لعل وجود اليمن على أطراف الحدود العربية كان سبباً كبيراً في بعده إلى حد ما عن بؤرة الأحداث العربية، مما كان له دور كبير في ندرة المكتوب عن اليمن في المكتبة العربية، برغم ما تزخر به الحضارة اليمنية من كنوز معرفية قلما تتوافر لدول أخرى ذات رصيد كبير من التأريخ عربياً وعالمياً. من هذا المنطلق، وفي إطار من التقدير لليمن الحضارة والشعب والتاريخ، يقدم العميد سيف الدين آل يحيى الكاتب المتخصص في التاريخ الإسلامي وصاحب العديد من الكتب في فيه ومنها: (تنظيم القتال في الإسلام)، و(الحركات العسكرية للرسول الأعظم) كتابه الجديد الموسوم (اليمن في عيون البعثة العسكرية العراقية)، الذي تصدره الدار العربية للموسوعات في بيروت، والذي يقع في (347) صفحة من القطع الكبير.
في البداية يستعرض الكاتب بعض الحقائق عن الدولة اليمنية، من حيث الموقع والمساحة والسكان وهم من الزيدية (الأغلبية السكانية) والشافعية والاسماعيلية، وأقلية من اليهود. كما يتحدث عن التكوين الجيولوجي والسوابق الزلزالية لأرض اليمن وتكوينها الجغرافي المكون من: المنطقة الساحلية على البحر الأحمر ومجموعة الجزر (قمران الزبير الحنيش الكبرى الحنيش الصغرى)، والمنطقة الجبلية الغربية والتي تمتاز بشدة الانحدارات المطلة على المنطقة الساحلية (تهامة) وبها الجبال الغربية والجبال الداخلية ومنطقة الهضاب الداخلية والمنطقة الشرقية. وبرغم عدم وجود أي أنهار في اليمن إلا أنها تحتوي على شبكة كبيرة من الوديان ذات الفروع الكثيرة والأعماق الكبيرة والانحدارات الشديدة.
ويتحدث الكاتب عن أهم المدن اليمنية، ففي الوسط تقع صنعاء وعمران، وفي شمال الهضبة حوث وصعدة، وفي شرق الهضبة مأرب والبيضاء، وفي الجنوب تعزوإب، وساحلياً الحديدة والمخا. وعن الزراعة يشير المؤلف إلى الاعتماد الكلي على المطر، مع ما تيسر من أرض صالحة للزراعة. كذلك يتحدث عن المدرجات الزراعية وأهم المزروعات وهي العنب والبن والقات.
كما يتناول التكوين السكاني وتوزيعه ذو الطابع القبلي العشائري الموغل في القدم حتى قبل قيام الدولة المعينية السبئية والحميرية. ويلعب التكوين الجغرافي والجيولوجي دور كبير في التوزيع السكاني لأنه هو المسؤول عن تقسيم اليمن إلى مناطق شبه منعزلة، كما أن شيوخ القبائل كانوا حريصين على تلك النزعة الانعزالية لأنها تعزز من استقلالهم بقبائلهم، وفرض أنماط من التقسيمات الإدارية لمناطق نفوذهم القبلي.
وعن وسائل الاتصال يشير الكاتب إلى فقر شديد في تلك الإمكانات مع وجود محطة لا سلكية وحيدة في صنعاء لا يستطيع أحد الاقتراب منها بدون موافقة الإمام شخصياً، كما أنها تقع في نطاق المباني الملكية، ولا أحد غيره وقلة من حاشيته تعرف كيف ومتى تعمل تلك المحطة..؟! ثم يقدم الكتاب لمحة تاريخية عن اليمن قبل وبعد الإسلام، حيث حكمت اليمن قبل الإسلام الدولة المعينية (4000 ق م 1000 ق م) وكانت عاصمتها «معين» في وادي الجوف شرقي اليمن، والدولة الحضرمية (1060ق م 850ق م) وعاصمتها «شبوة» على وادي عرمة، والدولة السبئية (850 ق م 115ق م) وعاصمتها «مأرب»، والدولة الحميرية (115ق م 525م) وتحولت العاصمة فيها من مأرب إلى ظفار، والحكم الحبشي لليمن (525م- 575م )، وحكم الفرس لليمن (575م 632 م). وفي السنة السادسة للهجرة (628م) دخل اليمن في الإسلام على يد «أبو موسى الأشعري». وقد تعاقب على حكم اليمن سلسلة من الدول والدويلات، ومنها: الدولة الزيادية واليعفرية والصليحية والأيوبية والطاهرية، كما خضعت أجزاء من اليمن للحكم الفاطمي في مصر، ثم الاحتلال التركي العثماني لليمن الذي قاومه الأئمة الزيود حتى جاء عام 1872م وحدثت مواجهات عنيفة بين الأتراك وسلطة الإمام المتركزة في عائلة «حميد الدين» ودارت الحرب لمدة نصف قرن حتى انتصر الإمام «يحيى بن أحمد حميد الدين» في موقعة «شهارة» وعقد صلح «دعان» عام 1911م.
ومع قيام الحرب العالمية الأولى وهزيمة تركيا العثمانية، غادر الأتراك اليمن وقامت المملكة المتوكلية. ثم يتوغل المؤلف في المجتمع اليمني والذي تشكل القبيلة فيه أساس البناء الاجتماعي، حيث إن كل يمني قبلي عضواً أصيلاً في قبيلته مرتبطاً بها فردياً وجماعياً.
ويصنف الكتاب المجتمع اليمني إلى ست درجات: الدرجة الأولى وهي الأسرة الحاكمة (أسرة الإمام)، ثم السادة وهم أصحاب المناصب الرفيعة في الدولة، ثم الفقهاء وهم الطبقة المتعلمة المثقفة في المجتمع اليمني، ثم التجار والملاك وشيوخ القبائل وضباط الجيش، ثم درجة الفلاحين المزارعين والحرفيين، ثم اليهود وهم أهل الذمة.
ويشير إلى نظام الحكم في اليمن بالإشارة إلى اختلاط «الإمامة» بالملكية، فصار الإمام زيدياً وملكاً وصاحب جلالة بدون عرش ولا تاج، كما اختلط مبدأ انتخاب الإمام زيدياً بمبدأ ولاية العهد بالوراثة فسقطت بذلك الشروط الشرعية الزيدية الواجب توافرها في الإمام المنتخب. وقد كان للإمام باستمرار أربع زوجات ولديه من الأبناء الأحياء ثلاثة عشر، ومن البنات خمس. وقد تركزت السلطات المطلقة لأقاليم اليمن الأربعة (صنعاء- الحديدة- إب- تعز) في يد أربعة من أبناء الإمام تم اختيارهم بمنتهى الدقة، علاوة على كونهم وزراء في أكثر من وزارة!!، وفي هذا الصدد ينتقد المؤلف الأداء الوزاري، بل يذهب إلى أكثر من ذلك بوجود وزارات اسمية بدون نشاط (وزارة الري وزارة الصناعة وزارة الإعلام). كما لم يكن هناك إدارة مؤسسية للنشاط السياسي، وكان الحل والربط بيد الإمام وبعض مستشاريه، بعيداً عن جهات الاختصاص. وفي إطار التأريخ الصادق يذكر الكاتب ما يعتبره الميزة الوحيدة في النظام الإمامي طوال فترة وجوده في اليمن وهي الأمن والأمان، فلم يشاهد في تلك السنوات التي قضاها رئيساً للبعثة العسكرية العراقية إلا جريمتي قتل متعمد، وجريمة قطع طريق واحدة.
ثم يتناول الكتاب بعض أشكال إدارة الحكم في تلك الفترة، فيستعرض حال السجون وبيت المال ومصادر الدخل والإنفاق والعملة بالمملكة، ومكانة المرأة في المجتمع اليمني، وعادات الزواج والخطبة والمهر والعقد والزفاف والحياة العائلية في اليمن. كما يشير إلى تواضع المستوى العمراني وتردي المرافق، ومستوى الصحة العامة وانعدام المستشفيات إلا من واحدة في صنعاء مع ضعف إمكاناتها على العمل كمستشفى بشكل حقيقي. ويتناول المؤلف الوجود اليهودي في اليمن والذي بدأ على يد الملك الحميري «تبان بن أسعد أبو كرب» في القرن الخامس الميلادي.
ووصل عددهم في فترة البعثة العسكرية نحو أحد عشر ألفاً يعمل قسم كبير منهم في المهن الدنيا وإن كان القليل منهم قد عمل بمجال التجارة وعلى مستوى المملكة. وكان اليهود لا يعملون في وظائف الحكومة أو الجيش وكانوا يكتفون بدفع الجزية الشرعية نظير حماية الدولة لهم. وقد كانت لهم تجمعاتهم السكانية والمسماة ب (قاع اليهود) وهي ما يوازي أحياء «الجيتو» بأوروبا. كما يشير الكتاب إلى حرية العبادة لديهم وأعيادهم الدينية في صنعاء، ثم معاناة من ذهب منهم إلى أرض الميعاد المزعومة ومدى المهانة التي واجهتهم باعتبارهم من السفارديم (يهود المشرق) في مواجهة الأشكيناز (يهود الغرب). ثم يتناول أيضاً أحد أهم عادات المجتمع اليمني وهي «القات» باعتباره البديل الأسوأ الذي نجم عن إغلاق حانات الرذيلة مع زوال الحكم التركي لليمن، فأصبح القات هو المتنفس الأقل ضرراً على النظام الحاكم حتى لا ينفجر المجتمع في وجه إمامه.
كما يشرح المؤلف مكان انعقاد جلسات القات وشكل المجلس وكيفية انعقاده والأدوات المستخدمة (النارجيلة التبغ لفافات القات المبصقة). كما يتحدث أيضاً، وبمنتهى المرارة، عن الإعلام اليمني، فلا سينما، والتصوير شبه ممنوع، والصحافة عبارة عن جريدة شبه أسبوعية، ومجلة شبه شهرية. وعن المناسبات والأعياد والعطل الرسمية فهي عيدي الأضحى والفطر وعيد النشور (يوم الغدير) والجمعة الرجبية والعطلة الرسمية هي يوم الجمعة. إن اليمن طراز فريد من الدول العربية طال تخلفه عن الركب حتى أوشك على الضياع، ولعل فيما قدمه المؤلف في هذا العمل بعض التفسير التاريخي لتلك التجربة المريرة التي لا يأمل الكاتب أن يعانيها أي قطر عربي آخر.
* الكتاب: اليمن في عيون البعثة العسكرية العراقية * الناشر: الدار العربية للموسوعات بيروت 2007 * الصفحات: 347 صفحة من القطع الكبير * تقديم : إبراهيم بن علي الوزير