اتصلت بي لألتقي بها في سوق عام. إنها مفاجأة أن ألتقي حبيبتي التي غابت عني فترة طويلة، لم أصدق أنني سألتقيها مرة أخرى .. إنها حبيبتي (....)!! لم أتردد فقد ذهبت فوراً إلى مكان الموعد وأخذت ما يكفيني من النقود وقلت سوف أشتري لها الهدايا وما تريده مني سوف أعطيها، المهم أنها وافقت أخيراً على أن تلقاني بعد فراق طويل. آه كم كانت قاسية، وصلت إلى السوق واتصلت بها: إنني في السوق .. أنتظرك، فردت: انتظرني بالبوابة رقم واحد. جلست على أريكة "استراحة" وبعد لحظات بدت تسير نحوي ومعها عدة فتيات أخريات، وتجاوزتني دون أن تحدثني ولم أجرؤ أنا على التحدث إليها، وصعدت مع الأخريات إلى الطابق العلوي من السوق وبعد لحظات اتصلت: يا حبي الغالي أنا بتزوج، وقد أتيت مع البنات لشراء فستان الزفاف. وشعرت بأن الأرض كأنها تميد وأنني قد أصابني صعق وذهبت في شبه غيبوبة وكنت أسمعها تقول: ألو ألو ألو .. وأخيراً: نعم أسمعك. هل انصدمت؟ لماذا عجزت عن الكلام؟ وقلت: لست أدري. وقطعت حديثي: انظر إلى الأعلى إنني أراك الآن من خلف الزجاج من الطابق العلوي. ورفعت بصري ورأيتها تمسك بيدها وردة بيضاء من القماش تقف بجانب فساتين الزفاف المنصوبة في معرض الأزياء. وقلت: تعالي يا شمسي ويا قمري اهبطي إلي أريد أن ألمس جسدك. لا استطيع معي فتيات وأنا خلاص مرتبطة فقط استدعيتك لألقي عليك نظرة الوداع الأخيرة. وقلت لها: النظرة الأخيرة يلقونها مع الورد على "ميتي المسيح" فهل مت أنا من عواطفك. تلعثمت ولم تستطع الرد وتابعت أنا حديثي : إذاً ألقي تلك الوردة من يدك على جسدي المنحط على هذه الأريكة فاليوم هو يوم موتي وأنا الميت الوحيد الذي أحس بوفاته ورأى مودعيه. وتلعثمت كأنها تريد أن تبكي وأغلقت الهاتف ، وصعدت أنا إلى الطابق العلوي ووقفت خلف زجاج المعرض ورأيتها هي وصديقاتها يعبثن بأيديهن الفساتين البيضاء لعلهن يجدن شيئاً مناسباً، وساورني الحزن وأخذت أكفكف دموعي في جفوني خوفاً أن تسقط على وجنتي. لقد ندمت أشد الندم وكدت أن أصرخ وأقول: لا إنها لي، إنها حبيتي لاتأخذوها مني، لاتسلبوني أحلامي. ولكن صرخاتي تبددت بداخلي ولم يسمعها أحد سواي، واستسلمت للحزن الذي كسا وجهي مثل سحابة سوداء، وبعد لحظات تخلصت من صديقاتها بحجة أنها تريد الاتصال من كبينة قريبة، وخرجت ثم اتصلت وقد ابتعدت عني نازلة في سلم السوق الآلي وقالت: الحق بي. لم أتريث وبسرعة تبعتها إلى خارج السوق حتى أحسسنا أننا في أمان، استدارت ودلفت تحييني واتبعتها بكلمة وقعت على رأسي كالصاعقة: حبيبتي (....) وداعاً وأغرورقت عيناها بالدموع. وتجمد الدم في عروقي وتلبكت ولم أدر هل أواسيها أم أواسي نفسي المنهارة، لم أحبس دمعي هذه المرة فقد انساب منهمراً. كنت أريد أن أعاتبها ولكنها كبلتني بعبارة بسيطة وكأنها قرأت ما سأقوله لها: أنت السبب تأخرت كثيراً ... وانتظرتك طويلاً فكنت كالتائهة في مفترق طرق وكنت أترقب متى سيظهر غبار خيلك وتردفني وراءك ونذهب إلى عالم أحلامنا، ولكن أتى فارس غيرك. انهمرت دموعها مرة أخرى بغزارة وتمتمت: وداعاً، هذه آخر مرة أراك فيها. - آه خذي هذه الهدية كذكرى - لا - أرجوك - عيب -أتوسل إليك . قبلتها بعد دموع ساخنة ذرفتها عيناي ومن ثم سلمت علي وعادت أدراجها إلى السوق فأوقفتها بكلمات تفوهت بها في وداعها: مهما بعدت مني سيبقى حبك بقلبي محفوراً كالنقش على الحجارة في معبد أثري ولكنني سأكون مثل معبد مهجور في صحراء لا يعلم أحد بقيمته وما يحتويه من نقوش ثمينة ولم يجد من يمسح التراب من جدرانه. نعم سأكون أنا ذلك المعبد المهجور الذي لا يحمل بجدرانه وأعمدته غير نقوش محفورة لأسمائك وألقابك المحببة إليه. تنهدت في حزن شديد وواصلت خطواتها وتوارت: واستسلمت لدموعي في مكاني كالأطفال وشبهت نفسي بسفينة تحمل اسم الحب والسلام وترتسم على أشرعتها ألوان الربيع الزاهية والورود الباسقة تحمل على متنها براعم الحب وبراءة الطفولة وكانت تبحر في طريقها إلى مرفأ الأحلام. ولكن هاجمتها العواصف والأمواج فتحطمت أشرعتها وغرقت قبل أن تصل وتهاوت إلى قعر البحر ومعها براعم الحب وأحلام الطفولة وانتهى كل شيء وماتت كل الآمال. ومت أنا بين أحياء يرونني ولكني غادرت هذا العالم. وأنشدت شعراً أرثي به نفسي : لقد دعتني إلى حتفي وكانت نهاياتي *** جف نبعي .. تلاشت ابتساماتي دوت صرخاتي وصاحبت دموعي آهاتي *** ادفنيني بيديك تكرمي في مواراتي وضعي على قبري ورداً من مزهرياتي *** بأنامل يديك خطي على قبري مرثاتي