يفرط أنصار ما يسمى الحراك الجنوبي في تقدير وجودهم على مساحة اليمن الجنوبية ، فمن الواضح أن قيادات الحراك الجنوبي في الداخل والخارج معاً تسوق على أن ( الجنوب ) خاضع بكل من فيه من بشر وحجر لتوجهاته وغاياته التي تتمثل بفك الارتباط عن الجمهورية العربية اليمنية والعودة إلى ما قبل 22 مايو 1990 م ، وهذه نظرة خاطئة تخطئها الوقائع على الأرض … هذه النظرة الخاطئة لم تأتي من فراغ ، لأنها امتداد لذات العقلية التي حكمت اليمن الجنوبي من 1967 م وحتى 1990 م ، فلقد اخضعت كل القوى السياسية والقبلية والاجتماعية والاقتصادية لمنهجية واحدة محددة في أطر ما انطلقت منه الجبهة القومية من خلال ما يسمى بثورة 14 اكتوبر 1963 م ، وهي نظرة شمولية تفرضها الأقلية على الأغلبية بالعصا الغليظة حيناً وبالقتل والسحل أحيان أكثر … البداية الخاطئة .. قال الله تعالى { أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَة بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْل زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّار اِبْتِغَاء حِلْيَة أَوْ مَتَاع زَبَد مِثْله كَذَلِكَ يَضْرِب اللَّه الْحَقّ وَالْبَاطِل فَأَمَّا الزَّبَد فَيَذْهَب جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنْفَع النَّاس فَيَمْكُث فِي الْأَرْض كَذَلِكَ يَضْرِب اللَّه الْأَمْثَال } ، أن نشوء الدولة اليمنية الجنوبية كان على مبادىء فاسدة ، جملة من الأخطاء الكثيرة هي من أسست الدولة والنظام ، هذه العقيدة الفاسدة التي تضمنت ميثاق الجبهة القومية هي من عمدت إلى اللجوء للقتل واستباحة الدماء والأعراض وكل الحقوق تحت بند النضال ضد الإقطاعيين والبرجوازيين والكهنوتيين والقبلية التي وصفت نصاً في ميثاق الجبهة القومية بالمتخلفة … بل أن المدهش في ميثاق الجبهة القومية هذا البند ( النضال من أجل وحدة وتراب أرض اليمن التي شطرها وجزئها الاستعمار الأجنبي ) ، حالة مفرطة في الجنون قدمتها عقيدة الجبهة القومية ، وإذا تأملنا في هذه العقيدة الفاسدة بمعناها ومضمونها نصل إلى نتيجة حتمية إلى كل نتائجها في تتبع المسار التاريخي من 1967 م وغيرها من المحطات حتى الوصول إلى المرحلة الحالية وما تمثله من تجرد عن الطبيعة الفكرية الصحيحة التي يرفضها ممثلي الحراك الجنوبي في هذا التوقيت المعاصر … الاستبداد في الحكم نظاماً وتشريعاً ليس هو استثناءً في اليمن الجنوبي بل هو إطار شامل لأنظمة عربية قامت على ذات النهج الفكري الاشتراكي والقومي كالعراق وسوريا ومصر والنتائج على كل هذه الأنظمة هي انعكاسات طبيعية للسياسات ذات المرجعية الخاطئة التي تخرج من الخطأ لتقع في خطأ آخر ، بتوالي مستمر للنشوء الغير صحيح شرعاً وعقلاً … الحراك .. الخراب تأمل عزيزي القارىء في حديث قيادات الحراك الجنوبي في قولهم بأن اليمن الجنوبي كان دولة مدنية منظمة فيها قيمة للمؤسسات والقانون والأنظمة التشريعية ، فلا يكاد حديث يخلو من هذا التوجه المصبوب على المسامع في خطاباتهم الجماهيرية أو في مقالاتهم أو حتى في مجالسهم ، ونحن اليوم على مسافة واحدة من تلكم الدولة اليمنية الجنوبية نقول لهم تعالوا لنتأمل في منجزات دولتكم تلك … في اليمن الجنوبي تحققت المساواة بين كل الطبقات ، عالم الدين وحافظ القرآن الكريم يساويه بائع الفودكا ، المتعلم والجاهل هما واحد ، لا يحق لك كل شيء إلا ما يريده لينيين في نظريته الاشتراكية البالية ، تحولت مدينة عدن من أجمل مدن الشرق إلى أكثر مدن العالم بؤساً ، حدث هذا في سنوات خمس وليس من خلال عشرات السنين ، تصطف جموع البشر للحصول على بطاريات منتهية الصلاحية ، وعلى أطعمة تباع من فضلات أوروبا الشرقية قد انتهت صلاحيتها أيضاً فأرواح الناس كجهاز الراديو ليست في اعتبار قيادات الدولة … كل شيء تراجع في سنوات الحكم اليمني الجنوبي ، السلطة تتحكم في الزرع والضرع والنسل ، عن أي أنموذج يتحدثون ..؟؟ ، تساءل لن نجد له إجابة عند أحد منهم ، فقط هم يعطون الشعارات المفرغة من كل شيء ، ويعجزون عن مواجهة الحقائق الدامغة ، هل ينكر أحدهم أن اليمن الجنوبي في زمنهم البغيض تحول إلى ملجأ للفقراء والمعدمين ، تحول إلى سجن كبير عندما تدخل إليه يسجل في جواز السفر كل ما دخل ليخرج منه … الجنة .. نار ما يقدمه قيادات الحراك الجنوبي من صورة مكذوبة عن الدولة التي يهدفون إلى استعادتها هي دولة لا تمثل غير العجز البشري ، كان اليمن الجنوبي مصدراً للإرهاب الدولي وما حالة الإرهابي الدولي المسمى كارلوس إلا نموذج من نماذج هذه الدولة التي اعتمدت على إرهاب الداخل والخارج ، دولة لم تعرف الاستقرار مع جيرانها من خلال سبعة وعشرين عاماً هي سنوات عمرها … لقد شكل اليمن الجنوبي على مدى سنواته جحيماً على كل من تعامل معه ، وأول من اكتوى بنار النظام هم أبناء حضرموت والجنوب اليمني فممارسات البطش والاستبداد والطغيان هي ممنهجة في عقيدة مؤسسي الدولة ، فعمليات المطاردة والتعذيب والقتل والسحل هي واحدة من الصور البشعة التي ترسم واقع تلك الدولة البائس ، فمهما حاولت القيادات في الحراك الجنوبي رسم صورة مخالفة لحقيقة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لجيل لم يعي تلكم الحقبة الزمنية … بل أن اليمن الجنوبية اعتمدت فيما يمكن تسميته ( التنمية ) على هبات وتبرعات وصدقات الدول العربية كالكويت وغيرها والصديقة كالصين وأمثالها ، بناء المدارس وشق الطرقات وبناء الجسور والسدود لن تجد له في ميزانية الدولة اليمنية الجنوبية المؤسساتية كما يزعمون لها من وجود لأن التنمية هي أمر لا يستحقه الإنسان في هذه الجنة الشيوعية ، كثير هنا من الجنون ، وكثير هنا من الإفلاس … والحراك الجنوبي في مضمونه هو الإرث لتاريخ اليمن الجنوبي ، فلن تستطيع أي قوى من مكونات الحراك الجنوبي الخروج عن هذا المضمون لأن السياق الحالي لم يجد نافذة من النوافذ لتحرير العقول من ايدلوجيات الخطايا التي وقع فيها اليمن الجنوبي سابقاً وعليه فهم مستمرون في مواصلة تغليب الأفكار المشبعة بالشبهات والحاملة لكثير من جنايات الكذب والتزوير للحقائق … جيل .. يتعاطى اعتمد الحراك الجنوبي في تعبئته على جيل صغير لم يعي مرحلة الدولة اليمنية الجنوبية ، هذه التعبئة اعتمد على حاجة جيل صغير واقع تحت مؤثرات الحاجة للقات كمنتج يمني استحوذ على حضرموت والجنوب بكل أطيافه وطبقاته ، وهذه حالة تحتاج إلى وقفة أخرى للتفكر فيها ، غير أن اللازم لهذا الجيل هو توفير حاجاته التي يجدها مع هذه الحشود الغائبة عن وعيها … سنذهب إلى ما هو أقسى من ذلك ، ففي 18 يناير 2012 م نفذ المجلس الأهلي في حضرموت مع عدد من القوى الحضرمية وقفة احتجاجية ضد ممارسات النظام اليمني تحت عنوان ( كفاية ) ، واجتمع عدد من الدكاترة والأطباء والمهندسين والمخلصين لحضرموت في تلكم الوقفة الرمزية ، عندها كان الحراك الجنوبي قد التزم بعدم إفساد الوقفة الاحتجاجية تلك ، ولكن ما حدث هو أن عناصر الحراك الجنوبي تدافعت صوب الوقفة ووصفت تلك العناصر بتعاطيها للخمور والحشيش … هذه التبعية المغيبة عن واقعها فضلاً عن تاريخها ومستقبلها ذات دلالات خطيرة لأنها تسوق لمشاريع مبهمة ، ومشاريع سياسية لا تحتمل أسقف واقعية في التعامل مع واقع الأرض سواء على صعيد الداخل أو الخارج فحالة كهذه تعتمد على التخدير والتظليل تؤشر لغياب الوعي السياسي عند قيادات الحراك الجنوبي ، بل وتعطي إشارات لمستقبل مجهول … الشعب هو الحراك مثير تعليق أحد قيادات الحراك الجنوبي مصرحاً بأن الشعب هو الحراك الجنوبي في تأكيد على أن كل الشعب مناصر لهذه القضية الجنوبية ، ولعل يوم 21 فبراير 2012 م الذي اجريت فيه انتخابات الرئاسة اليمنية وفقاً لمقتضيات المبادرة الخليجية يعطي تصوراً واقعياً للتعاطي مع هذه المسألة … ومن المسار المتتابع للحراك الجنوبي فلقد حاول منذ سنوات أن يفرض عصياناً مدنياً في عموم الجنوب اليمني إلا أنه لم يستطع تحقيق نتائج تذكر في هذا الصدد ، لذا اختاروا عصياناً مدنياً جزئياً بتوقيتات محددة ، حيث تقوم العناصر التابعة للحراك الجنوبي بمنع الناس من فتح محلاتهم ومتاجرهم والذهاب إلى أعمالهم بالتهديد واستخدام القوة أن لزم الأمر ذلك … وهذا ما حدث في يوم 21 فبراير 2012 م عندما واجه الحراك الجنوبي حقيقة مواجهة الشعب ، ففرض حالة من الفوضى لتبرير مقاطعة الانتخابات الرئاسية ، بل أن تلك العناصر قامت بتحطيم المقار الانتخابية وإتلاف البطاقات الانتخابية في مشهد موثق صورةً وصوتاً وبثته القنوات الإخبارية العالمية من أرض حضرموت والجنوب ، في تأكيد صريح على أن هذا الحراك ليس حراكاً شعبياً ، بل لا يمكن للشعب أن يتوحد بشكل مطلق تحت راية واحدة فهنالك منتمين للأحزاب اليمنية من المؤتمر الشعبي والإصلاح فضلاً عن غالبية صامتة ترفض العشوائية التي يمارسها الحراك الجنوبي وحتى النظام اليمني في حضرموت والجنوب … الغاية لا تبرر الوسيلة منذ هزيمة 1994 م وفرار قيادات الحزب الاشتراكي من الجنة اليمنية لم تعرف القضية الجنوبية تطوراً حتى خرج على الوجود ( التجمع الديمقراطي الجنوبي تاج ) في منتصف العقد الأول من الألفية ، وأن ارتكزت حركة تاج من قرارات مجلس الأمن الدولي بخصوص نتائج حرب صيف 1994 م وضمت عدداً من القيادات الجنوبية العسكرية إلا أنها لم تعتمد في نظرتها إلى قيادة الحزب الاشتراكي … فشلت حركة تاج كما فشلت العديد من مكونات الحراك الجنوبي في تصنيف القضية أهي يمنية جنوبية أم جنوبية عربية أم جنوبية مبهمة ، هذا الفشل نتج عن عدم القدرة على مواجهة حقائق التاريخ ، فتضاربت الرؤية نحو الجنوب ، فالعديد من الذين يقدمون ( الجنوب العربي ) فهم يرون أنهم ليسوا يمنيين جنوبيين ، وفي اليمن الجنوبي تقع أزمة تواريخهم التي يحتفلون بها 1963 م و 1967 م ، هذه الحالة المضطربة تدخل الحراك الجنوبي في نفق لا نهاية له … لذلك لم يجد قادة الحراك الجنوبي سوى استعادة الجزء المكون لعقلياتهم ، فالخيانة والعمالة وغيرها من الاتهامات تبرز في كل من يحاول مناقشة التاريخ ويبحث عن الرؤية الوطنية الجامعة لما بعد ما يطرح ، حتى أن الدكتور محمد علي السقاف وقع في فخ الاضطراب عندما ظهر في ندوة بمدينة المكلا الحضرمية وخلفه علمين ( جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ) و ( الجنوب العربي ) الملاحظة أن حضرموت بسلطنتي القعيطي والكثيري لم تنظم تاريخياً للجنوب العربي إنما انضمتا لاتحاد الجنوب العربي الذي كان يناقش بلورة هذا المشروع الذي اعتبرته الجبهة القومية أنه عدوها الإمبريالي … في حضرموت .. الخلاص كل ما سبق يمكن تصنيفه عند كل الحراك الجنوبي إنما هو ( شق للصف الجنوبي ) ، والحقيقة ليس شقاً فالصف الجنوبي ليس موجوداً ، فمنذ أن خرج البيض من سردابه ولدت عشرات من الهيئات واللجان والتصنيفات حتى أن الكل لم يعد يعرف أحداً ولا حتى البيض ولا عياله عدنان وعمرو فكل في فلك يسبحون ، والأهم بدلاً من توزيع الاتهامات النظر إلى حقيقة القضية ومواجهتها وإيجاد الحلول لها … أن الطبقة السياسية والاجتماعية الصامتة وخصوصاً في حضرموت ليست مع منطق العودة إلى ما قبل 22 مايو 1990 م فهذا أمر لا يمكن القبول به حتى عند العقلاء في المناطق الجنوبية الأخرى ، فهذا يعني استعادة نظام دولة أثبتت الوقائع التاريخية كلها على فشله الصريح ، لذا تظهر الحاجة إلى النظر في اعتبار العودة إلى ما قبل 17 سبتمبر 1967 م وتأسيس مخرجات صحيحة للمرحلة السياسية تكفل العدالة والحرية والمساواة ورد الاعتبار ثم التسامح والتصالح … حتى بعد كل القراءات في التاريخ هنالك حاجة ملحة لاستبدال اسم الدولة والعاصمة ، فمسمى الدولة يجب أن يكون ( دولة حضرموت الاتحادية ) والعاصمة السياسية هي مدينة ( المكلا ) وهذه الاعتبارات بما فيها حقوق الثروات وغيرها يمكن الرجوع إليها في أدبيات الافكار السياسية المقدمة من ( جبهة انقاذ حضرموت ) ، فالاجتماع والاتحاد ممكن أن يكون في حال استقام الحال الجنوبي على رؤية تحدد المستقبل على أرضية جامعة لا أرضية تفرق وتهدم وتعيدنا إلى الزنزانة الخامسة في سجن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية …