1 كُنتُ في معتكفي بعد أنْ توقفتُ عن الكتابة لأسباب ' جيبية وَقحط بنكي مجحف ' ؛ وقررتُ أن أهدأَ قليلا ، وأستريح . إذ أنَّ هذه الثورة كنت قد أعطيتها قدرَ جهدي ، وما قد كانَ في استطاعتي ، واجتهادي ؛ وقد أخذتني كثيراً عن نفسي ، وأهلي ، وبيتي ، وأصدقائي ، وهدأةِ روحي . فقلتُ أنْ قد آنَ لها أنْ تستريح . فلقد رأتْ عيني ما لا يُرِيْح ؛ فَتَقَذَّتْ . حتى لقد أفلستُ وأنا أجاهد في الشبكة العنكبوتية . .. ورجعتُ لعادتي التي نصحني بها الطبيب . "شاهد أفلام مضحكة .. فأنتَ تعيشُ بنصف قلب ؛ والإبتعاد عن القلق ، والإجهاد النفسي ، مهم لصحتك " ! هكذا كان دائماً ينصحني . وغالباً ما أهربُ إلى الجاحظ ؛ وإلى توم و جيري !!.. ب : ... حكي عن الجاحظ أنه قال : ( ألفتُ كتاباً في نوادرِ المعلمين ، ثم رجعتُ عن ذلك . وعزمتُ على تقطيعِ الكتاب . فدخلتُ يوماً مدينةً ، فوجدتُ فيها معلماً ؛ فسلمتُ عليه ، فرَدَّ علي أحسنَ ردٍّ ، ورحبَ بي ؛ فجلستُ عنده ، وباحثته في القرءآن ؛ فإذا هو ماهرٌ فيه . ثم فاتحته في الفقه ، والنحو ، وأشعار العرب ؛ فإذا هو كاملُ الأدب .. .. فقلتُ في نفسي .. ' هذا والله مما يقوي عزمي على تقطيع الكتاب ' . وكنت في صلةٍ مستمرةٍ بهذا المعلم . وكنتُ أترددُ اليه يأستمرار . ومرةً من الأيام لم أجده في الكُتابِ ! فسألتُ عنه .. فقيلَ لي : " ماتَ له ميت ، وحزن عليه ، وجلس في بيته للعزاء ".. ... فذهبتُ إليهِ في البيتِ ؛ للقيامِ بواجبِ العزاء . وعندما دخلتُ البيتَ ، قلتُ : " أحسن الله عزاك . كل نفس ذائقه الموت . إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون . هذا الذي ماتَ أبوك "؟ فقال : " لا " . فقلت : " أأمُّك " ؟ فقال : "لا " . فقلت : " أأخوك " ؟ فقال : " لا " . فقلت : " أزوجتك " ؟ فقال : " لا " فقلت : " وَمَنْ هو منك " ؟! فقال : " حبيبتي " !.. .. فقلتُ في نفسي : " هذا أولُ المناحس " !! قُلتُ له : " سبحانَ الله ! النساءُ كثير ؛ وستجد غيرها " !! فقال : " أَوَتظن أني رأيتها " ؟! .. فقلتُ في نفسي : " وهذه منحسةٌ ثانيه " !! قلتُ له : " وكيف تعشقُ - عافاكَ الله - مَنْ لم ترَ " ؟!! فقال : " إعلمْ أني كنتُ جالساً في هذا المكان ، وانا انظرُ من الطاق ؛ إذا برجلٍ على بِرْذَونٍ وهو يقول : ' يا أُمَّ عَمْرٍ جَزَاكِ اللهُ مَكْرُمَةً رُدِّي عَلَيَّ فُؤآدِي أينَمَا كَانَا لا تَأخُذِينَ فُؤآدِي تَلْعَبِينَ بِهِ فَكيْفَ يَلْعَبُ بِالإنسَانِ إُنْسَانَا ' " ... فقلتُ في نفسي : " وهذه مَنْحَسَةٌ ثالثة ... فالفاعلُ منصوب ؛ فالشَّاعر يقول : ' أَلَسْتِ أَمْلَحُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ يَا أَمْلَحَ النَّاسِ - كُلَّ النَّاسِ - إِنسَانا ' " ! .. والمُعلِّمُ يواصلُ حديثه عن أُمِّ عمروٍ : " .. لَولا أنَّ أُمَّ عمروٍ هذه مافي الدنيا أحسن منها ؛ ما قِيلَ فيها هذا الشعر ؛ فعشقتها !.. فلما كانَ من يومين ؛ مرَّ ذلك الرجلُ بعينه ، وهو يقول : ' لَقَدْ ذَهَبَ الحِمارُ بِأُمِّ عَمْروٍ فَلا رَجِعَتْ وَلا رَجَعَ الحِمَارُ ' فعلمتُ أنها ماتت ؛ فحزنتُ عليها ؛ وأغلقتُ كُتَّابِي ، وجلستُ في الدار !.. " فقال الجاحظ : " ياهذا .. إني قد ألَّفْتُ كتاباً في نوادرِ معشركم المعلمين ؛ وكنتُ حين صاحبتك عزمتُ على تمزيقِ الكتاب ؛ ولكن الآن قد قُويَتْ عزيمتي على كتابته ونشره ؛ وأولُ ماأبدأُ به أنتَ إنْ شاءَ الله " ! ) .. فقبضَ صاحبُ الحمارِ ، والماءِ العذب ، قبضةً من حصا ، ثم ضربَ بها الأرضَ ، وقال : " لا تعلم أنكَ من المسرفين ، حتى تسمع بأخبار الرَّجُل الصَّالِح ". !.. 2 "قيلَ لوازعٍ اليشكري : " قُمْ فاصعدِ المنبرَ ؛ وتكلَّمْ " !.. فلما رأى جمعَ الناسِ ؛ حَصَرَ - لمْ يدرِ ما بفعل - فقال : " لولا أنَّ امرأتي ، لعنها الله ، حملتني على إتيان الجمعة اليوم ما جمعت ، فأنا أُشْهدكمْ أنها مني طالق ثلاثاً " قالَ الجمعُ : " شتتَ اللهُ أهلك .. ألِهذا دعوناك " 3 ووجدَ مصعبُ بن حيان نفسه محرجاً ، في مثلِ هذا الموقف ؛ إذ دُعِيَ إلى خطبةِ نكاحٍ فحصرَ - أي لم يدرِ ما يقول - فقال: " لقّنوا موتاكم قول لا إله إلا الله " ! فقالت أم الجارية ( العروس ) : " عجّلَ اللهُ موتك.. ألهذا دعوناك " ! 4 ... ودونَ شعورٍ بالحرجِ ؛ تصرف خالدُ بن صفوان ، تصرفاً مشابهاً، فإن مولى له قال : " زوّجني أمتَك فلانة " .. قال : " زوجتكها " .. قال : " أفأُدخلُ الحيَّ حتى يحضروا الخطبة " فقال : " أدخلهم " فلما دخلوا ؛ ابتدأ خالد فقال : " أما بعد، فإنَّ اللهَ أجلُّ وأعزُّ من أن يذكرَ في نكاحِ هذين الكلبين ؛ وقد زوجنا هذه الفاعلة، مِنْ هذا إبن الفاعلة " ! 5 والجاحظُ من خلال النكتةِ الساخرة، يطلعنا على ضروبٍ من السلوكِ البشري . إن ' هَبَنَّقَةَ ' وهو من مشاهير الحمقى ، أو المجانين العرب ؛ ولكن الساخرَ العظيم ، وضعَ يده وهو يوردُ أحدَ أخباره ، على حالةٍ نفسيةٍ حقيقيةٍ موجودة بيننا ! " وَهُمْ سمَّنوا كلباً ليأكلَ بعضهم ولو ظفروا بالحزمِ ما سمنَ الكلبُ " رَحِمَ اللهُ الجاحظ كأنَّهُ في اليمن ! وسامحونا