لم تستعص قضية على فهم أحد مثلما استعصى ملف "الحراك الجنوبي" على فهم اليمنيين، بمن فيهم تيارات الحراك نفسه، لذلك تنعدم القراءات التحليلية حول "الحراك" في مختلف وسائل الإعلام العربية والأجنبية، في نفس الوقت جاءت محاولات بعض المنابر اليمنية لتناول "الحراك" متأخرة كثيراً، وتفتقر إلى أهم الخلفيات التي تفسر كل تطور لاحق، فبدت كما الولادات المشوهة..! ولأننا في "نبأ نيوز" واكبنا "الحراك" منذ كان حملاً في رحم "الجنوب"، لذلك نعتقد أن "الحراك" بلغ المحطة التي يجب أن نتوقف عندها، ونتمعن في مفرداتها، بل ونسبر أغوارها حتى أدق تفاصيلها، وأسرارها التي نكشف النقاب عنها في هذه القراءة التحليلية، التي ستكشف حتى للحراك أنفسهم حقائقاً جديدة لم يسبق لهم الالتفات إليها- وهي ليست بقصد النيل من أحد، بقدر ما ترمي إلى تنوير القوى الوطنية بالحقيقة كما هي، وليس كما يريدها الآخرون! * الانفصال قاسم مشترك في الآونة الأخيرة تداعت ظاهرة ما يمكن تسميتها ب"الهيئات الانفصالية الجنوبية" بعد أن كانت من قبل تستفيء تحت مظلة "الجمعيات"، غير أن تعدد التسميات ظل يترجم تطورت الأحوال المادية لمختلف أقطاب "الحراك"، فيما كان التنوع في مصادر التمويل يترجم نفسه في الخطاب السياسي، وسقف الأهداف التي تحملها هذه التيارات، كما هو حال التحول من الدعوة إلى حقوق المتقاعدين، والعاطلين عن العمل، وإزالة آثار حرب 1994م، إلى الدعوة إلى العودة إلى ما قبل حرب 1994م، ثم الدعوة إلى العودة إلى اتفاقية الوحدة، ثم إلى ما قبل 22 مايو 1990م. فقد أصبح اليوم القاسم المشترك لجميع تيارات "الحراك" هو "الانفصال"، بذريعة حقوق الجنوب والمواطن الجنوبي في تلك المدن التي غادرتها معظم قيادات "الحراك" ولم تزل أعمدة الدخان تتصاعد من كل ركن منها، ورائحة الدماء والجثث تزكم الأنوف.. ومخلفين وراءهم لأبناء الجنوب سجل (30) عاماً من العنف اليومي، وقمع الحريات، وتأميم الممتلكات، والنفي "خلف الشمس"- على حد ما كان شائع من تعبير.. * الهيئات- أربع أم خمس اليوم تجاوز عدد الهيئات والجمعيات والمجالس التابعة "للحراك" الأحد عشر، أو أكثر.. ورغم أنها جميعاً في ظاهرها تلتقي بقاسم مشترك واحد (الدعوة إلى الانفصال)، إلاّ أنها في الحيثيات الأخرى لديها قواسم مشتركة متعددة، إذ أن ذلك محكوم بنوع الأعضاء والقيادات، وانتمائهم المناطقي والقبلي، وجهة التمويل، وتقلب الولاءات.. لذلك أينما ذهبت تجد أن الهتاف واحد، وان الأعضاء هم نفس الأعضاء، والقيادات هي نفس القيادات، وهوس الزعامة لا يغيب عن أحد، إلا أن فوارق وخلافات لا تتوقف عن الظهور بصورة دائمة، فثمة شعور بالخوف، وعدم ثقة حتى في أقرب المقربين، يسود أجواء الحراك. يُعرف عن حسن باعوم بأنه "غاوي سلطة منذ الصغر"، لذلك يسعى لجعل هيئة تنسيق منظمات المجتمع المدني الجنوبي التي يرأسها ابنه "فواز" هي الخامسة، ليس لشيء ولكن ليصبح لديه عشرة أصوات بدلا من الخمسة الأصوات وليضمن استمراره في زعامة هذه الهيئات.. وفي الوقت نفسه يدرك كلا من عبده المعطري وناصر النوبة خطورة باعوم، فيطرحون بالمقابل دخول المجلس الأعلى لجمعيات المتقاعدين كهيئة تقدم خمسة أشخاص أيضا ليضمنوا بذلك وجودهم وبشكل متوازن على الأقل. حالياً، فإن الهيئات الأربع المتفق عليها هي: 1- هيئة حركة النضال السلمي الجنوبي (نجاح) برئاسة صلاح الشنفره وستة نواب منهم د/ناصر الخبجي ومنهم نواب "رابطيين"، وهذه يسيطر عليها زخم اشتراكي بنسبة 80%، والبقية رابطة وأخرى. 2- المجلس الوطني الأعلى لتحرير الجنوب واستعادة دولته برئاسة حسن باعوم والنائب شلال علي شايع، وقد جمع هذا المجلس إصلاح واشتراكي ومستقلين وأحزاب أخرى، ولا يوجد بينهم مؤتمري واحد على الإطلاق بينما جماعة الشنفرة لا يوجد بينهم إصلاحيين. 3- الهيئة الوطنية العليا لاستقلال الجنوب، وهذه يرأسها العميد ناصر النوبة، وتضم عدداً من عناصر الأحزاب- بما في ذلك عناصراً مؤتمرية بارزة، يدعي البعض منهم إن توجيهات فوقية اقتضت ذلك، فيما البعض الآخر يقول أن غياب قيادات المؤتمر وإعلامه عن الساحة الشعبية جعل أعضاءه في مهب الريح. 4- هيئة التصالح والتسامح الوطني الجنوبي ويرأسها د/ صالح يحيى سعيد، وهي خليط من الهيئات الأخرى،. * الاشتراكي حاضر دوماً ولعل الأمر الذي لم يلتفت إليه كثيرون هو أن ما نسبته 50% ممن يمكن وصفهم ب"القاعدة الشعبية" لهذه الهيئات- من أعضائها وأنصارها- هم عبارة عن قائمة أسماء تعيد استنساخ نفسها في كل الهيئات- أي أنهم نفس الأشخاص الذين يحضرون ويشاركون في أي فعالية تقيمها أي هيئة من هذه الهيئات. لكن مع ذلك، يبقى القاسم المشترك الموجود في كل الهيئات هما عناصر "الاشتراكي" و"الرابطة"، حيث تمكنت الرابطة، رغم كونها تبدو مخترقه، من أن تخترق وبسهولة هذه الهيئات من خلال شخصيات ذات ثقل أكاديمي ومادي. فالمعروف عن شخصيات الرابطة المرونة، والقدرة على التكيف مع كل الأوضاع، وكذلك الخبرة الطويلة في فك وتركيب الهيئات بحسب ما تقتضيه مصالح الرابطة، وهي تستطيع الخروج من أي مأزق في الوقت المناسب. * الإصلاح يخطط للمواجهة أما عما ذكرته من عدم وجود إصلاحيين مع جماعات الشنفره، فذلك لان "مؤتمر الردوع" الأخير استثنى الإصلاح تماماً حتى من لجان النظام التي تفنن الإصلاح فيها، وهو ما يمكن تفسيره على أنه تنصل اشتراكي "غير رسمي" من الشريك الإصلاحي تحت مظلة المشترك. ومن هنا تؤكد مصادرنا الخاصة في "نبأ نيوز" إن الإصلاح يدرس حالياً خططاً جادة لمواجهة هذه الهيئة التابعة للشنفره، كونها ترى في الإصلاح خصماً هاماً، وهو أيضاً ينظر إليها بنفس العين. كما يلاحظ في هذه الهيئات الأربع إن ثلاثاً منها تملك جمهوراً لكنها لا تملك الأرض- أي الموقع الاستراتيجي- التي تنطلق منها، بينما تيار النائبين صلاح الشنفره وناصر الخبجي وحده من يملك الأرض التي دأب على استثمارها في قطع الطرق متى ما شاء، مستخدماً إياها كسلاح مؤثر بمواجهة السلطة، لكون الشريط المتاح أمامه ممتد من الضالع إلى لحج، وهي مساحة مثالية للمناورة. * حضرموتوأبينوشبوة أما حسن باعوم فهو لا يستطيع الرهان على حضرموت لان الحراك في حضرموت على هدنة مع المشترك بسبب قوة نفوذ المشترك فيها، لذلك لا مكان لباعوم فيها إن لم يكن المشترك معه، وكذلك الحال بالنسبة لمحافظة شبوة التي تنصاع بشكل كبير جداً للولاءات القبلية، التي يتشبث بها الجميع وينزلونها موضع الاحترام، وأحياناً القدسية، بجانب ارتباطاتهم مع السلطة- خاصة وأن رئيس مجلس الوزراء أحد أبناء محافظته.. لذلك وجد باعوم أن الرهان على شبوة خاسر لا محالة، وأن عليه شد الرحال إلى حيث يجد متنفساً للاستقطاب، وفراغاً يشغله- فكان الخيار إلى "يافع"..! أما أبين فنستطيع القول أنها ساحة مفتوحة لمختلف الأطياف، وليس حكراً لقوة الحراك أو لقوة المشترك، خاصة وأن نخب الحراك فيها محسوبة "مناطقياً" على نائب الرئيس الفريق الركن عبد ربه منصور هادي وأتباعه. وهذا يدفع بالكثيرين للمراهنة على فشل تلك النخب، وعلى رأسهم محمد علي أحمد، وعلي ناصر محمد، وحيدر العطاس أيضا وآخرين؛ حيث أن الحراك فيها ينطلق من حسابات قديمة لا علاقة لها بحقوق أو بواجبات. ومثلما تضرر الإصلاح من جماعة الشنفره، فان الاشتراكي أيضا طاله الضرر إلى حد كبير من باعوم والنوبة، وذلك أولاً: لأنهما يدعوان إلى نبذ الحزبية وانتهاء الحزب الاشتراكي، وثانيا لان الاثنين وهيئاتهما مدعومين من تنظيم "تاج" في الخارج، وخصوصا باعوم.. وهناك معلومات تفيد أن الاثنين مدعومين أيضاً من علي ناصر محمد. * تحويلات عبر "الكريمي" للصرافة مؤخراً حصل النوبة على دعمٍ غير معروف المصدر، أكدته كثرة الحوالات المصرفية التي بعث بها لأصحابه في مختلف المناطق عبر شركة "الكريمي للصرافة"، وشرع مؤخرا في توسيع نشاطه السياسي حتى وصل إلى منطقة "جحاف" في الضالع- وهي المنطقة التي كان حسن باعوم يراهن على أن بقدر ما هو سهلاً عليه بلوغها، بقدر ما هي مستعصية على غيره، مستنداً في ذلك على أن "عبده النقيب"- أحد قيادات "تاج"- هو من أبناء "جحاف"، وأسرته أسرة واسعة النفوذ في جحاف، وبالتالي فإن باعوم يعتقد أن من السهل عليه عن طريق بيت النقيب الوصول إلى جحاف. * محادثات سرية مع العطاس إن هذه التيارات "الجنوبية" لم تترك حلبة إلاّ ونقلت خلافها إليها، لدرجة أن قناة (Aden TV) وجدت من يعارضها في أوساط الحراك، إذ أنها بالنسبة للمعطري والكثيرين غير مرغوب بها، لأنها لا تذكره ولا تذكر أي نشاط لتياره، بل أنه وآخرين يعتقدون أنها تتجاهلهم عمداً، ولا تعبر إلاّ عن رأي "تاج" وحدها فقط.. كما أنها لا تمثل الجنوب ولا هيئات الحراك في الجنوب، خاصة وان الشنفره ليس على وفاق مع "تاج"، وأن ما ذكره حول "ورقة رؤية العطاس" في مؤتمر الردوع ما هو إلا من باب إغاضة النوبة الذي هو الآخر لا يتفق مع العطاس. لكن في الوقت الذي يضع البعض قدميه في ساحة رفض العطاس، فإن معلوماتنا تؤكد أن ثمة محادثات سرية بين باعوم والعطاس تم فتح قنواتها مؤخراً، وبالتزامن مع تصعيد الشنفره لخلافه مع "تاج" واتهامه لها بأنها تسعى لتشكيل جنوب آخر غير الذي ينشده هو وأصحابه.. وهو الموقف الذي يدفع البعض للتساؤل: كيف يجرؤ الشنفره على مناصبة "تاج" العداء رغم أن "تاج" يمثل أحد أهم قنوات الدعم المالي لحراك الداخل!؟
* الشنفره- محلات ذهب وتمويل خليجي هذا السؤال الذي شغلنا في "نبأ نيوز" لفترة غير قصيرة بحثاً عن إجابة له، ما لبث أن قادنا إلى معلومات في غاية الأهمية تؤكد: أن صلاح الشنفره لا يتلقى أي دعم مالي من قنوات الحراك في أوروبا، ولا من "تاج"، بل أن الدعم الذي يتلقاه قادم من جهات اغترابية في الولاياتالمتحدة وبعض دول الخليج.. كما تبين أن الشنفرة يملك تجارة خاصة في اليمن، وقد تملك منذ فترة غير بعيدة محلين لبيع الذهب في "جده" في المملكة العربية السعودية. كما قادنا البحث إلى كشف النقاب عن ترأس الشنفره لجمعية خيرية باسم (جمعية الشنفره الخيرية)، وأنها تتلقى دعماً سخياً من الخليج تحت مسمى "فعل الخير"، وقد استلمت الجمعية مؤخراً مبالغاً مالية كبيرة من نفس القنوات الخليجية تحت مسمى "معونة لعلاج حالات مرضية"، أعقبتها بأيام دفعة مالية ثانية تحت مسمى "تزويج الشباب"، وقد استفاد شاب واحد فقط من موضوع "تزويج الشباب" بعد اكتشافه سرّ اللعبة "الخيرية"، وقيامه بتفجير الخلاف مع الشنفره، ففضل الأخير لملمة الفضيحة بدفع تكاليف زواجه.. * سر خلاف الشنفره مع الإسلاميين وبوقوفنا على هذه الحقائق، يتجلى لنا سرّ توتر العلاقة بين الإسلاميين (السلفيين والإخوان المسلمين في الإصلاح) من جهة، والشنفره وجماعات الحراك من جهة ثانية.. إذ إن "الجمعيات الخيرية" التي أنشأها الحراك لتغطية نشاطه المالي، بجانب الهيئات الأخرى، ما لبثت أن تحولت إلى أحد أهم وسائل تجفيف منابع تمويل الجمعيات الخيرية التابعة للإسلاميين، وتسببت لهم أضراراً بالغة للغاية، فما كان يدفعه عدد كبير من التجار والميسورين لدعم جمعيات الإسلاميين الخيرية، بات معظمه يذهب لدعم أنشطة الحراك السياسية، وجمعياته "الخيرية"، ناهيكم عن منابع التمويل الخارجية..! وعلى الرغم من كل هذا التداخل في أوراق اللعبة- سواء بين تيارات الحراك نفسها، أو بينها وبين أقطاب اللقاء المشترك- إلاّ أن الحقيقة المهمة التي يجب إدراكها هي أن ذلك يحدث في المناطق التي يكون فيها نفوذ الحزب الحاكم في أشد حالات ضعفه، وحيث قياداته تمارس نشاطاً سياسياً مزدوجاً، أما بدوافع انتهازية، أو نتيجة مخاوف من عودة الماضي الأليم، تولدت جراء قوة التعبئة الإعلامية للحراك مقابل شلل تام بأداء المؤسسات الإعلامية للحزب الحاكم، وجهل مطبق في التعاطي مع قواعد الحرب النفسية. * المعطري يخرج خاسراً بقي أن نعرج على الدكتور عبده المعطري، فقد كان في مقدمة صفوف الحراك، لكنه حنّ إلى ماضيه القديم والى لعب الأدوار الاستثنائية، فعاد به الرفاق إلى الخلف بمقدار تسعين درجة، وهو وحده المسئول عن ذلك لكونه ترك منطقة جحاف مسرحا للآخرين وظل مترددا عن اتخاذ قرار فاصل أما معهم وأما عليهم، فخسر الجميع، وقالوا له في مؤتمر الردوع وبدون أي تردد: "كش" يا معطري!! ويرجع ذلك لعدة أسباب أولها لأنه من أسرة بسيطة لا توجد لديها إمكانيات مالية كالشنفره مثلا، وثانيا لا يستند إلى رصيد قبلي، وثالثاً لأنه لم يظهر خلافا مع أحد من الهيئات وظل على الحياد، ورابعاً لأنه انطلق من قاعدة المتقاعدين العسكريين الذين بحل مشاكلهم تشتت شملهم ولم يعد لهم وجوداً في الساحة- وهكذا هي لعبة السياسة، خاصة عندما تجري على ملعب بلد يعرّف السياسة بأنها "لعبة قذرة"!! * جيل جديد للحراك خلاصة الأمر فان معطيات كثيرة قد ضربت هيئات الحراك بمقتل، لعل أهمها: التأجيل الطويل للانتخابات؛ والانقسامات وفقدان الثقة؛ وتقاطع أجندة الخارج مع أجندة الداخل؛ ودخول المؤتمر والمشترك- دون أن يشعر احدهما بالآخر- كخصمين للحراك، وكلا وفق أهدافه ورؤاه، وما زال هناك الكثير غير ذلك! أعتقد أن الأشهر القليلة القادمة ستفرز وضعا آخراً تماما، وأرى أن في الشارع ترقباً لأدوار ومواقف سيلعبها جيل جديد يمثل خلاصة تجارب تلك القوى، وستشهد الساحة حضوراً لأبناء جبهة التحرير التي ظهرت مؤخرا كظاهرة صوتية فقط دون تواجد في الميدان، وأيضاً لجيل جديد للجبهة القومية.. ولكن مهما تعاقبت القوى وتبدلت الصور والمسميات فإن كل يوم يمضي من عمر الحراك يبعده عاماً عن هدفه المنشود..