حقاً.. تمر اليمن اليوم بأدق وأصعب مراحل تاريخها المعاصر إذ يتحتم عليها أن تجتاز المأزق الذي وضعت فيه لعقود. واليمن في الواقع ليس بلدا فقيرا كما يحلو للبعض وصفه ولكنه قد تم إفقاره وإنهاك قدراته حتى أوشك على الهلاك. تسلطت عليه أنظمة شمولية طغيانية ومستبدة، تحت عباءات مختلفة وبعناوين كثيرا ما كانت برَّاقة وخادعة ، من الجمهورية والثورية والتحرر إلى الاشتراكية والشعبوية والديمقراطية.. لا تمايز فيما بينها سوى الأسماء ، فكلها في النهاية خلَّفت مجتمعا جريحا ومعاقا يئن تحت أوجاع الأمية والفقر والبطالة والعصبية والمذهبية والتطرف الايديولوجي والديني والفساد والإفساد وأخرى كثيرة ، ويحتاج الآن إلى مداوة وإعادة تأهيل. وتمر البلاد حاليا بمرحلة التحول بما يعنيه ويتضمنه هذا المصطلح من مسار معقد وطريق طويل ومضنٍ قد يمتد لعقود ، وهي صفة ملازمة لجميع عمليات التحول التاريخي التي مرت وتمر بها البلدان على مختلف أحوالها وظروفها وشروط تموضعها. إن دروس التاريخ تُعلمنا، وهو ما لم ولن يفطن له المستبدون والطغاة وأصحاب العقول الفارغة والمتصلبة ، أن الشعوب لن ترضخ طويلا وتستسلم لويلات الطغيان والاستبداد ، ولا بد لها في لحظة تاريخية أن تثور على الظلم والإملاق والاستغلال. غير أن هذا ليس إلا القسم الأول من عملية التحول الذي انطلق به اليمنيون مع ثورة فبراير من العام 2011. الشطر الثاني والاهم في عملية التحول هي مضمون عملية التحول ذاته ، عناصره ونهجه ومقومات بقائه وتطوره وديمومته.. إنه باختصار تحول عميق وواسع وجذري في الأبنية والأهداف والعمليات التي تؤثر على طريقة توزيع وممارسة الثروة والسلطة في المجتمع. وما يحتاجه اليمنيون -الآن- هو تصميم رؤية صلبة متكاملة ومتناغمة لإنجاز عملية التحول نحو مجتمع مدني ديمقراطي مساواتي حر ، وفوق كل هذا هو الابتعاد عن المشاريع الصغيرة والضيقة ، التي تحمل في طياتها مشاريع تمزيق وتجزئة وتشظٍ وحروب جديدة تخدم مبتغى وأهداف النظام القديم ، والبدء في تضميد الجراح وخلق وئام وتوافق ووفاق اجتماعي وواسع نحو بناء دولة يمنية ديمقراطية مدنية موحدة. بدأت عملية التحول في اليمن بالمرحلة الانتقالية التي تمتد لسنتين أو قد تطول أربع سنوات بحسب بنية وطبيعة وشدة الصراع بين قوى القديم والجديد. فالمرحلة الانتقالية بمعناها الاصطلاحي هي تركيبة بنية ثنائية متصارعة بين عناصر النظام القديم والجديد ، التقليدية والحداثية أو بحسب تعبير عبدالله العروي الصراع بين الحداثة والقدامة. وعلى الرغم من الإطاحة بالنظام القديم من رأس ممارسة السلطة واحتكار الثروة فإنه -أي النظام القديم- ما زال يقبض بيدين مرتعشتين -ولكن متوحشتان- على مفاصل متعددة في البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وما زال يجاهد ليس فقط لمجرد البقاء، ولكن للإطاحة بالنظام الجديد الذي ما زال في طور التشكل. وهذا هو ما ينبغي على اليمنيين استيعابه لإنجاح المرحلة الانتقالية والولوج في عملية التحول. ويعتبر مؤتمر المانحين الذي بدأ محطته الاولى في الرياض تليه المحطة الثانية في نيويورك مستوى وفعلا مهما في إنجاح المرحلة الانتقالية. لأن من شأن إنجاحه أن يوفر الأساس المادي لنجاح عملية الانتقال الصعبة تلك. وهنا لا بد القول إن اليمن تواجه مسألتين متلازمتين: الاولى تتعلق بمواجهة اليمن للدول المانحة -بحسب تعبير الكاتب السعودي يوسف الكويليت في كلمة صحيفة الرياض مطلع هذا الأسبوع- من حيث طبيعة نوايا ومصداقية وجدية بعض المانحين في مساندة المرحلة الانتقالية في اليمن. لا نشك في جدية ومصداقية الكثير من دول الجوار والدول الصديقة ، غير ان بعضها سوف يبرهن على مدى مصداقيته وجديته وحماسه لمساعدة اليمن لاجتياز المأزق خلال أشهر قلائل ليس إلا.. المسألة الثانية الاهم هي مواجهة الذات من خلال إبداء الجدية والصرامة والصلابة أثناء عملية الانتقال ، سواء من حيث بلورة الرؤية ونطاق البرامج والتدخلات وكفاءة استخدام الموارد المتاحة أو اختيار الأشخاص ذي المناصب الرفيعة فنية أكانت او سياسية، المناط بهم إنجاز تلك المهام. أما إذا ظل مبدأ التقاسم بين القوى السياسية همّا مركزيا يحرك العملية الانتقالية ويوجه مسارها وسعي كل طرف لتحقيق مكاسب سياسية على حساب الاطراف الأخرى فإننا قد نشهد إخفاقاً ذريعاً -لا سمح الله- لا تستطيع اليمن تحمّله والشفاء منه. - خبير اقتصادي يمني