مسير بالدراجات النارية لخريجي دورات التعبئة بمديرية ملحان    الجوف.. تسيير قافلة من البرتقال دعماً للمرابطين في الجبهات    رئاسة مجلس الشورى تناقش المواضيع ذات الصلة بنشاط اللجان الدائمة    وزارة الصحة تدّشن مخيمًا طبيًا للفحص المبكر عن السكري والأمراض الصدرية    "العسل المجنون" في تركيا..هل لديه القدرة فعلًا على إسقاط جيش كامل؟    مخيم مجاني لمرضى السكري من يوم غد يشمل توزيع ادوية    رئيس النمسا المحترم وسفهاء سلطة اليمن في مؤتمر المناخ    الدكتور بن حبتور يعزّي عبدالعزيز البكير في وفاة عمه    «فيفا» يرصد الإساءات ويبلغ «الإنتربول»    الوقت لا يسير لصالح الجنوب    الأرصاد لا يستبعد تشكّل الصقيع على أجزاء محدودة من المرتفعات    رونالدو يواجه خطر الإيقاف في كأس العالم 2026    الأمير الذي يقود بصمت... ويقاتل بعظمة    "وثيقة".. الرئاسي يعتمد قرارات الزبيدي ويوجه الحكومة بتنفيذها    بدء صرف راتب أغسطس لموظفي التربية والتعليم بتعز عبر بنك الكريمي    تشكيل لجنة مؤقتة لإدارة نادي الشعلة الرياضي بعدن    تسجيل 22 وفاة و380 إصابة بالدفتيريا منذ بداية العام 2025    بينها 7 منتخبات عربية.. 30 متأهلا إلى كأس العالم 2026    أفاعي الجمهورية    120 مصابا بينهم 100 ضابط في اشتباكات بالمكسيك    مريم وفطوم.. تسيطران على الطريق البحري في عدن (صور)    سفيرٌ يمنيٌّ وطنه الحقيقي بطاقة حزبه.. تحويل السفارة من ممثل للدولة إلى مكتبٍ حزبي    وسائل إعلام غربية: صنعاء كشفت الفخ الذي نصبته أمريكا وإسرائيل والسعودية في اليمن    اعتراف أمريكي: سلاح مشاة البحرية يحتاج إلى التعلم من الدروس اليمنية    عين الوطن الساهرة (3)    شعب حضرموت بطلاً لتصفيات أندية الساحل وأهلي الغيل وصيفاً لبطولة البرنامج السعودي الثانية للكرة الطائرة    تصفيات كأس العالم 2026 - أوروبا: سويسرا تتأهل منطقيا    الجاوي ينتقد إجراءات سلطة صنعاء في التعاطي مع التهديدات التي تواجهها    الشهيد أحمد الكبسي .. وعدُ الإيمان ووصيةُ الخلود    فراغ ، حياة وتجربة ناصرية    حلف قبائل حضرموت يصطدم بالانتقالي ويحذر من غزو المحافظة    قراءة تحليلية لنص "في المرقص" ل"أحمد سيف حاشد"    أمن مأرب يحبط مخططاً حوثياً جديداً ويعرض غداً اعترافات لأفراد الخلية    في رحلة البحث عن المياه.. وفاة طفل غرقا في إب    الدفتيريا تغلق مدارس في محافظة شبوة    الدفتيريا تغلق مدارس في محافظة شبوة    رئيس الوزراء بيدق في رقعة الشطرنج الأزمية    تجربتي في ترجمة كتاب "فضاء لا يتسع لطائر" ل"أحمد سيف حاشد"    حكم قرقوش: لجنة حادثة العرقوب تعاقب المسافرين ومدن أبين وتُفلت الشركات المهملة    إعلان الفائزين بجائزة السلطان قابوس للفنون والآداب    اكتشاف 570 مستوطنة قديمة في شمال غرب الصين    سعر برميل النفط الكويتي يرتفع 1.20 دولار ليبلغ 56.53 دولار    اختتام بطولة 30 نوفمبر لالتقاط الأوتاد على كأس الشهيد الغماري بصنعاء    شبوة أرض الحضارات: الفراعنة من أصبعون.. وأهراماتهم في شرقها    بوادر تمرد في حضرموت على قرار الرئاسي بإغلاق ميناء الشحر    انتشال أكبر سفينة غارقة في حوض ميناء الإصطياد السمكي بعدن    وزارة الأوقاف تعلن عن تفعيل المنصة الالكترونية لخدمة الحجاج    الأرصاد: أجواء باردة إلى شديدة البرودة على المرتفعات    معهد أسترالي: بسبب الحرب على اليمن.. جيل كامل لا يستطيع القراءة والكتابة    وديا: السعودية تهزم كوت ديفوار    المقالح: من يحكم باسم الله لا يولي الشعب أي اعتبار    الصين تعلن اكتشاف أكبر منجم ذهب في تاريخها    نمو إنتاج المصانع ومبيعات التجزئة في الصين بأضعف وتيرة منذ أكثر من عام    الإمام الشيخ محمد الغزالي: "الإسلام دين نظيف في أمه وسخة"    الحديدة.. مليشيا الحوثي تقطع الكهرباء عن السكان وتطالبهم بدفع متأخرات 10 أعوام    جراح مصري يدهش العالم بأول عملية من نوعها في تاريخ الطب الحديث    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فلسفة القتال في الإسلام


رابعاً: علة مشروعية القتال في الإسلام هو الظلم:
لو تدبرنا القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بنظرة متجددة متحررة من فهوم الآباء (العلماء) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) البقرة170،

سنجد أن فلسفة القتال في الإسلام ومشروعيته تدور حول معنى وعلة أساسية هي الظلم سواء كان ظلماً إسلامياً أو يهودياً أو مسيحياً، لا الكفر واختلاف المعتقد والدين، ولنتدبر قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }الحج39، فهذه الآية صريحة الدلالة بأن النصرة الإلهية والإذن بالقتال شرع للذين وقع عليهم الظلم بما يؤكد أن مشروعية القتال كحكم قامت على علة الظلم، و"الحكم يدور مع العلة وجوباً وعدماً" كما يقول علماء الأصول لا على علة الكفر واختلاف المعتقد والدين، ويتعزز هذا الفهم بمنهجية تفسير النص بالنص بقوله تعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}العنكبوت46، ففي هذا التوجيه الإلهي الصريح بيان لوسيلة تغيير معتقدات الآخرين بأنه الحوار والجدال بالتي هي أحسن والبلاغ والتذكير، واعتبرت هذه الآية أن الحوار والجدال هو الأصل في التعامل مع أهل الكتاب (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، والقتال والحرب هو الاستثناء لمن ظلم المسلمين من أهل الكتاب بالاعتداء عليهم (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).
وهذا الاستثناء بقتال أهل الكتاب ارتكز في القرآن على علة الظلم لا علة الاختلاف العقدي، ولم تكتف الآية ببيان وسيلة تصحيح معتقدات الآخرين وأفكارهم وهي الحوار والجدال، بل علمتنا أدب الحوار نفسه فجعلت شرط هذا الحوار أن يكون بالتي هي أحسن (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والأمر بالمجادلة بالتي هي أحسن منطوقاً دلّ على النهي عن المجادلة بالتي هي أسوأ مفهوماً كما يقول علماء الأصول إضافة إلى أداة الإستثناء حصراً وقصراً.
أليس في هذا البيان القرآني البديع دليل ساطع على احترام الإسلام لاختلاف الناس في العقائد على قاعدة حرية المعتقد والبلاغ.
ويتعزز هذا الفهم بمنهجية تفسير النص بالنص بأن البلاغ والحوار هو وسيلة تصحيح معتقدات الآخرين لا القتال والسيف بالآيات القطعية التي أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بالبيان لأهل الكتاب والبلاغ و محاورة أهل الكتاب مع الاحتجاج عليهم بما في كتبهم لا بما في القرآن فحسب، فمن الآيات التي دلت على أن الرسول صلى الله عليه وسلمقد بُعث مبيناً لأهل الكتاب ومبشراً ومنذراً، قوله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }المائدة19، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }المائدة15.
ومن الآيات القطعية الدالة على أن الرسول قد أمر بالبلاغ لأهل الكتاب لا القتال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ{67} قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{68} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{69}) المائدة.
ومن هذه الآيات نستفيد معاني جمة أهمها:
1- أن الله سبحانه وتعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ لأهل الكتاب لا بالقتال في سياق تصحيح انحرافاتهم العقائدية بما يعزز فهمنا السابق بأن إختلاف العقائد لا يوجب القتال وإنما الحوار والبلاغ.
2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم في بلاغه لأهل الكتاب ومحاورته إياهم لم يحاججهم بالقرآن وإنما بالتوراة والإنجيل لأن هذا الأسلوب هو أقوى أنواع الحجج عبر مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب بإقامة التوراة والإنجيل والعمل بما فيها لا بكتب التفسير التي كتبها الأحبار والرهبان فغطت وأخفت الكثير مما في كتب أهل الكتاب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ}المائدة68، ويتعزز هذا الفهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جادل أهل الكتاب وحاورهم بما في كتبهم لأنها حجة عليهم بقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {93} فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{94} قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{95}}آل عمران، وقوله تعالى {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }القصص49.
3- في إطار هذه الآية الآمرة للرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} نورد آيات تدل على أن مهام الرسل والرسول صلى الله عليه وسلم في إطار إختلاف العقائد هو مجرد البلاغ والتذكير والإنذار والتبشير لا مقاتلة الآخرين حتى يسلموا بقوله تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }النور54، فهذه الآية دلت دلالة قطعية بأن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم في إطار تصحيح المعتقدات الخاطئة هو مجرد البلاغ فحسب و (ما) النافية وأداة الإستثناء (إلا) تفيد الحصر والقصر كما يقول علماء اللغة، حتى وإن أعرضوا من بعد البلاغ فمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي مجرد البلاغ والتذكير بدليل قوله تعالى بمنهجية تفسير النص بالنص {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}الشورى48، أي إن أعرضوا بعد البلاغ والحوار والمجادلة والتذكير والبيان فقد أديت واجبك ولم ترسل عليهم وصياً وحفيظاً، ويتعزز هذا الفهم بقوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ{21} لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ{22}) الغاشية، وقوله تعالى:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ }ق45، فهذا التواتر بالإستدلال بالآيات وربط بعضها ببعض يدل دلالة قاطعة على أن الحوار والبلاغ والتذكير هو وسيلة التفاهم لاختلاف المعتقدات لا القتال.
4- كما أن هذه الآيات التي أكدت أن الرسول صلى الله عليه وسل مبلغ أهل الكتاب وحاورهم وذكرهم تدل دلالة قاطعة على عدم صحة رأي العلماء الذين قالوا بأن آية السيف قد نسخت آيات المجادلة بالتي هي أحسن والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لأن مثل هذا الزعم ينفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حاور أهل الكتاب وبلّغهم والقرآن أكد ذلك كحقيقة تاريخية قام بها الرسول وعندئذ يغدو القول بنسخ آيات الحوار والبلاغ بمثابة التكذيب للقرآن لا مجرد نسخ حكم آية بحكم آية أخرى لأن النسخ يمكن أن يتم على الآيات التي هي بمثابة أحكام نظرية مجردة لا على الآيات الخبرية التي أكدت قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بعملية الحوار والبلاغ فعلياً.
خامساً: النهي القرآني الصريح عن إستخدام القتال كأداة لتغيير معتقدات الناس وأديانهم واعتبار ذلك نوعاً من أنواع الظلم :
من خلال الربط الموضوعي بين آيات القتال بعضها ببعض كموضوع واحد يتعزز فهمنا السابق للقتال في الإسلام ولحرية المعتقد والبلاغ وكيف أن الإسلام إعتبر البلاغ والحوار وسيلة الدعوة لا القتال والحرب من خلال الآيات القرآنية الصريحة التي وردت في سياق ذم قتال الآخرين بسبب عقائدهم وإيذائهم عبر إخراجهم من ديارهم وهدم دور عبادتهم في قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ{39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ{40}) الحج، فهذه الآيات البينات نستفيد منها عدة معاني وأحكام شرعية أهمها:
أ‌- أن مشروعية القتال في الإسلام وفلسفته تقوم على علة وقوع الظلم على الآخرين لا علة الكفر والإيمان كما هو الفهم التقليدي الشائع (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).
ب‌- تصريح هذه الآيات بأن مقاتلة الآخرين وإيذائهم عبر إخراجهم من ديارهم بسبب إختلاف عقائدهم هو نوع من أنواع الظلم الذي يوجب النصرة الإلهية عبر سنة التدافع (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
فالمقصود بالصوامع كما يقول علماء التفسير صوامع الرهبان التي يعتزلون فيها للعبادة والبيع هي كنائس النصارى والصلوات هي كنائس اليهود والمساجد هي مساجد المسلمين.
وبهذه الآيات البينات يتضح بأدلة قطعية أن مقاتلة الآخرين لإكراههم على تغيير معتقداتهم وإخراجهم من ديارهم وهدم دور عبادتهم يعتبر نوع من أنواع الظلم الذي لا يقره الإسلام بما يعزز فهمنا السابق إلى درجة القطع بأن الإسلام قائم على حرية المعتقد واحترام الأديان الأخرى وأن القتال ليس وسيلة من وسائل الدعوة وأداة من أدوات تغيير معتقدات الآخرين عبر الإكراه وإنما الحوار والبلاغ والمجادلة بالتي هي أحسن، أو بمعنى آخر أن القتال لم يشرع إلا للمحافظة على حرية الناس ديناً ونفساً وعقلاً ومالاً وعرضاً وأرضاً ويتعزز هذا الفهم بمنهجية تفسير القرآن بالقرآن بقوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة8.
فصريح هذه الآية فيه أمر إلهي بمعاملة أهل الكتاب وغيرهم بالبر والقسط والقبول بالتعدد العقائدي والديني في إطار الدولة الإسلامية طالما أنهم لم يعتدوا على المسلمين بالقتال بما يؤكد ما أسلفناه من أن القتال لم يشرع إبتداء وإنما لرد إعتداء (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) وإذا إنتفت العلة إنتفى الحكم فإذا لم يقاتلونا لم يأمرنا الله سبحانه وتعالى بعدم الإعتداء عليهم فحسب وإنما معاملتهم أحسن معاملة (أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
ويتعزز فهمنا لهذه المعاني القرآنية القائمة على إحترام عقائد الآخرين وعلى القبول بالتعدد الديني في إطار دولة الإسلام من خلال النهي عن إخراجهم من ديارهم (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) بالسنة العملية للرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم التي كانت ترجمة عملية لهذه المعاني القرآنية حيث حافظوا على حرية اليهود والنصارى في كنف الدولة الإسلامية وقامت الدولة الإسلامية على أساس التعدد العقدي والمحافظة على حرية المعتقدات إبتداء من دولة المدينة التي قامت على أساس الصحيفة والوثيقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة التي أقرت تعدد الأديان في دولة المدينة حتى أن من ضمن ما ورد في صحيفة المدينة (المسلمون واليهود أمة من دون الناس) فهذه الصحيفة هي أول وثيقة سياسية تقوم على أساس التعدد الديني والمواطنة المتساوية ولم يقاتل الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة إلا بعد خيانتهم للمسلمين وتحالفهم مع قريش ضد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة بما يعتبر خيانة وطنية ونقضاً للعهد، وسيتم التطرق إلى هذه الوثيقة بالتفصيل في الحلقات القادمة إنشاء الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.