مجلس النواب يثمن موقف باكستان الشجاع تجاه إيران    وزير الشباب يلتقي رئيس نادي شباب ملاح ويشيد بدور الأندية في تنمية وعي الشباب    أمين عام الإصلاح يعزي البرلماني صادق البعداني في وفاة زوجته    احتجاجات غاضبة في حضرموت بسبب الانقطاعات المتواصلة للكهرباء    البكري يبحث مع مدير عام مكافحة المخدرات إقامة فعاليات رياضية وتوعوية    الوصفة السحرية لآلام أسفل الظهر    اليمن يستهدف عمق الكيان    الأمم المتحدة:نقص الدعم يهدد بإغلاق مئات المنشآت الطبية في اليمن    تعز.. مقتل وإصابة 15 شخصا بتفجير قنبلة يدوية في حفل زفاف    تصنيف الأندية المشاركة بكأس العالم للأندية والعرب في المؤخرة    دخول باكستان على الخط يسقط خيار الضربة النووية الإسرائيلية    علماء عرب ومسلمين اخترعوا اختراعات مفيدة للبشرية    بايرن ميونخ يحقق أكبر فوز في تاريخ كأس العالم للأندية    أرقام صادمة لحمى الضنك في الجنوب    الانتقالي ومعايير السيطرة في الجنوب    التوقعات المصيرية للجنوب في ظل الحرب الإسرائيلية الإيرانية    مستشار بوتين.. انفجار النهاية: إسرائيل تهدد بتفجير نووي شامل    للكبار فقط...    اغلاق السفارة الامريكية في اسرائيل وهجوم جديد على طهران وترامب يؤمل على التوصل لاتفاق مع إيران    خلال تفقده الانضباط الوظيفي في وزارتي النقل والأشغال العامة والنفط والمعادن    وزيرا الخارجية والصحة يلتقيان مبعوث برنامج الأغذية العالمي    القبائل والحكومة والتاريخ في اليمن .. بول دريش جامعة أكسفورد «الأخيرة»    الأمم المتحدة.. الحاضر الغائب!!    مجلس الشيوخ الباكستاني يوافق بالإجماع على دعم إيران في مواجهة العدوان الصهيوني    صحيفة امريكية تنشر تفاصيل عن عملية الموساد في إيران    ثابتون وجاهزون لخيارات المواجهة    عراقجي: امريكا واوربا تشجع عدوان اسرائيل والدبلوماسية لن تعود إلا بوقف العدوان    الفريق السامعي: الوطنية الحقة تظهر وقت الشدة    حصاد الولاء    مناسبة الولاية .. رسالة إيمانية واستراتيجية في مواجهة التحديات    العقيد العزب : صرف إكرامية عيد الأضحى ل400 أسرة شهيد ومفقود    إب.. إصابات وأضرار في إحدى المنازل جراء انفجار أسطوانة للغاز    مرض الفشل الكلوي (8)    من يومياتي في أمريكا .. صديقي الحرازي    الحلف والسلطة يخنقون الحضارم بقطع الكهرباء    غاتوزو مدرباً للمنتخب الإيطالي    نائب وزير الخدمة المدنية ومحافظ الضالع يتفقدان مستوى الانضباط الوظيفي في الضالع    البكري يرأس اجتماعًا لوكلاء القطاعات العامة ويناقش إعداد خطة ال (100) يوم    وزيرا الخارجية والصحة يلتقيان مبعوث برنامج الأغذية العالمي    هيئة الآثار :التمثالين البرونزيين باقيان في المتحف الوطني    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الأحد 15 يونيو/حزيران 2025    قوات الجيش تعلن إفشال محاولة تسلل شمال الجوف وتكبّد المليشيا خسائر كبيرة    وزير الصحة يترأس اجتماعا موسعا ويقر حزمة إجراءات لاحتواء الوضع الوبائ    انهيار جزئي في منظومة كهرباء حضرموت ساحلا ووادي    أهدر جزائية.. الأهلي يكتفي بنقطة ميامي    اليغري كان ينتظر اتصال من انتر قبل التوقيع مع ميلان    اسبانيا تخطف فوزاً من رومانيا في يورو تحت 21 عاماً    حضرموت.. خفر السواحل ينقذ 7 أشخاص من الغرق ويواصل البحث عن شاب مفقود    صنعاء.. التربية والتعليم تحدد موعد العام الدراسي الجديد    صنعاء تحيي يوم الولاية بمسيرات كبرى    - عضو مجلس الشورى جحاف يشكو من مناداته بالزبادي بدلا عن اسمه في قاعة الاعراس بصنعاء    سرقة مرحاض الحمام المصنوع من الذهب كلفته 6ملايين دولار    اغتيال الشخصية!    الأستاذ جسار مكاوي المحامي ينظم إلى مركز تراث عدن    قهوة نواة التمر.. فوائد طبية وغذائية غير محدودة    حينما تتثاءب الجغرافيا .. وتضحك القنابل بصوت منخفض!    الترجمة في زمن العولمة: جسر بين الثقافات أم أداة للهيمنة اللغوية؟    فشل المطاوعة في وزارة الأوقاف.. حجاج يتعهدون باللجوء للمحكمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين إبداعات رائد القصة اليمنية القصيرة .. وطائرة الأنتينوف الروسية المشؤومة
نشر في 14 أكتوبر يوم 24 - 06 - 2012

محمد عبد الولي، هو رائد القصة الحديثة في اليمن. ولم تكن صفة الرائد التي تلحق باسمه دائماً اعتباطية، أو من باب إضفاء الألقاب على من لا يستحقها، وإنما كانت تقريراً عن حقيقة يعترف بها الجميع، فقد كان محمد عبد الولي القاص الأول ورائد هذا الفن دون منازع، فهو الذي وضع الأسس الحديثة في هذه البلاد لكتابة قصة ذات أفق جديد في أسلوب القص، وفي التقاط معطيات الواقع من خلال رؤية فنية ولغوية توحي أكثر مما تخبر، وتتعامل مع الرمز في أرقى مستوياته.
صحيح أن ثلاثة أو أربعة من الرواد الأوائل كانوا قد سبقوا محمد عبد الولي إلى كتابة القصة القصيرة، لكنهم لم يخرجوا عن طريقة السرد التقليدي الذي اشتهرت به القصة العربية في الثلاثينات والأربعينيات من القرن العشرين المنصرم، ولم يبلغوا ما بلغه من اتقانه لشروط هذا الفن، وتمثل لمقوماته الحديثة، فضلاً عن إمتلاكه لتقنيته الخاصة، في استخدام الرموز، وإعطاء القصة التي يكتبها معادلاً موضوعياً للحياة المباشرة وآخر رمزياً يجعل القارئ يشعر بالانتشاء حين الاهتداء إليه، كما هو الحال - على سبيل المثال- في قصة (الغول) الذي يرمز إلى الحاكم، أو قصة (سينما لصي طفي) التي ترمز إلى الفوارق الطبقية من خلال التراتبية في جلوس المشاهدين « صالة وبلكون ». ويلاحظ أن محمد عبد الولي يحاول أن يقترب برموزه كثيرا من القارئ الذي يشعر أنه يكتشف عالماً مبهراً، حين يهتدي إلى حقيقة الرمز، وما يخفي وراءه من دلالات فنية، تجعل القصة ذات بعدين أحدهما : واقعي مباشر، والآخر رمزي أبعد ما يكون عن المباشرة، وهو ما لا يجيده سوى كبار المبدعين في هذا الفن السردي.
وتجدر الإشارة إلى أن محمد عبد الولي كان ومايزال يحتل مكان الصدارة في مجال الإبداع القصصي بالرغم من ظهور عشرات المواهب الجديدة التي تقدمت بفن كتابة القصة خطوات مستفيدة من التحولات التي طرأت على المشهد السردي وعلى التجرية القصصية وتكويناتها الموضوعية والفنية. ومايزال الحكم الذي خرج به الناقد الأكاديمي المعروف الدكتور عبد الحميد إبراهيم في كتابه (القصة اليمنية المعاصرة) قابلاً لتفسير المكانة التي يحتلها هذا القاص المبدع في واقع الإبداع الراهن ليمن اليوم: « ولو قمنا بتجربة فرضية ومحونا مؤقتاً قصص محمد عبد الولي، لاهتزت المحصلة النهائية، ونكاد لا نلتقي بقاص أخلص إخلاصه لهذا الفن، وأوقف حياته عليه. إن هناك ظروفاً شخصية وخارجية ساعدت على بروز هذه الظاهرة، فهو يملك وقدة العبقرية التي تحترق، وتقدم ما عندها أو تموت دونه ».
لمحمد عبد الولي روايتان هما (يموتون غرباء)، و (صنعاء مدينة مفتوحة) وله أربع مجموعات قصصية هي ( الأرض يا سلمى )، و ( شيء اسمه الحنين )،
و ( العم صالح )، و ( ريحانة ) . والمجموعة الأخيرة صدرت عن «اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين »، وتضم مجموعة من القصص التي لم تنشر أو التي تم نشرها في الصحافة ثم لم تضم إلى أي من مجموعاته الثلاث، وفي هذه المجموعة ما يمكن اعتباره وثائق إبداعية ذات مدلول خاص لفهم تطوره الإبداعي، وتراكم خبراته في مجال هذا الفن السردي البديع . وهناك من يقول إن له رواية لم تتم، وأعمالاً قصصية اخرى كان يعدها للنشر وربما احترقت في الحقيبة التي رافقته في رحلته الفاجعة على طائرة الأنتينوف الروسية المشؤومة، التي انفجرت في الجو في صباح الثلاثين من إبريل عام 1973م وهي في طريقها إلى حضرموت، قادمة من شبوة.
الذين عرفوا المبدع محمد عبد الولي يدركون أنه كان إنساناً مسكوناً بهذا الفن السردي، ومغموراً بأضوائه، وكأنما ولد ليكون قاصاً وروائياً، فكما يروى عنه انه كانت له قدرة فائقة على القص حتى في أحاديثه العادية، التي تأتي عفوية ومعبرةً عن تجارب حية نابضة، وقادرة على أن تسرقك من نفسك، ومن مشاغلك بسهولة نادرة، ودون أن تشعر بأقل قدر من الملل. وهنا في صنعاء، وهناك في القاهرة، وبرلين كانت لنا لقاءات يتحول فيها المبدع الراحل إلى سارد ماهر يشدك بصوته العذب، وبما تحتشد به أحاديثه من حكايات، وذكريات، وأفكار ذات صلة بالواقع، والتاريخ والفن والأدب.
بدأ محمد عبد الولي رحلته مع القصة القصيرة في منتصف الخمسينيات، وهو طالب في مدرسة « المعادي « الثانوية وهي إحدى ضواحي القاهرة. وكانت مدرسته الأولى، بالإضافة إلى ما يقرأ مما تنشره المجلات والصحف من قصص مكتبة صغيرة في طرف الحديقة اليابانية الشهيرة في « حلوان » حيث كان يمضي الساعات الطويلة منكباً على قراءة كل ما تضمه المكتبه، وفي عالم القصة بخاصة، فما بين ثانوية المعادي، وتلك المكتبة الصغيرة في « حلوان « كان محمد عبدالولي يقطع المسافة بين الضاحيتين ( المعادي وحلوان ) مشياً على الأقدام، وهو يتخيل نفسه وقد أصبح قاصاً كبيراً يتحدث عنه كبار النقاد كما يتحدثون - يومئذ- عن انطوان تشيخوف ويوسف أدريس .
الإشارة السابقة إلى انطوان تشيخوف تعود باذهاننا إلى العلاقة العميقة التي ربطت بين محمد عبدالولي وكتابات ذلك الفنان الروسي العظيم، فقد زادت صلته به أكثر عندما ذهب للدراسة في موسكو، وأجاد اللغة الروسية لدرجة جعلت الرئيس الروسي الأسبق خرتشوف يفضل روسيته على روسية المترجم الروسي الأصل، عندما تولى الأثنان الترجمة بينه وبين المشير عبدالله السلال في زيارته الوحيدة إلى الاتحاد السوفيتي. وقد انتشرت هذه الشهادة من أكثر من عضو في الوفد الذي رافق الرئيس السلال، ومن الرئيس السلال نفسه. ومن نافل القول بأن معرفة محمد عبد الولي باللغة الروسية قد مكنته من قراءة الأعمال القصصية والروائية لعمالقة هذا الفن في تلك البلاد أمثال، تولستوي وديستيوفسكي، وتورجنيف، وجوجول، وتشيخوف بالطبع، وآخرين . يضاف إلى ذلك متابعته الدائمة لكل ما ينتجه المبدعون العرب في هذا المجال.
إن مجموعة « الأرض ياسلمى «، هي أولى الأعمال المنشورة للرائد محمد عبدالولي، وتضم قصتين من محاولاته الأولى كتبها، وهو طالب في القاهرة. وإذا كان لكل كاتب فنان ثيمته أو موضوعته التي تدور عليها أغلب أعماله، فقد كانت الثورة هي تلك الثيمة أو الموضوعة التي يتوسل الوصول إليها عن طريق الحديث في قصصه ورواياته كثيراً عن الهجرة والمهاجرين، وعن الأرض التي تركوها لنسائهم حيث يواصلن الحرث، والسقي، والبذار، والحصاد. وفي قصة ( الأرض ياسلمى ) التي صارت عنواناً للمجموعة، يغوض قلب الإنسان في الأرض كما تغوض المياه، ويسقيها بالدموع والدم كما تسقيها الأمطار.. المرأة تحرث، وتحصد، وترعى شؤون المنزل في غياب الرجل المهاجر، وهو هناك بعيداً في البحر، البحر الكبير حيث يجمع ما يستطيع من النقود ليرسلها إلى الزوجة والأولاد حتى لا تتعرض الأرض للبيع، ويستولي عليها الآخرون. وفي هذا الصدد يمكننا القول إن القصص التي كتبها محمد عبدالولي عن المغتربين، وهي كثيرة، لا توحي بأي قدر من التعاطف مع هؤلاء البؤساء النازحين الذين أبعدتهم الظروف القاسية عن الوطن مضطرين حتى غدت هجرة اليمنيين ظاهرة اجتماعية شائعة في العهد السابق، علماً بأنه ابن واحد من هؤلاء المهاجرين إلى أثيوبيا، حيث أنه ولد في مدينة دبرهان الأثيوبية عن أب يمني وأم أثيوبية، وكان والده من اليمنيين الذين انضموا إلى حركة الأحرار اليمنيين.
وربما كانت معاناته تلك سبباً في إدانته للغربة والمغتربين وكراهيته للهجرة، وإلى ضرورة تمسك الإنسان بأرضه تحت كل الظروف، إذ لا قيمة لإنسان لا أرض له، ولا مكان ينتمي إليه، إنه يظل غريباً في مهجره بلا جذور كالمعلق في الفضاء.
وصاحب هذه المجموعة القصصية لا يبخل على المهاجرين بتعاطفه وحسب، وإنما يتهمهم بالجبن والتخاذل، كما في قصة « الأرض يا سلمى ». وقصة « على طريق أسمرا ».
وفي قصة « المومس » من مجموعته الثانية « شيء اسمه الحنين »، وقصص أخرى، وكما في روايته « يموتون غرباء « حينما يتهمهم بالهروب من وجه الظلم بدلاً عن مقاومته، وهو لا يكتفي برفض المبررات التي يسوقها هؤلاء المهاجرون لتبرير هروبهم، ونراه يصرخ في وجه أحدهم: « إنك تتحدث أربعاً وعشرين ساعة عن تحرير بلادك، ولكنك لن تحررها مطلقاً، لقد هربت، أتعرف؟ من هنا لن تستطيع إلاَّ أن تصرخ بملء فمك: أيها الظالم سننتقم. ولكنك تفتح فمك ولن يسمع احد صوتك سوانا « وفي مكان آخر ينقل حديثاً حزيناً من أب مهاجر إلى طفله الذي ولد بعيداً عن أرضهما، ومما جاء في ذلك الحديث « أنظر يا صغيري هنا في كل هذه المقبرة ينام إلى الأبد، أناس غرباء لم تلدهم هذه الأرض، ولم تنشئهم وتربهم، ولكنها قتلتهم لأنهم قوم غرباء، لقد خانوا تربتهم لأنهم لم يدفنوا فيها، كم هو سعيد ذلك الذي يدفن في تربته وفي أرضه.
ذلك هو محمد عبدالولي الفنان الإنسان الذي رحل عن أربعة وثلاثين عاماً، أي في قمة العطاء، وفي حادث طائرة يقال أنها كانت ملغومة، ويقال غير ذلك، حيث ما يزال ملف سقوطها الغامض مفتوحاً ولم يقفل إلى حد الآن.
يرى الدارسون لفنون السرد الإبداعي، ان فن القصة القصيرة شأن فن الرواية أيضاً لا يحققان وجودهما في واقع جامد وغير مستقر، فهما بحاجة إلى مناخ أكثر استقراراً وتحضراً من الشعر الذي يرافق الإنسانية في كل أطوارها، لذلك فقد تأخر ظهور القصة القصيرة في اليمن إلى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، مع إرهاصات بالغة الندرة، ظهرت في أواخر الأربعينيات من القرن نفسه. ويمكن لدارس هذا الفن في اليمن أن يرجع الظهور الحقيقي للقصة القصيرة إلى ما بعد قيام الثورة اليمنية سبتمبر 1962م، ويربط بين ميلادهما صدور (الأرض يا سلمى) عن دار الآداب في بيروت عام 1965م كأول مجموعة قصصية مكتملة الأداء.
محمد عبد الولي، هو رائد القصة الحديثة في اليمن. ولم تكن صفة الرائد التي تلحق باسمه دائماً اعتباطية، أو من باب إضفاء الألقاب على من لا يستحقها، وإنما كانت تقريراً عن حقيقة يعترف بها الجميع، فقد كان محمد عبد الولي القاص الأول ورائد هذا الفن دون منازع، فهو الذي وضع الأسس الحديثة في هذه البلاد لكتابة قصة ذات أفق جديد في أسلوب القص، وفي التقاط معطيات الواقع من خلال رؤية فنية ولغوية توحي أكثر مما تخبر، وتتعامل مع الرمز في أرقى مستوياته.
صحيح أن ثلاثة أو أربعة من الرواد الأوائل كانوا قد سبقوا محمد عبد الولي إلى كتابة القصة القصيرة، لكنهم لم يخرجوا عن طريقة السرد التقليدي الذي اشتهرت به القصة العربية في الثلاثينات والأربعينيات من القرن العشرين المنصرم، ولم يبلغوا ما بلغه من اتقانه لشروط هذا الفن، وتمثل لمقوماته الحديثة، فضلاً عن إمتلاكه لتقنيته الخاصة، في استخدام الرموز، وإعطاء القصة التي يكتبها معادلاً موضوعياً للحياة المباشرة وآخر رمزياً يجعل القارئ يشعر بالانتشاء حين الاهتداء إليه، كما هو الحال - على سبيل المثال- في قصة (الغول) الذي يرمز إلى الحاكم، أو قصة (سينما لصي طفي) التي ترمز إلى الفوارق الطبقية من خلال التراتبية في جلوس المشاهدين « صالة وبلكون ». ويلاحظ أن محمد عبد الولي يحاول أن يقترب برموزه كثيرا من القارئ الذي يشعر أنه يكتشف عالماً مبهراً، حين يهتدي إلى حقيقة الرمز، وما يخفي وراءه من دلالات فنية، تجعل القصة ذات بعدين أحدهما : واقعي مباشر، والآخر رمزي أبعد ما يكون عن المباشرة، وهو ما لا يجيده سوى كبار المبدعين في هذا الفن السردي.
وتجدر الإشارة إلى أن محمد عبد الولي كان ومايزال يحتل مكان الصدارة في مجال الإبداع القصصي بالرغم من ظهور عشرات المواهب الجديدة التي تقدمت بفن كتابة القصة خطوات مستفيدة من التحولات التي طرأت على المشهد السردي وعلى التجرية القصصية وتكويناتها الموضوعية والفنية. ومايزال الحكم الذي خرج به الناقد الأكاديمي المعروف الدكتور عبد الحميد إبراهيم في كتابه (القصة اليمنية المعاصرة) قابلاً لتفسير المكانة التي يحتلها هذا القاص المبدع في واقع الإبداع الراهن ليمن اليوم: « ولو قمنا بتجربة فرضية ومحونا مؤقتاً قصص محمد عبد الولي، لاهتزت المحصلة النهائية، ونكاد لا نلتقي بقاص أخلص إخلاصه لهذا الفن، وأوقف حياته عليه. إن هناك ظروفاً شخصية وخارجية ساعدت على بروز هذه الظاهرة، فهو يملك وقدة العبقرية التي تحترق، وتقدم ما عندها أو تموت دونه ».
لمحمد عبد الولي روايتان هما (يموتون غرباء)، و (صنعاء مدينة مفتوحة) وله أربع مجموعات قصصية هي ( الأرض يا سلمى )، و ( شيء اسمه الحنين )،
و ( العم صالح )، و ( ريحانة ) . والمجموعة الأخيرة صدرت عن «اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين »، وتضم مجموعة من القصص التي لم تنشر أو التي تم نشرها في الصحافة ثم لم تضم إلى أي من مجموعاته الثلاث، وفي هذه المجموعة ما يمكن اعتباره وثائق إبداعية ذات مدلول خاص لفهم تطوره الإبداعي، وتراكم خبراته في مجال هذا الفن السردي البديع . وهناك من يقول إن له رواية لم تتم، وأعمالاً قصصية اخرى كان يعدها للنشر وربما احترقت في الحقيبة التي رافقته في رحلته الفاجعة على طائرة الأنتينوف الروسية المشؤومة، التي انفجرت في الجو في صباح الثلاثين من إبريل عام 1973م وهي في طريقها إلى حضرموت، قادمة من شبوة.
الذين عرفوا المبدع محمد عبد الولي يدركون أنه كان إنساناً مسكوناً بهذا الفن السردي، ومغموراً بأضوائه، وكأنما ولد ليكون قاصاً وروائياً، فكما يروى عنه انه كانت له قدرة فائقة على القص حتى في أحاديثه العادية، التي تأتي عفوية ومعبرةً عن تجارب حية نابضة، وقادرة على أن تسرقك من نفسك، ومن مشاغلك بسهولة نادرة، ودون أن تشعر بأقل قدر من الملل. وهنا في صنعاء، وهناك في القاهرة، وبرلين كانت لنا لقاءات يتحول فيها المبدع الراحل إلى سارد ماهر يشدك بصوته العذب، وبما تحتشد به أحاديثه من حكايات، وذكريات، وأفكار ذات صلة بالواقع، والتاريخ والفن والأدب.
بدأ محمد عبد الولي رحلته مع القصة القصيرة في منتصف الخمسينيات، وهو طالب في مدرسة « المعادي « الثانوية وهي إحدى ضواحي القاهرة. وكانت مدرسته الأولى، بالإضافة إلى ما يقرأ مما تنشره المجلات والصحف من قصص مكتبة صغيرة في طرف الحديقة اليابانية الشهيرة في « حلوان » حيث كان يمضي الساعات الطويلة منكباً على قراءة كل ما تضمه المكتبه، وفي عالم القصة بخاصة، فما بين ثانوية المعادي، وتلك المكتبة الصغيرة في « حلوان « كان محمد عبدالولي يقطع المسافة بين الضاحيتين ( المعادي وحلوان ) مشياً على الأقدام، وهو يتخيل نفسه وقد أصبح قاصاً كبيراً يتحدث عنه كبار النقاد كما يتحدثون - يومئذ- عن انطوان تشيخوف ويوسف أدريس .
الإشارة السابقة إلى انطوان تشيخوف تعود باذهاننا إلى العلاقة العميقة التي ربطت بين محمد عبدالولي وكتابات ذلك الفنان الروسي العظيم، فقد زادت صلته به أكثر عندما ذهب للدراسة في موسكو، وأجاد اللغة الروسية لدرجة جعلت الرئيس الروسي الأسبق خرتشوف يفضل روسيته على روسية المترجم الروسي الأصل، عندما تولى الأثنان الترجمة بينه وبين المشير عبدالله السلال في زيارته الوحيدة إلى الاتحاد السوفيتي. وقد انتشرت هذه الشهادة من أكثر من عضو في الوفد الذي رافق الرئيس السلال، ومن الرئيس السلال نفسه. ومن نافل القول بأن معرفة محمد عبد الولي باللغة الروسية قد مكنته من قراءة الأعمال القصصية والروائية لعمالقة هذا الفن في تلك البلاد أمثال، تولستوي وديستيوفسكي، وتورجنيف، وجوجول، وتشيخوف بالطبع، وآخرين . يضاف إلى ذلك متابعته الدائمة لكل ما ينتجه المبدعون العرب في هذا المجال.
إن مجموعة « الأرض ياسلمى «، هي أولى الأعمال المنشورة للرائد محمد عبدالولي، وتضم قصتين من محاولاته الأولى كتبها، وهو طالب في القاهرة. وإذا كان لكل كاتب فنان ثيمته أو موضوعته التي تدور عليها أغلب أعماله، فقد كانت الثورة هي تلك الثيمة أو الموضوعة التي يتوسل الوصول إليها عن طريق الحديث في قصصه ورواياته كثيراً عن الهجرة والمهاجرين، وعن الأرض التي تركوها لنسائهم حيث يواصلن الحرث، والسقي، والبذار، والحصاد. وفي قصة ( الأرض ياسلمى ) التي صارت عنواناً للمجموعة، يغوض قلب الإنسان في الأرض كما تغوض المياه، ويسقيها بالدموع والدم كما تسقيها الأمطار.. المرأة تحرث، وتحصد، وترعى شؤون المنزل في غياب الرجل المهاجر، وهو هناك بعيداً في البحر، البحر الكبير حيث يجمع ما يستطيع من النقود ليرسلها إلى الزوجة والأولاد حتى لا تتعرض الأرض للبيع، ويستولي عليها الآخرون. وفي هذا الصدد يمكننا القول إن القصص التي كتبها محمد عبدالولي عن المغتربين، وهي كثيرة، لا توحي بأي قدر من التعاطف مع هؤلاء البؤساء النازحين الذين أبعدتهم الظروف القاسية عن الوطن مضطرين حتى غدت هجرة اليمنيين ظاهرة اجتماعية شائعة في العهد السابق، علماً بأنه ابن واحد من هؤلاء المهاجرين إلى أثيوبيا، حيث أنه ولد في مدينة دبرهان الأثيوبية عن أب يمني وأم أثيوبية، وكان والده من اليمنيين الذين انضموا إلى حركة الأحرار اليمنيين.
وربما كانت معاناته تلك سبباً في إدانته للغربة والمغتربين وكراهيته للهجرة، وإلى ضرورة تمسك الإنسان بأرضه تحت كل الظروف، إذ لا قيمة لإنسان لا أرض له، ولا مكان ينتمي إليه، إنه يظل غريباً في مهجره بلا جذور كالمعلق في الفضاء.
وصاحب هذه المجموعة القصصية لا يبخل على المهاجرين بتعاطفه وحسب، وإنما يتهمهم بالجبن والتخاذل، كما في قصة « الأرض يا سلمى ». وقصة « على طريق أسمرا ».
وفي قصة « المومس » من مجموعته الثانية « شيء اسمه الحنين »، وقصص أخرى، وكما في روايته « يموتون غرباء « حينما يتهمهم بالهروب من وجه الظلم بدلاً عن مقاومته، وهو لا يكتفي برفض المبررات التي يسوقها هؤلاء المهاجرون لتبرير هروبهم، ونراه يصرخ في وجه أحدهم: « إنك تتحدث أربعاً وعشرين ساعة عن تحرير بلادك، ولكنك لن تحررها مطلقاً، لقد هربت، أتعرف؟ من هنا لن تستطيع إلاَّ أن تصرخ بملء فمك: أيها الظالم سننتقم. ولكنك تفتح فمك ولن يسمع احد صوتك سوانا « وفي مكان آخر ينقل حديثاً حزيناً من أب مهاجر إلى طفله الذي ولد بعيداً عن أرضهما، ومما جاء في ذلك الحديث « أنظر يا صغيري هنا في كل هذه المقبرة ينام إلى الأبد، أناس غرباء لم تلدهم هذه الأرض، ولم تنشئهم وتربهم، ولكنها قتلتهم لأنهم قوم غرباء، لقد خانوا تربتهم لأنهم لم يدفنوا فيها، كم هو سعيد ذلك الذي يدفن في تربته وفي أرضه.
ذلك هو محمد عبدالولي الفنان الإنسان الذي رحل عن أربعة وثلاثين عاماً، أي في قمة العطاء، وفي حادث طائرة يقال أنها كانت ملغومة، ويقال غير ذلك، حيث ما يزال ملف سقوطها الغامض مفتوحاً ولم يقفل إلى حد الآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.