تنظيمية ومنها السعي لإعادة الانضباط إلى الشارع. وقال إن هذا الانتشار لا يجب أن يثير علامات استفهام خاصة وأن "العسكري" أعلن عدم رغبته في الحكم ويسير نحو تحقيق مطالب الثوار وفق الإعلان الدستوري، بل يتجاوز الإعلان الدستوري بتقليص الفترة الانتقالية ونقل السلطة الى حاكم مدني منتخب. واعتبر كاطو أن الجيش يواجه حملة تشويه خارجي من خلال إثارة البعض للشكوك في دوره الوطني رغم أن الإجماع المصري على الثقة في أداء الجيش مع الشعب لا يختلف حوله أحد والدليل من سوريا معلوم. حالة خاصة ومطالب محددة اللواء محمد الدهشوري مدير جهاز المخابرات العسكرية الأسبق وصف نزول الجيش للشارع بكثافة في الفترة الحالية بأنه يمثل حالة خاصة للسيطرة على موقف محدد له مطالب محددة، فقد سبق ونزل الجيش إلى الشارع في مظاهرات الطلاب عام 1968 اعتراضاً على محاكمات قادة سلاح الطيران، وهو الموقف الذى تدخل فيه الجيش لاحتواء مطلب بعينه، وفي 1977 عندما اندلعت المظاهرات احتجاجاً على قرارات رفع الأسعار، وتم إلغاؤها، وانتهى الأمر، وفي أحداث الأمن المركزي عام 1986، نزل الجيش للسيطرة على عمليات التخريب التي نتجت عنها، وفي جميع الأحوال يثبت الجيش المصري أنه على قدر المسؤولية ويتحمل أعباء الشائعات ضده. وربط الكاتب جمال الغيطاني نزول الجيش إلى الشارع بالسعي لاستعادة الأمن الذي غاب بسبب الانفلات الذي يستهدف المواقع الاستراتيجية والمصرفية والمواجهات التي شهدتها شوارع محمد محمود والفلكي ونوبار وميدان التحرير من مصادمات، وبروز فلول الحزب الوطني في ذكرى مرور عام على موقعة الفتك بالمتظاهرين في التحرير والمعروفة إعلاميا بموقعة الجمل. ورفض الغيطاني ما ذهبت إليه خيالات البعض من إمكانية قيام الجيش بالانقلاب على الإعلان الدستوري بأنه لو كان يرغب لفعلها منذ البداية وكانت الظروف مواتية، وهذا يمثل ردا على دعاوى التحريض الخفي ضد الجيش المصري، في صورة تشبه المؤامرة. شكوك باقتراب انقلاب عسكري المهندس عاصم عبد الماجد نائب رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية قال إن نزول الجيش المصري الى الشارع بكثافة لا تشابه مع نزوله في يناير/كانون الثاني من العام الماضي أثناء أحداث الثورة المصرية مما يثير علامات استفهام كبيرة خاصة أن النزول صاحبه انفلات أمني غير مسبوق ولا مبرر وبمصاحبة أزمات يقول بعض المحللين إنها مفتعلة، ثم يأتي النزول المفاجئ لمدرعات الجيش ومصفحاته بطول البلاد وعرضها لحفظ الأمن ومساعدة الشرطة في القضاء على البلطجة. واستطرد أن هذا النزول المفاجئ يرفع أسهم التوقعات بل والشكوك في البورصة السياسية، لنجد من يحذرنا من أن الانقلاب العسكري بات وشيكاً بل بدأ بالفعل، وأننا في انتظار البيان رقم واحد الذي تعلن فيه الأحكام العرفية مع وعود كلامية بأن هذا الأمر لن يستمر طويلاً، وأن تسليم السلطة للمدنيين سيتم في موعده، بينما يذهب آخرون وفق كلام عبدالماجد إلى أن نزول الجيش الى الشارع مجرد خطة أمنية لتجنيب البلاد والعباد مخاطر العصيان المدني المزعوم، ووسط حالة من الترقب والتوتر والخوف على مستقبل البلاد واستدعاء كل كوابيس المنطقة المفزعة وسيناريوهات الدمار والفوضى والدماء والأشلاء في ليبيا وسوريا واليمن، فمصر اليوم على صفيح ساخن. بينما قال الدكتور عصام دربالة رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية "إن نزول القوات المسلحة يهدف لحماية المنشآت العامة، وتتفهم هذا التواجد الكثيف لوحدات الجيش في هذا الإطار، وأن الجماعة ترى أن الشعب المصري ينتظر من القوات المسلحة تسليم السلطة في الوقت المحدد لها دون تأخير، وتقصير الفترة الانتقالية مما يساعد على استتباب الأمن في البلاد". بينما قال السلفيون إن زيادة عدد الدبابات بالشوارع المصرية لا يفهم منها على الإطلاق إمكانية حدوث انقلاب عسكري، فالمجلس العسكري حريص على وحدة الشعب المصري وتسليم السلطة في موعدها المحدد وإجراء الانتخابات البرلمانية، وإن السلفيين لا يشكون في نوايا الدعوة الرسمية في الإعلان الدستوري وخطواته فاعلة في ذلك، فأخلاقيات الجيش المصري وتاريخه يؤكدان عدم صحة تلك الشائعات.