الإعلامية مايا العبسي تعلن اعتزال تقديم برنامج "طائر السعيدة"    الصحفي والمناضل السياسي الراحل عبدالرحمن سيف إسماعيل    ميسي يتربّع على قمة رياضيي القرن ال21    الحكومة ترحب ببيان الخارجية السعودية وتؤكد أن استقرار حضرموت والمهرة أولوية وطنية قصوى    استثمار سعودي - أوروبي لتطوير حلول طويلة الأمد لتخزين الطاقة    الأميّة المرورية.. خطر صامت يفتك بالطرق وأرواح الناس    باكستان تبرم صفقة أسلحة ب 4.6 مليار دولار مع قوات حفتر في ليبيا    ويتكوف يكشف موعد بدء المرحلة الثانية وحماس تحذر من خروقات إسرائيل    أرسنال يهزم كريستال بالاس بعد 16 ركلة ترجيح ويتأهل إلى نصف نهائي كأس الرابطة    قتلى وجرحى باشتباكات بين فصائل المرتزقة بحضرموت    شرعية "الروم سيرفس": بيع الوطن بنظام التعهيد    تركيا تدق ناقوس الخطر.. 15 مليون مدمن    الجنوب العربي: دولة تتشكل من رحم الواقع    بيان بن دغر وأحزابه يلوّح بالتصعيد ضد الجنوب ويستحضر تاريخ السحل والقتل    ذا كريدل": اليمن ساحة "حرب باردة" بين الرياض وأبو ظبي    حضرموت.. قتلى وجرحى جراء اشتباكات بين قوات عسكرية ومسلحين    نيجيريا.. قتلى وجرحى بانفجار "عبوة ناسفة" استهدفت جامع    سلامة قلبك يا حاشد    الأحزاب والمكوّنات السياسية تدعو المجلس الرئاسي إلى حماية مؤسسات الدولة وتحمل مسؤولياته الوطنية    المدير التنفيذي للجمعية اليمنية للإعلام الرياضي بشير سنان يكرم الزملاء المصوّرين الصحفيين الذين شاركوا في تغطية بطولات كبرى أُقيمت في دولة قطر عام 2025    الصحفي المتخصص بالإعلام الاقتصادي نجيب إسماعيل نجيب العدوفي ..    ذمار.. مقتل مواطن برصاص راجع إثر اشتباك عائلي مع نجله    النائب العام يأمر بالتحقيق في اكتشاف محطات تكرير مخالفة بالخشعة    الجزائر تفتتح مشوارها بأمم إفريقيا بفوز ساحق على السودان"    تعود لاكثر من 300 عام : اكتشاف قبور اثرية وتحديد هويتها في ذمار    ضبط محطات غير قانونية لتكرير المشتقات النفطية في الخشعة بحضرموت    شباب عبس يتجاوز حسيني لحج في تجمع الحديدة وشباب البيضاء يتجاوز وحدة حضرموت في تجمع لودر    مؤسسة الاتصالات تكرم أصحاب قصص النجاح من المعاقين ذوي الهمم    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل في مشروع سد حسان بمحافظة أبين    لملس يتفقد سير أعمال تأهيل مكتب التعليم الفني بالعاصمة عدن    أبناء العمري وأسرة شهيد الواجب عبدالحكيم فاضل أحمد فريد العمري يشكرون رئيس انتقالي لحج على مواساته    الدولار يتجه نحو أسوأ أداء سنوي له منذ أكثر من 20 عاما    الرئيس الزُبيدي: نثمن دور الإمارات التنموي والإنساني    مصلحة الجمارك تؤيد خطوات الرئيس الزُبيدي لإعلان دولة الجنوب    سوريا.. قوة إسرائيلية تتوغل بريف درعا وتعتقل شابين    الحديدة تدشن فعاليات جمعة رجب بلقاء موسع يجمع العلماء والقيادات    هيئة الزكاة تدشن برامج صحية واجتماعية جديدة في صعدة    "أهازيج البراعم".. إصدار شعري جديد للأطفال يصدر في صنعاء    هدوء في البورصات الأوروبية بمناسبة العطلات بعد سلسلة مستويات قياسية    رئيس مجلس الشورى يعزي في وفاة الدكتور "بامشموس"    دور الهيئة النسائية في ترسيخ قيم "جمعة رجب" وحماية المجتمع من طمس الهوية    تحذير طبي برودة القدمين المستمرة تنذر بأمراض خطيرة    تضامن حضرموت يواجه مساء اليوم النهضة العماني في كأس الخليج للأندية    تونس تضرب أوغندا بثلاثية    اختتام دورة تدريبية لفرسان التنمية في مديريتي الملاجم وردمان في محافظة البيضاء    وفاة رئيس الأركان الليبي ومرافقيه في تحطم طائرة في أنقرة    إغلاق مطار سقطرى وإلغاء رحلة قادمة من أبوظبي    البنك المركزي يوقف تراخيص فروع شركات صرافة بعدن ومأرب    الفواكه المجففة تمنح الطاقة والدفء في الشتاء    هيئة الآثار: نقوش سبأ القديمة تتعرض للاقتلاع والتهريب    تكريم الفائزات ببطولة الرماية المفتوحة في صنعاء    هيئة المواصفات والمقاييس تحذر من منتج حليب أطفال ملوث ببكتيريا خطرة    تحذيرات طبية من خطورة تجمعات مياه المجاري في عدد من الأحياء بمدينة إب    مرض الفشل الكلوي (33)    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    تحرير حضرموت: اللطمة التي أفقدت قوى الاحتلال صوابها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين إبداعات رائد القصة اليمنية القصيرة .. وطائرة الأنتينوف الروسية المشؤومة
نشر في 14 أكتوبر يوم 24 - 06 - 2012

محمد عبد الولي، هو رائد القصة الحديثة في اليمن. ولم تكن صفة الرائد التي تلحق باسمه دائماً اعتباطية، أو من باب إضفاء الألقاب على من لا يستحقها، وإنما كانت تقريراً عن حقيقة يعترف بها الجميع، فقد كان محمد عبد الولي القاص الأول ورائد هذا الفن دون منازع، فهو الذي وضع الأسس الحديثة في هذه البلاد لكتابة قصة ذات أفق جديد في أسلوب القص، وفي التقاط معطيات الواقع من خلال رؤية فنية ولغوية توحي أكثر مما تخبر، وتتعامل مع الرمز في أرقى مستوياته.
صحيح أن ثلاثة أو أربعة من الرواد الأوائل كانوا قد سبقوا محمد عبد الولي إلى كتابة القصة القصيرة، لكنهم لم يخرجوا عن طريقة السرد التقليدي الذي اشتهرت به القصة العربية في الثلاثينات والأربعينيات من القرن العشرين المنصرم، ولم يبلغوا ما بلغه من اتقانه لشروط هذا الفن، وتمثل لمقوماته الحديثة، فضلاً عن إمتلاكه لتقنيته الخاصة، في استخدام الرموز، وإعطاء القصة التي يكتبها معادلاً موضوعياً للحياة المباشرة وآخر رمزياً يجعل القارئ يشعر بالانتشاء حين الاهتداء إليه، كما هو الحال - على سبيل المثال- في قصة (الغول) الذي يرمز إلى الحاكم، أو قصة (سينما لصي طفي) التي ترمز إلى الفوارق الطبقية من خلال التراتبية في جلوس المشاهدين « صالة وبلكون ». ويلاحظ أن محمد عبد الولي يحاول أن يقترب برموزه كثيرا من القارئ الذي يشعر أنه يكتشف عالماً مبهراً، حين يهتدي إلى حقيقة الرمز، وما يخفي وراءه من دلالات فنية، تجعل القصة ذات بعدين أحدهما : واقعي مباشر، والآخر رمزي أبعد ما يكون عن المباشرة، وهو ما لا يجيده سوى كبار المبدعين في هذا الفن السردي.
وتجدر الإشارة إلى أن محمد عبد الولي كان ومايزال يحتل مكان الصدارة في مجال الإبداع القصصي بالرغم من ظهور عشرات المواهب الجديدة التي تقدمت بفن كتابة القصة خطوات مستفيدة من التحولات التي طرأت على المشهد السردي وعلى التجرية القصصية وتكويناتها الموضوعية والفنية. ومايزال الحكم الذي خرج به الناقد الأكاديمي المعروف الدكتور عبد الحميد إبراهيم في كتابه (القصة اليمنية المعاصرة) قابلاً لتفسير المكانة التي يحتلها هذا القاص المبدع في واقع الإبداع الراهن ليمن اليوم: « ولو قمنا بتجربة فرضية ومحونا مؤقتاً قصص محمد عبد الولي، لاهتزت المحصلة النهائية، ونكاد لا نلتقي بقاص أخلص إخلاصه لهذا الفن، وأوقف حياته عليه. إن هناك ظروفاً شخصية وخارجية ساعدت على بروز هذه الظاهرة، فهو يملك وقدة العبقرية التي تحترق، وتقدم ما عندها أو تموت دونه ».
لمحمد عبد الولي روايتان هما (يموتون غرباء)، و (صنعاء مدينة مفتوحة) وله أربع مجموعات قصصية هي ( الأرض يا سلمى )، و ( شيء اسمه الحنين )،
و ( العم صالح )، و ( ريحانة ) . والمجموعة الأخيرة صدرت عن «اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين »، وتضم مجموعة من القصص التي لم تنشر أو التي تم نشرها في الصحافة ثم لم تضم إلى أي من مجموعاته الثلاث، وفي هذه المجموعة ما يمكن اعتباره وثائق إبداعية ذات مدلول خاص لفهم تطوره الإبداعي، وتراكم خبراته في مجال هذا الفن السردي البديع . وهناك من يقول إن له رواية لم تتم، وأعمالاً قصصية اخرى كان يعدها للنشر وربما احترقت في الحقيبة التي رافقته في رحلته الفاجعة على طائرة الأنتينوف الروسية المشؤومة، التي انفجرت في الجو في صباح الثلاثين من إبريل عام 1973م وهي في طريقها إلى حضرموت، قادمة من شبوة.
الذين عرفوا المبدع محمد عبد الولي يدركون أنه كان إنساناً مسكوناً بهذا الفن السردي، ومغموراً بأضوائه، وكأنما ولد ليكون قاصاً وروائياً، فكما يروى عنه انه كانت له قدرة فائقة على القص حتى في أحاديثه العادية، التي تأتي عفوية ومعبرةً عن تجارب حية نابضة، وقادرة على أن تسرقك من نفسك، ومن مشاغلك بسهولة نادرة، ودون أن تشعر بأقل قدر من الملل. وهنا في صنعاء، وهناك في القاهرة، وبرلين كانت لنا لقاءات يتحول فيها المبدع الراحل إلى سارد ماهر يشدك بصوته العذب، وبما تحتشد به أحاديثه من حكايات، وذكريات، وأفكار ذات صلة بالواقع، والتاريخ والفن والأدب.
بدأ محمد عبد الولي رحلته مع القصة القصيرة في منتصف الخمسينيات، وهو طالب في مدرسة « المعادي « الثانوية وهي إحدى ضواحي القاهرة. وكانت مدرسته الأولى، بالإضافة إلى ما يقرأ مما تنشره المجلات والصحف من قصص مكتبة صغيرة في طرف الحديقة اليابانية الشهيرة في « حلوان » حيث كان يمضي الساعات الطويلة منكباً على قراءة كل ما تضمه المكتبه، وفي عالم القصة بخاصة، فما بين ثانوية المعادي، وتلك المكتبة الصغيرة في « حلوان « كان محمد عبدالولي يقطع المسافة بين الضاحيتين ( المعادي وحلوان ) مشياً على الأقدام، وهو يتخيل نفسه وقد أصبح قاصاً كبيراً يتحدث عنه كبار النقاد كما يتحدثون - يومئذ- عن انطوان تشيخوف ويوسف أدريس .
الإشارة السابقة إلى انطوان تشيخوف تعود باذهاننا إلى العلاقة العميقة التي ربطت بين محمد عبدالولي وكتابات ذلك الفنان الروسي العظيم، فقد زادت صلته به أكثر عندما ذهب للدراسة في موسكو، وأجاد اللغة الروسية لدرجة جعلت الرئيس الروسي الأسبق خرتشوف يفضل روسيته على روسية المترجم الروسي الأصل، عندما تولى الأثنان الترجمة بينه وبين المشير عبدالله السلال في زيارته الوحيدة إلى الاتحاد السوفيتي. وقد انتشرت هذه الشهادة من أكثر من عضو في الوفد الذي رافق الرئيس السلال، ومن الرئيس السلال نفسه. ومن نافل القول بأن معرفة محمد عبد الولي باللغة الروسية قد مكنته من قراءة الأعمال القصصية والروائية لعمالقة هذا الفن في تلك البلاد أمثال، تولستوي وديستيوفسكي، وتورجنيف، وجوجول، وتشيخوف بالطبع، وآخرين . يضاف إلى ذلك متابعته الدائمة لكل ما ينتجه المبدعون العرب في هذا المجال.
إن مجموعة « الأرض ياسلمى «، هي أولى الأعمال المنشورة للرائد محمد عبدالولي، وتضم قصتين من محاولاته الأولى كتبها، وهو طالب في القاهرة. وإذا كان لكل كاتب فنان ثيمته أو موضوعته التي تدور عليها أغلب أعماله، فقد كانت الثورة هي تلك الثيمة أو الموضوعة التي يتوسل الوصول إليها عن طريق الحديث في قصصه ورواياته كثيراً عن الهجرة والمهاجرين، وعن الأرض التي تركوها لنسائهم حيث يواصلن الحرث، والسقي، والبذار، والحصاد. وفي قصة ( الأرض ياسلمى ) التي صارت عنواناً للمجموعة، يغوض قلب الإنسان في الأرض كما تغوض المياه، ويسقيها بالدموع والدم كما تسقيها الأمطار.. المرأة تحرث، وتحصد، وترعى شؤون المنزل في غياب الرجل المهاجر، وهو هناك بعيداً في البحر، البحر الكبير حيث يجمع ما يستطيع من النقود ليرسلها إلى الزوجة والأولاد حتى لا تتعرض الأرض للبيع، ويستولي عليها الآخرون. وفي هذا الصدد يمكننا القول إن القصص التي كتبها محمد عبدالولي عن المغتربين، وهي كثيرة، لا توحي بأي قدر من التعاطف مع هؤلاء البؤساء النازحين الذين أبعدتهم الظروف القاسية عن الوطن مضطرين حتى غدت هجرة اليمنيين ظاهرة اجتماعية شائعة في العهد السابق، علماً بأنه ابن واحد من هؤلاء المهاجرين إلى أثيوبيا، حيث أنه ولد في مدينة دبرهان الأثيوبية عن أب يمني وأم أثيوبية، وكان والده من اليمنيين الذين انضموا إلى حركة الأحرار اليمنيين.
وربما كانت معاناته تلك سبباً في إدانته للغربة والمغتربين وكراهيته للهجرة، وإلى ضرورة تمسك الإنسان بأرضه تحت كل الظروف، إذ لا قيمة لإنسان لا أرض له، ولا مكان ينتمي إليه، إنه يظل غريباً في مهجره بلا جذور كالمعلق في الفضاء.
وصاحب هذه المجموعة القصصية لا يبخل على المهاجرين بتعاطفه وحسب، وإنما يتهمهم بالجبن والتخاذل، كما في قصة « الأرض يا سلمى ». وقصة « على طريق أسمرا ».
وفي قصة « المومس » من مجموعته الثانية « شيء اسمه الحنين »، وقصص أخرى، وكما في روايته « يموتون غرباء « حينما يتهمهم بالهروب من وجه الظلم بدلاً عن مقاومته، وهو لا يكتفي برفض المبررات التي يسوقها هؤلاء المهاجرون لتبرير هروبهم، ونراه يصرخ في وجه أحدهم: « إنك تتحدث أربعاً وعشرين ساعة عن تحرير بلادك، ولكنك لن تحررها مطلقاً، لقد هربت، أتعرف؟ من هنا لن تستطيع إلاَّ أن تصرخ بملء فمك: أيها الظالم سننتقم. ولكنك تفتح فمك ولن يسمع احد صوتك سوانا « وفي مكان آخر ينقل حديثاً حزيناً من أب مهاجر إلى طفله الذي ولد بعيداً عن أرضهما، ومما جاء في ذلك الحديث « أنظر يا صغيري هنا في كل هذه المقبرة ينام إلى الأبد، أناس غرباء لم تلدهم هذه الأرض، ولم تنشئهم وتربهم، ولكنها قتلتهم لأنهم قوم غرباء، لقد خانوا تربتهم لأنهم لم يدفنوا فيها، كم هو سعيد ذلك الذي يدفن في تربته وفي أرضه.
ذلك هو محمد عبدالولي الفنان الإنسان الذي رحل عن أربعة وثلاثين عاماً، أي في قمة العطاء، وفي حادث طائرة يقال أنها كانت ملغومة، ويقال غير ذلك، حيث ما يزال ملف سقوطها الغامض مفتوحاً ولم يقفل إلى حد الآن.
يرى الدارسون لفنون السرد الإبداعي، ان فن القصة القصيرة شأن فن الرواية أيضاً لا يحققان وجودهما في واقع جامد وغير مستقر، فهما بحاجة إلى مناخ أكثر استقراراً وتحضراً من الشعر الذي يرافق الإنسانية في كل أطوارها، لذلك فقد تأخر ظهور القصة القصيرة في اليمن إلى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، مع إرهاصات بالغة الندرة، ظهرت في أواخر الأربعينيات من القرن نفسه. ويمكن لدارس هذا الفن في اليمن أن يرجع الظهور الحقيقي للقصة القصيرة إلى ما بعد قيام الثورة اليمنية سبتمبر 1962م، ويربط بين ميلادهما صدور (الأرض يا سلمى) عن دار الآداب في بيروت عام 1965م كأول مجموعة قصصية مكتملة الأداء.
محمد عبد الولي، هو رائد القصة الحديثة في اليمن. ولم تكن صفة الرائد التي تلحق باسمه دائماً اعتباطية، أو من باب إضفاء الألقاب على من لا يستحقها، وإنما كانت تقريراً عن حقيقة يعترف بها الجميع، فقد كان محمد عبد الولي القاص الأول ورائد هذا الفن دون منازع، فهو الذي وضع الأسس الحديثة في هذه البلاد لكتابة قصة ذات أفق جديد في أسلوب القص، وفي التقاط معطيات الواقع من خلال رؤية فنية ولغوية توحي أكثر مما تخبر، وتتعامل مع الرمز في أرقى مستوياته.
صحيح أن ثلاثة أو أربعة من الرواد الأوائل كانوا قد سبقوا محمد عبد الولي إلى كتابة القصة القصيرة، لكنهم لم يخرجوا عن طريقة السرد التقليدي الذي اشتهرت به القصة العربية في الثلاثينات والأربعينيات من القرن العشرين المنصرم، ولم يبلغوا ما بلغه من اتقانه لشروط هذا الفن، وتمثل لمقوماته الحديثة، فضلاً عن إمتلاكه لتقنيته الخاصة، في استخدام الرموز، وإعطاء القصة التي يكتبها معادلاً موضوعياً للحياة المباشرة وآخر رمزياً يجعل القارئ يشعر بالانتشاء حين الاهتداء إليه، كما هو الحال - على سبيل المثال- في قصة (الغول) الذي يرمز إلى الحاكم، أو قصة (سينما لصي طفي) التي ترمز إلى الفوارق الطبقية من خلال التراتبية في جلوس المشاهدين « صالة وبلكون ». ويلاحظ أن محمد عبد الولي يحاول أن يقترب برموزه كثيرا من القارئ الذي يشعر أنه يكتشف عالماً مبهراً، حين يهتدي إلى حقيقة الرمز، وما يخفي وراءه من دلالات فنية، تجعل القصة ذات بعدين أحدهما : واقعي مباشر، والآخر رمزي أبعد ما يكون عن المباشرة، وهو ما لا يجيده سوى كبار المبدعين في هذا الفن السردي.
وتجدر الإشارة إلى أن محمد عبد الولي كان ومايزال يحتل مكان الصدارة في مجال الإبداع القصصي بالرغم من ظهور عشرات المواهب الجديدة التي تقدمت بفن كتابة القصة خطوات مستفيدة من التحولات التي طرأت على المشهد السردي وعلى التجرية القصصية وتكويناتها الموضوعية والفنية. ومايزال الحكم الذي خرج به الناقد الأكاديمي المعروف الدكتور عبد الحميد إبراهيم في كتابه (القصة اليمنية المعاصرة) قابلاً لتفسير المكانة التي يحتلها هذا القاص المبدع في واقع الإبداع الراهن ليمن اليوم: « ولو قمنا بتجربة فرضية ومحونا مؤقتاً قصص محمد عبد الولي، لاهتزت المحصلة النهائية، ونكاد لا نلتقي بقاص أخلص إخلاصه لهذا الفن، وأوقف حياته عليه. إن هناك ظروفاً شخصية وخارجية ساعدت على بروز هذه الظاهرة، فهو يملك وقدة العبقرية التي تحترق، وتقدم ما عندها أو تموت دونه ».
لمحمد عبد الولي روايتان هما (يموتون غرباء)، و (صنعاء مدينة مفتوحة) وله أربع مجموعات قصصية هي ( الأرض يا سلمى )، و ( شيء اسمه الحنين )،
و ( العم صالح )، و ( ريحانة ) . والمجموعة الأخيرة صدرت عن «اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين »، وتضم مجموعة من القصص التي لم تنشر أو التي تم نشرها في الصحافة ثم لم تضم إلى أي من مجموعاته الثلاث، وفي هذه المجموعة ما يمكن اعتباره وثائق إبداعية ذات مدلول خاص لفهم تطوره الإبداعي، وتراكم خبراته في مجال هذا الفن السردي البديع . وهناك من يقول إن له رواية لم تتم، وأعمالاً قصصية اخرى كان يعدها للنشر وربما احترقت في الحقيبة التي رافقته في رحلته الفاجعة على طائرة الأنتينوف الروسية المشؤومة، التي انفجرت في الجو في صباح الثلاثين من إبريل عام 1973م وهي في طريقها إلى حضرموت، قادمة من شبوة.
الذين عرفوا المبدع محمد عبد الولي يدركون أنه كان إنساناً مسكوناً بهذا الفن السردي، ومغموراً بأضوائه، وكأنما ولد ليكون قاصاً وروائياً، فكما يروى عنه انه كانت له قدرة فائقة على القص حتى في أحاديثه العادية، التي تأتي عفوية ومعبرةً عن تجارب حية نابضة، وقادرة على أن تسرقك من نفسك، ومن مشاغلك بسهولة نادرة، ودون أن تشعر بأقل قدر من الملل. وهنا في صنعاء، وهناك في القاهرة، وبرلين كانت لنا لقاءات يتحول فيها المبدع الراحل إلى سارد ماهر يشدك بصوته العذب، وبما تحتشد به أحاديثه من حكايات، وذكريات، وأفكار ذات صلة بالواقع، والتاريخ والفن والأدب.
بدأ محمد عبد الولي رحلته مع القصة القصيرة في منتصف الخمسينيات، وهو طالب في مدرسة « المعادي « الثانوية وهي إحدى ضواحي القاهرة. وكانت مدرسته الأولى، بالإضافة إلى ما يقرأ مما تنشره المجلات والصحف من قصص مكتبة صغيرة في طرف الحديقة اليابانية الشهيرة في « حلوان » حيث كان يمضي الساعات الطويلة منكباً على قراءة كل ما تضمه المكتبه، وفي عالم القصة بخاصة، فما بين ثانوية المعادي، وتلك المكتبة الصغيرة في « حلوان « كان محمد عبدالولي يقطع المسافة بين الضاحيتين ( المعادي وحلوان ) مشياً على الأقدام، وهو يتخيل نفسه وقد أصبح قاصاً كبيراً يتحدث عنه كبار النقاد كما يتحدثون - يومئذ- عن انطوان تشيخوف ويوسف أدريس .
الإشارة السابقة إلى انطوان تشيخوف تعود باذهاننا إلى العلاقة العميقة التي ربطت بين محمد عبدالولي وكتابات ذلك الفنان الروسي العظيم، فقد زادت صلته به أكثر عندما ذهب للدراسة في موسكو، وأجاد اللغة الروسية لدرجة جعلت الرئيس الروسي الأسبق خرتشوف يفضل روسيته على روسية المترجم الروسي الأصل، عندما تولى الأثنان الترجمة بينه وبين المشير عبدالله السلال في زيارته الوحيدة إلى الاتحاد السوفيتي. وقد انتشرت هذه الشهادة من أكثر من عضو في الوفد الذي رافق الرئيس السلال، ومن الرئيس السلال نفسه. ومن نافل القول بأن معرفة محمد عبد الولي باللغة الروسية قد مكنته من قراءة الأعمال القصصية والروائية لعمالقة هذا الفن في تلك البلاد أمثال، تولستوي وديستيوفسكي، وتورجنيف، وجوجول، وتشيخوف بالطبع، وآخرين . يضاف إلى ذلك متابعته الدائمة لكل ما ينتجه المبدعون العرب في هذا المجال.
إن مجموعة « الأرض ياسلمى «، هي أولى الأعمال المنشورة للرائد محمد عبدالولي، وتضم قصتين من محاولاته الأولى كتبها، وهو طالب في القاهرة. وإذا كان لكل كاتب فنان ثيمته أو موضوعته التي تدور عليها أغلب أعماله، فقد كانت الثورة هي تلك الثيمة أو الموضوعة التي يتوسل الوصول إليها عن طريق الحديث في قصصه ورواياته كثيراً عن الهجرة والمهاجرين، وعن الأرض التي تركوها لنسائهم حيث يواصلن الحرث، والسقي، والبذار، والحصاد. وفي قصة ( الأرض ياسلمى ) التي صارت عنواناً للمجموعة، يغوض قلب الإنسان في الأرض كما تغوض المياه، ويسقيها بالدموع والدم كما تسقيها الأمطار.. المرأة تحرث، وتحصد، وترعى شؤون المنزل في غياب الرجل المهاجر، وهو هناك بعيداً في البحر، البحر الكبير حيث يجمع ما يستطيع من النقود ليرسلها إلى الزوجة والأولاد حتى لا تتعرض الأرض للبيع، ويستولي عليها الآخرون. وفي هذا الصدد يمكننا القول إن القصص التي كتبها محمد عبدالولي عن المغتربين، وهي كثيرة، لا توحي بأي قدر من التعاطف مع هؤلاء البؤساء النازحين الذين أبعدتهم الظروف القاسية عن الوطن مضطرين حتى غدت هجرة اليمنيين ظاهرة اجتماعية شائعة في العهد السابق، علماً بأنه ابن واحد من هؤلاء المهاجرين إلى أثيوبيا، حيث أنه ولد في مدينة دبرهان الأثيوبية عن أب يمني وأم أثيوبية، وكان والده من اليمنيين الذين انضموا إلى حركة الأحرار اليمنيين.
وربما كانت معاناته تلك سبباً في إدانته للغربة والمغتربين وكراهيته للهجرة، وإلى ضرورة تمسك الإنسان بأرضه تحت كل الظروف، إذ لا قيمة لإنسان لا أرض له، ولا مكان ينتمي إليه، إنه يظل غريباً في مهجره بلا جذور كالمعلق في الفضاء.
وصاحب هذه المجموعة القصصية لا يبخل على المهاجرين بتعاطفه وحسب، وإنما يتهمهم بالجبن والتخاذل، كما في قصة « الأرض يا سلمى ». وقصة « على طريق أسمرا ».
وفي قصة « المومس » من مجموعته الثانية « شيء اسمه الحنين »، وقصص أخرى، وكما في روايته « يموتون غرباء « حينما يتهمهم بالهروب من وجه الظلم بدلاً عن مقاومته، وهو لا يكتفي برفض المبررات التي يسوقها هؤلاء المهاجرون لتبرير هروبهم، ونراه يصرخ في وجه أحدهم: « إنك تتحدث أربعاً وعشرين ساعة عن تحرير بلادك، ولكنك لن تحررها مطلقاً، لقد هربت، أتعرف؟ من هنا لن تستطيع إلاَّ أن تصرخ بملء فمك: أيها الظالم سننتقم. ولكنك تفتح فمك ولن يسمع احد صوتك سوانا « وفي مكان آخر ينقل حديثاً حزيناً من أب مهاجر إلى طفله الذي ولد بعيداً عن أرضهما، ومما جاء في ذلك الحديث « أنظر يا صغيري هنا في كل هذه المقبرة ينام إلى الأبد، أناس غرباء لم تلدهم هذه الأرض، ولم تنشئهم وتربهم، ولكنها قتلتهم لأنهم قوم غرباء، لقد خانوا تربتهم لأنهم لم يدفنوا فيها، كم هو سعيد ذلك الذي يدفن في تربته وفي أرضه.
ذلك هو محمد عبدالولي الفنان الإنسان الذي رحل عن أربعة وثلاثين عاماً، أي في قمة العطاء، وفي حادث طائرة يقال أنها كانت ملغومة، ويقال غير ذلك، حيث ما يزال ملف سقوطها الغامض مفتوحاً ولم يقفل إلى حد الآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.