(إنه حزن الفراق ولا اعتراض على حكم الله لاسترداد وديعته) كان لوقع وفاته في الحلق غصة، وفي الصدر زفرة، وفي القلب خفقة، وحسرة ودمع في الأحداق حرة. المحطة الاخيرة من المشهد (ماقبل الخاتمة) (شهادة حسن سيرة وسلوك وصك براءة ذمة). كان مشهداً مهيباً يوم شيع جثمانه الطاهر ليوارى الثرى في مثواه الأخير في مقبرة الشيخ عثمان المنصورة بجوار قبر أخيه الاصغر (أحمد) الذي ما انفك عن التعلق به كحاله مع إخوته الآخرين وأبنائه أطال الله في أعمارهم .. كان مشهد الجنازة ومن ورائهم صغار القوم وكبارهم القادمون من شتى أطراف عدن وغيرها من مدن البلاد لتوديع أحد اعلام عدن البارزين: العراسي محمود عبدالله (ابي عبدالله) الذي توفاه الله يوم اختاره إلى جواره صباح الأربعاء الموافق 9 / 5 / 2012م، كان يبعث للرجل (رحمه الله) شهادة حسن السيرة والسلوك وصك براءة ذمة مصحوبان بشكر وتقدير المشيعين له على ما تجشمه من أجلهم من عناء وما قدمه لمدينتهم عدن من خدمات ويبث له عرفانهم بالجميل ووفاءهم لجميله بالرد عليه بما هو أجمل منه. أولاً: المحطة الأولى: حصاد العمر على الصعد الدراسية والوظيفية والسياسية (العمل والموقف المسؤول منه واجب ايماني وشرعي واخلاقي واجتماعي ووطني والمسؤولية مغرم لا مغنم، تكليف لا تشريف والتضحية من مقتضيات الواجب الوطني والإنساني والتواضع من سمة وشيم الكبار). أبو عبدالله: سليل أسرة كانت على درجة وسطية ومن اليسر وعلى درجة موازية في مساعدة المعوزين من الأسر الفقيرة ذلك ما يحتفظ به أرشيف ذاكرتي عنها فهو الابن الذي شرب بعضاً من عصارة عراس وبعضاً من عصارة (قعطبة) في دمه ورضع من لبن عدن في طفولته حتى شب عن الطوق واكتمل منها وفيها شبابه، أنهى دراسته بكلية عدن (سابقاً) البيومي (لاحقاً) عبود حالياً في العام 60 / 61م، تقريباً والتحق في العام 61 / 62م، في سلك التدريس لفترة قصيرة انتقل منه للعمل لدى مكتب الإدارة العامة لدى شركة شل للبترول وفي هذه الفترة التحق بالعمل الوطني مكان عضو رابطة قيادية للجبهة القومية لتحرير الجنوب المحتل لمدينة عدن ثم رفع إلى عضو شعبة قيادية في مدينة عدن خلال فترة الكفاح المسلح (63 /67م)، وبعد انتزاع الاستقلال الوطني في نوفمبر 1967م، كلف بترؤس شركة النفط الوطنية ومنها النقل بعد أعوام قليلة إلى وزارة خارجية اليمن الجنوبية الشعبية للعمل فيها مديراً عاماً للشؤون المالية الإدارية ومن ديوان عام هذه الوزارة انتقل لاحقاً إلى سلكها الدبلوماسي الخارجي للعمل قنصلاً عاماً للدولة لدى جمهورية اندونيسيا وعاد منها إلى ديوان الوزارة ومنها انتقل للعمل مديراً عاماً لمطار عدن الدولي لعدة سنوات وعاد بعدها ثانية إلى ديوان عام الخارجية ومنها انتقل مرة أخرى إلى الخارج سفيراً مقيماً للجمهورية لدى الجماهيرية الليبية وغير مقيم لدى مالطا، وعلى اثر انتهاء مهمته الدبلوماسية الرسمية في منطقتي الاعتماد المذكورتين عاد إلى البلد ورفع إلى عضوية اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وعين محافظاً لمحافظة حضرموت لعدة سنوات ومن بعدها محافظاً لمحافظة عدن العاصمة الجنوبية لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وإثر إعلان قيام الوحدة بين العاصمة الجنوبية والجمهورية العربية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 90م، عين وزيراً للسياحة في أول حكومة لدولة الوحدة ومن بعدها عين عضواً للمجلس الاستشاري للدولة وكان هذا آخر موقع عمل رسمي له حتى وافته المنية يوم الأربعاء الموافق 9 / 5 / 2012م. تلكم كانت السيرة الذاتية للعراسي محمود عبدالله على الصعد الدراسية والحكومية والحزبية وخلالها شارك العراسي أبناء مدينته شظف العيش وضنك الحياة حيث كانت كما هي عليه اليوم فقد كان واحداً ممن بقوا لها من القلة القليلة من رموزها في معمة الأحداث التي عصفت بهذه المدينة الحضارية المسالمة وبأبنائها على مدار نصف قرن من عمرها عرف خلالها بمزاياه التالية: عشقه لمدينته وحبه لوطنه، تعففه عن الاستخدام الشخصي للمال العام، صرامته مع نفسه في الصرفيات من المال العام، جديته وقلقه وتفانيه في عمله ومسؤولياته، أمانته واخلاصه لالتزاماته وواجباته الرسمية، صرامته حيال الاساءة في استخدام المال العام، عطفه على ذوي الاحتياجات الخاصة من الأسر الفقيرة، شفافيته في علاقته بمرؤوسيه دأبت على التنقل بين المكتب ومواقع النشاط الميداني للعمل، لقاؤه واختلاطه بالعمال على مختلف مستوياتهم الاجتماعية والوظيفية دون تأفف أو استصغار أو تعال، ميله إلى الاستسناس بمشورة المختصين من مرؤوسين دون استنكاف، عدم محاباته للمقربين له في الشأن العام، جلده وصبره في مواجهة وتحمل المحن التي ألمت بشخصيه وبمدينة عدن وبالوطن الجنوبي ككل في المنعطفات السياسية المختلفة التي شهدها الجنوب منذ حرب التحرير وحتى ما قبل وفاته وتسعفني الذاكرة في هذا السياق، للاشارة إلى أنه في الثالث عشر من يناير 86م، كان قد عرض حياته للخطر بتحديه لازيز الرصاص وأجيج المدافع وبالخروج إلى مسرح ومواقع الأحداث الدموية التي شهدها الجنوب في ذلك اليوم وبعده لتحمل مسؤوليته على رأس محافظة عدن لتقديم ما يمكن له تقديمه من مساعدة للمواطنين الاحياء منهم والقتلى ممن قضوا نحبهم من كلا الطرفين المتقاتلين حتى طاله الاختطاف من قبل أحد طرفي الصراع وكادوا ينفذون فيه الاعدام لولا مشيئة الله التي اسعفته بمنقذ من نفس فريق الخاطفين لاقناعهم باطلاق سراحه بعد ان اثنى عليه وعلى دوره في الساحة الوطنية وتبرئته له من لعب أي دور لصالح أي من طرفي الصراع (أليس الله لطيفا بعباده الصالحين). ثانياً: (المحطة الثانية): حصاد العمر السيرة الذاتية على الصعد الشخصية والعائلية والاجتماعية (العزاء في مواريث العمل وخلفه الاولاد الصالحين) على الصعيد الشخصي: (الآخرون مصدر السعادة) كان دمث الاخلاق، بشوش الوجه حسن النوايا، صديقا للجميع. على الصعيد العائلي: (إيثار الاخوة والأولاد على النفس) كان أباً روحياً ومرجعاً لإخوانه، وكان حريصاً على مساعدة الارحام وإن لم تكن مشاغله تسمح له بالاكثار من زيارتهم وكان صديقاً حميماً لأولاده ورب أسرة على درجة جيدة من التعليم والثقافة والانسجام والتفاهم والتآلف والترابط العائلي. على الصعيد الاجتماعي: (الرياضة فن وأخلاق) كان صاحب موهبة رياضية لعب ضمن الفريق الأول لنادي الشباب المحمدي (آل ، واي،ام، تي) لكرة القدم بمنطقة الشيخ عثمان وانتقل من هذا النادي عند حله إلى نادي شباب القطيعي الرياضي لكرة القدم بمنطقة كريتر، وكان من أرقى وأفضل لاعبي وسط الميدان على مستوى جميع الفرق الرياضية لكرة القدم في عدن لفترة ما قبل الاستقلال الوطني. ويشهد للعراسي (محمود) رحمة الله عليه انه كان يتمتع بين أقرانه من لاعبي كرة القدم بدرجة عالية من الاخلاق الرياضية وبرقة المشاعر في تعامله معهم في الملاعب وبالنعومة في لعبه وبالمهارات الفردية التي لا يتميز بها إلا كبار اللاعبين المحترفين في مثل هذا النوع من الرياضة ذات الشعبية العالمية الدائعة الصيت عن سواها من الأبواب الرياضية الأخرى. الخاتمة: (مسك في الآخرة، كما كانت عليه في الدنيا ان شاء الله) ذلك هو العراسي محمود عبدالله الذي عرفته شخصياً عن كثب بحكم القرابة والصداقة خلال سنوات عمره بل وبحكم النضال المشترك في العهد الاستعماري وخلا مسيرة الدولة الوطنية الجنوبية المستقلة وما اعتراها من أحداث سياسية منذ نوفمبر 1967م، وحتى اندماجها في المشروع السياسي الموحد للدولة الجنوبية والدولة الشمالية في إطار دولة الوحدة اليمنية تحت يافطة الجمهورية اليمنية .. فمناقب الرجل رحمه الله كثيرة ومن كثرتها ينسى الإنسان تذكر بعضها الآخر .. وان رحت تجتهد في البحث عن أي مآخذ على الرجل إن وجدت فإنك عبثاً تفعل ولن تجد منها إلا بعض ما لابد للإنسان أن يقع فيها من المآخذ الصغيرة بحكم حياة ابن آدم الخطاء أمام ما يحمل له الكثيرون أو الغالبية ممن عرفوه من أطابيب الذكر فنعم الاخلاق التي كان يتمتع بها، ونعم السيرة التي خططها لنفسه بين أهله واصدقائه ومجتمعه، وطوبى له المقام الذي نسأل الله عز وجل ان يهبه أياه بين الصالحين في جنة الرضوان بالفردوس الأعلى جزاء وثواباً لصالح اعماله وعزاؤنا أنه إذا كان الدهر قد غيبه عنا فإنه قد أبقى له اطايب الذكرى، وأبقى لنا معها ميراثه من العمل وخلفه الاولاد الصالحين. ونسأل الله تعالى: ان يلهم أهله وأقاربه واصدقاءه المحبين ونحن منهم جميعاً ومعهم بالصبر والسلوان. (إنا لله وإنا إليه راجعون) 18 / 5 / 2012م