ذات مساء تلقى الشاب محمد حمد نبأ وفاة أمه بذعر، إذ لم يستطع تمالك نفسه من هول الكارثة التي حلت بأبناء محافظته وأصبحت أمه إحدى ضحاياها. في السنة الماضية سافر محمد لعلاج والدته في القاهرة، بعد ما أصيبت بسرطان "في الكلى"، وهناك أنصت في ذهول إلى الطبيب وهو يشرح له أن: "سبب إصابة أمك بالسرطان هو تلوث الجو". لم يكن فقط لموت أمه، بل كان خوفه لما لمسه من واقع مرير قضى على جدته وأكثر من عشر حالات "من قبيلة آل جلال" خلال الثلاثة أعوام الماضية.. ولاحقاً أزهق روح والدته. فالسرطان بات وباء يهدد معظم سكان محافظات مأربوالجوف وشبوة، ويقض مضجعهم، في حين لم ينسوا أبداً مسبباته ومصادر التلوث التي حصرها المواطنون في: "الحقول النفطية، صافر، الجنة، ريدان، واسعد الكامل". ويذكر البعض أنه "أحياناً يتصاعد دخان أسود من المصافي يلوث المدينة، وأن هذه الشركات النفطية تحرق النفط بالغاز، فيما دول الخليج تستخدم الكهرباء في عملية الحرق وللحفاظ على سلامة المواطن". هناك من تضررت مواشيه بسبب التلوث البيئي، إذ بدا ناجي محمد نجاش، الذي ينتمي لقبيلة آل حتيك، مستاءً تماماً، وهو يروي قصة تكبده شراء "3 إبر ب 25 ألف ريال للجمل، ومات واحد ونحن نراجع عند مكتب الإرشاد الزراعي، والثاني لا يزال مصاباً في رحله"، شكا ناجي عدم تجاوب المكتب في أنه "ما عمل لنا شيء ولا أحنا عارفين أيش هو عمل". تلوث البيئة أحد الأسباب صالح سبولان -أحد أطباء مستشفى الجوبة المركزي "26 سبتمبر" لمأربوالجوف- أكد أن جميع أنواع السرطان موجودة في المحافظتين وأسبابها متعددة وتلوث البيئة قد يؤثر إلى حد كبير في انتشار المرض. واعتبر الشيخ مرزوق كريَّان شيخ آل حتيك، أن مصادر التلوث هي "محرقة الغاز، لأنها قريبة ومصفاة البترول". وأضاف متحسراً: "الآن أمراض السرطان والجلطات مليان من يوم جاءت آبار النفط، والذي ما منها إلا الخسارة، والدولة لم تشترط من الشركات تأمين للبشر، أهم شي الزلط". آمال تبخرت!! بحلول عام 1996 كان معظم سكان مأرب على قناعة تامة بأن بلدتهم ستزدهر كما كانت في الماضي، وسيعم خيرها محافظات الجمهورية وبالأخص مدينتهم العتيقة، وكانت شركات التكرير قد بدأت بحرق المخزون النفطي لاستخراج البترول. ولأن المدينة تحتوي على مجموعة من الآبار النفطية وتمتلك مخزوناً كبيراً كان من المفترض أن يتمتع سكانها بحياة هادئة وغد مثمر بدلاً من كسبهم المخيف لوباء جوي ومياه ملوثة. وخلال الأربعة أعوام الماضية بلغ عدد حالات مرضى "السرطانات" التي زارت مستشفى الجوبة (80-100) حالة تقريباً، وفقاً للدكتور سبولان. وزاد: "بعض الحالات توفت وأخرى لا زالت تحمل هذا المرض"، قبل سنوات لم تكن هناك وفرة في هذه الأمراض –إن لم تكن غير موجودة- فيما تنتشر الآن أمراض (الكلى، والجهاز التنفسي، الكساح عند الأطفال، والملاريا أكثرها انتشاراً". وسد مأرب مصدر للأوبئة والأمراض وأكد سبولان بأن تحريك مياه سد مأرب الراكدة لم يحصل حسب ما تحدث البعض: "أرى أن السد مشروع فاشل ومخز للحكومة، مع أنه جاء بتمويل خارجي، وأعتبره بؤرة للنامس ومصدراً للوباء"، تحدث صالح بثقة معتبراً ذلك شهادة سيحاسب عليها. وشكا المواطنون أن سد مأرب العظيم يذهبنا إلى الجحيم، ونحن لم نستفد منه إلا جلب الأمراض بواسطة النامس (البعوض) التي تتكاثر فيه. السد بريء.. وأسماك البلطي تشهد بذلك مدير عام مشروع السد محسن بن جلال، نفى ذلك بشدة وقال بنبرة متحدية: "هذا غير صحيح، حيث وجد الآن في السد كميات من الأسماك (البلطي) استورد من السودان للحفاظ على التوازن البيئي داخل بحيرة السد". وأردف موضحاً: "أثبتت الجدوى أن الحالة البيئية مستقرة، إلا أنه عند فتح السد تتجمع المياه في بحيرات مائية صغيرة مما يؤدي إلى تجمع البعوض، وتقوم الجهات الرسمية بحملات وقائية ورش للمستنقعات". المياه الجوفية وكساح الأطفال أما المياه الجوفية فيؤكد كثيرون في مأرب أنها تحتوي على نسبة نترات عالية جداً، وتؤثر على الأطفال مسببة أمراضاً كساحية. مع هذا نرى أنه لا يزال سكان مأرب يحلمون بالماضي في زمن يحلم فيه الآخرون بالمستقبل، ويتذكرون العبارة "يمن جديد.. ومستقبل أفضل"، لكنهم بانتظار يمن قديم .. وماض أفضل، يأملون أن يعود بهم الزمن إلى ما قبل التسعينات ليمارسوا طقوسهم الزراعية ويهنؤون بجو نقي خال من الأوبئة. هذه هي إحدى معاناة أبناء محافظة مأرب، وهي دون شك يعاني منها إخوانهم في محافظتي الجوف، وشبوة المجاورتين، وهي مطروحة أمام الجهات المختصة في الحكومة لعلها تسارع إلى حلول جذرية.. وهي تستطيع ذلك إن خلصت النوايا وأدركت أن للمواطن حقاً عليها في رعايته وتوفير ما يلزمه، ليحلم بالمستقبل بدلاً من الحنين إلى الماضي.