إلى وطني الذي لم أحببه إلا بأغاني أيوب. .. إلى صلاح الدين الدكاك وهوَ يغني لأيوب في عزِّ الظهير، يبكي حزناً عليه. .. إلى أيوب طارش، رمزاً، أسطورةٌ، أصلاً عميداً لا يقبلُ استنساخ. طِلع مغني..، ما الذي قد يحدث لو أنّه طلع "شيخ علم".. "يشغُب" علينا كل جمعة، بل كل يوم، وكل ما خزّن وطلعت له "الشُّحفة" أجا يفرغ خرمته علينا بتقليعاته التي لا تنتهي؟.. ما الذي سيجري لو أنهُ طلع "شيخ علم" يفهم في كلام الله ورسوله.. ويفهم في كل حاجة، ويأكل أموالنا علشان يجيب لنا سمكة؟! ما الطامة الكبرى التي ستحدث لو أنه طلع شيخ "أبو فاس".. ينفع لكل حاجة، يرقي من الميتة والدم ولحم الخنزير، ويرقي من أزيز الذباب، ونهيق الحمير، وقرص الناموس، يرقيك من رائحة اسطبل داركم، ومن وبر الثور، يرقيك من نظافة روحك، وسلامة نيتك.. ليش ما طلع شيخ.. ليش طلع فنان؟! هذا "الفاسق" الفنان، إنسان حافظ على نظافته لآخر حقبه في عمره، إنسان صبر على وجعه وشربّ حبّ هذا البلاد زيّ المرّ، هذا المارق عن دين "إخواننا في الله" هو نفسه الذي لا يقوى على مقاومته "إخواننا في الله أنفسهم" وبينما يحرمون الغناء والفن يستمعوه في سرّهم وفي جلسات قاتهم الخاصة جداً.. هو نفسه الذي يستخدموه في أعراسهم وأفراحهم، حتى مع تشديدهم على الأناشيد الإسلامية و"صلوات الله على المدني" لكنّهم لا يستقلّون عن أيوب، فهو يجري مجرى الدماء. * * * إلى بلدي حيثُ هي أشأم من "البسوس"، إلى بلدي حيثُ هيَ امرأةٌ جاحدة لا تؤمن حتى بنفسها، إلى بلدي وهيَ "أنثى عنكبوت" لا ترحم ولا تترك رحمة ربنا تنزل، إلى بلدي وهيَ تصرع أيوب بدمٍ بارد، إلى عديمي الإحساس، الذينَ يأكلونَ بملاعق الذهب، ويوقعونَ شيكاتهم بالباركر، إليهم والرياح تذروهم، إليهم ونحنُ نمقتهم إليهم ونحنُ تهدُّنا الآلامُ وتنفد دماءنا قطرةً قطرة. إليهم، وإلى أمي وهيَ تحفظ أغاني أيوب، إلى الزملاء والأصدقاء وهم يحفظونها أيضاً، إلى كل حضرمي وصنعاني وتعزي وحديدي وعدني وشبواني وصعدي، إلى كل زيدي وشيعي ومكرمي وإخواني، إليهم جميعهم أشتاتاً وحَّدهم أيوب، إلى أبناءِ هذا البلد، وهم ينقسمون.. هذا قضيته حوثية، وهذا قضيته جنوبية، وهذا قضيته حزبية، إليهم نعلنُ، أنا نحنُ معشرَ الغلابى لسنا نهتمُ لقضايا يتأبطها انتهازيوا السياسة، أن لسنا نعبأُ لشعاراتٍ لا نعرفُ صدقها من عدمه، إن قضيتنا الأكثرُ عدلاً ليست حوثية ولا جنوبية ولا حزبية.. قضيتنا أيوبية، أيوبيّةٌ وهيَ الأصدق. * * * ربما يؤمنُ البعض أنّ على أيوب أن يشبع نرجسيتهم وغرورهم في طلب المساعدة، لكنّ هذا ممل، لقد تطورت عقلية "الكبار" في العالم فأصبحَوا يسعونَ لتحقيق أحلامهم عن رغبتهم في إشعار الآخرين أنهم أكثر ذكاءً.. إلا في بلاد "الريوَس" هذه، فكبارنا كلّما ازدادت أحلامهم نجاحاً زادَ إحساسهم بالنقص، وسعوا دائماً ليشعروا الآخرين بأهميتهم وأن البلاد واقفة من دونهم..! وهذا ما يراد من أيوب.. أن يقف على أعتاب مكاتب الجهات المختصة في الطابور، أن يذهب إلى أهل من يمكنه المساعدة ليدبج المدائح النرجسية ليحصل على منحةٍ للعلاج. عارٌ على اليمن – كل اليمن – أن يصبح رمزها وأسطورتها الجبارة العظيم "أيوب طارش عبسي" مريضاً ويعزف ليتحصل ثمن العلاج..! وعارٌ على اليمن – كل اليمن – أن يصبح أيوب طارش عبسي، أستاذنا الذي علمنا العشقَ منذُ الطفولة الأليمة، الذي علمنا كيف نفهم "الفضول" لا بسهولة الكلمات، بل بعذوبةِ الصوت والإحساس، فأحاله لنا سائغاً للسامعين، ولولاه ربما لما فهمنا جملتين مما كتب الفضول، أقول عارٌ على اليمن أن يصبحَ طريح الفراش ولا من يعالجه. إن كان من حلمٍ لشابٍ يمني ينوي الزواج فهوَ أن يشرَّفه أيوب ليغني في عرسه، وإن كان من أمنيةٍ لرجلٍ في الثلاثين، فهوَ أن يخزّن مع الرجل المتواضع تخزينة، وإن كان من أمل لشابٍ موهوبٍ في المقتبل فهو أن يقبِّل أيوب في جبينه، وإن كان من أملٍ لرعويّ أو فلاح أو مواطنٍ بسيط فهوَ أن تلتقط لهُ صورة وهو برفقةِ أيوب، أو يشاهده وهو خارجٌ من صلاة العشاء بمسجد العيسائي عائداً لمنزله.. ليعودَ إلى أصدقائه وليحكي لهم كيف صافحهُ أيوب. * * * هكذا إذن، أيوب يرتِّق أزرارهُ غضبانَ أسفاً، وإن كان بي شكٌّ أنهُ يقوى على الغضب حتى، هكذا أيوب يعدِّلُ هندامهُ ليرحل دونَ أن يلتفت، لنذهلَ شاردينَ في قفاهُ وكأنما المسافةُ تنقلُ اللعنات إلى أمةٍ جاحدة.. إلى أمةٍ لا تقدِّر عظمائها.. قد يموتُ أيوب في يومٍ من الأيام، وتأكدوا أنهُ سيكونُ من أشدِّ الأيام حزناً على كلّ يمنيٍّ في البلاد، بل وربما على أشقاء لنا وما أكثرهم معجبوه، هكذا إذن، قد يرحلُ أيوب دونَ أن يكونَ من حقِّ الناس أو من حقِّ أيوب أن يُسمى شارعٌ باسمه، وأن يكون له تمثالٌ عظيم في ميدان التحرير.. قد يرحلُ أيوب وهو العظيم الذي أحبهُ اليمنيون متعلمين وجهلاء، نخبةً وشارعاً، أذكياء ودونهم.. قد يرحل دون أن يحظى قبل أن يموت ولو بأيام بأثرٍ في هذا البلد باسمه علها تكونُ بسمةً يتيمةً مقتضبة وبلا قيمة لرجلٍ أعطى بلا حدّ.. إن كان في الأمم هوميروس وأرسطو ونيوتن، إن كان فيها ماركس وماو وسايمون بوليفار، إن كان فيها مانديلا ومحمد علي كلاي، ونعوم تشومسكي.. ففينا أيوب طارش عبسي، فينا قيمةٌ أكبر من أن نقدرها حق تقديرها. دعوهُ فإنهُ خالد،