محافظة الجوف: نهضة زراعية غير مسبوقة بفضل ثورة ال 21 من سبتمبر    الربيزي يُعزي في وفاة المناضل أديب العيسي    الأرصاد يخفض الإنذار إلى تحذير وخبير في الطقس يؤكد تلاشي المنخفض الجوي.. التوقعات تشير إلى استمرار الهطول    تشكيل "قوات درع الوطن" لصاحبها "رشاد العليمي" غير قانوني (وثيقة)    الكوليرا تفتك ب2500 شخصًا في السودان    الخونة خارج التاريخ    جائزة الكرة الذهبية.. موعد الحفل والمرشحون    للمرة السادسة.. "فيتو" أميركي في مجلس الأمن يفشل مشروع قرار لوقف النار في غزة    قبيل التطبيع: اتفاقيات أمنية سورية مع إسرائيل قبل نهاية العام    البوندسليجا حصرياً على أثير عدنية FM بالشراكة مع دويتشه فيله    جنوبيا.. بيان الرئاسي مخيب للآمال    لماذا تراجع "اليدومي" عن اعترافه بعلاقة حزبه بالإخوان المسلمين    ذكرى استشهاد الشهيد "صالح محمد عكاشة"    راشفورد يجرّ نيوكاسل للهزيمة    صندوق النظافة بتعز يعلن الاضراب الشامل حتى ضبط قتلة المشهري    حين تُغتال النظافة في مدينة الثقافة: افتهان المشهري شهيدة الواجب والكرامة    تعز.. إصابة طالب جامعي في حادثة اغتيال مدير صندوق النظافة    تجربة الإصلاح في شبوة    سريع يعلن عن ثلاث عمليات عسكرية في فلسطين المحتلة    وعن مشاكل المفصعين في تعز    الصمت شراكة في إثم الدم    الفرار من الحرية الى الحرية    ثورة 26 سبتمبر: ملاذٌ للهوية وهُويةٌ للملاذ..!!    مسيّرة تصيب فندقا في فلسطين المحتلة والجيش الاسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ ومسيّرة ثانية    الهيئة العامة للآثار تنشر القائمة (28) بالآثار اليمنية المنهوبة    إشهار جائزة التميز التجاري والصناعي بصنعاء    انخفاض صادرات سويسرا إلى أميركا بأكثر من الخُمس بسبب الرسوم    مجلس القضاء الأعلى ينعي القاضي عبدالله الهادي    البنك المركزي يوجه بتجميد حسابات منظمات المجتمع المدني وإيقاف فتح حسابات جديدة    بتمويل إماراتي.. افتتاح مدرسة الحنك للبنات بمديرية نصاب    نائب وزير الإعلام يطّلع على أنشطة مكتبي السياحة والثقافة بالعاصمة عدن    الوفد الحكومي برئاسة لملس يطلع على تجربة المدرسة الحزبية لبلدية شنغهاي الصينية    تعز.. احتجاجات لعمال النظافة للمطالبة بسرعة ضبط قاتل مديرة الصندوق    برغبة أمريكية.. الجولاني يتعاهد أمنيا مع اسرائيل    موت يا حمار    أمين عام الإصلاح يعزي الشيخ العيسي بوفاة نجل شقيقه ويشيد بدور الراحل في المقاومة    يامال يغيب اليوم أمام نيوكاسل    مفاجأة طوكيو.. نادر يخطف ذهبية 1500 متر    نتائج مباريات الأربعاء في أبطال أوروبا    رئيس هيئة النقل البري يعزي الزميل محمد أديب العيسي بوفاة والده    دوري أبطال آسيا الثاني: النصر يدك شباك استقلال الطاجيكي بخماسية    مواجهات مثيرة في نصف نهائي بطولة "بيسان الكروية 2025"    الامم المتحدة: تضرر آلاف اليمنيين جراء الفيضانات منذ أغسطس الماضي    حكومة صنعاء تعمم بشأن حالات التعاقد في الوظائف الدائمة    استنفاد الخطاب وتكرار المطالب    التضخم في بريطانيا يسجل 3.8% في أغسطس الماضي    غياب الرقابة على أسواق شبوة.. ونوم مكتب الصناعة والتجارة في العسل    لملس يزور ميناء يانغشان في شنغهاي.. أول ميناء رقمي في العالم    وادي الملوك وصخرة السلاطين نواتي يافع    العرب أمة بلا روح العروبة: صناعة الحاكم الغريب    خواطر سرية..( الحبر الأحمر )    رئيس هيئة المدن التاريخية يطلع على الأضرار في المتحف الوطني    اكتشاف نقطة ضعف جديدة في الخلايا السرطانية    100 دجاجة لن تأكل بسه: قمة الدوحة بين الأمل بالنجاة أو فريسة لإسرائيل    في محراب النفس المترعة..    بدء أعمال المؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم في صنعاء    العليمي وشرعية الأعمى في بيت من لحم    6 نصائح للنوم سريعاً ومقاومة الأرق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع بيع مصر بواسطة صكوك « إسلامية»
نشر في 14 أكتوبر يوم 17 - 01 - 2013

يبدو لي أن مصير الدولة في رؤية جماعة الإخوان المسلمين، أقرب إلى بنود وصية كتبها أحد أبطال رواية شهيرة ل ‹ديستوفيسكي› اسمها ‹الشيطان› فقد كانت بنود الوصية تقول، إن الرجل قرر أن يوزع ثروته بعد موته على خدمة الصناعة، وأن يهب هيكله العظميّ لتعليم طلاب كلية الطب، أما ما تبقّي منه وهو جلده، فقد أوصى بسلخه لتُصنع منه طبول قوية يُدقّ عليها إيقاع النشيد الوطنيّ، صباح مساء.
وإذا كانت الثروة والأصول الوطنية، سوف يتم العصْف بها ، وارتهانها خارج الوطن لستة عقود على الأقل، وإذا كان الهيكل العظمي للدولة، مؤسسات وهياكل إنتاج، سوف يتم فتح الباب على مصراعيه أمام الاحتكارات الدولية للاستحواذ عليها، وفق مشروع الصكوك السياديّة الإسلامية، فإن ما سيتبقى في النهاية من الدولة، أينما ذهبت الأصول وهياكل الإنتاج، لن يكون سوى الجلد الرقيق ذاته، الذي يمكن أن يستخدم طبولا، للتنبيه إلى بقاء الوطن حيّا، فيما تبقّى من أناشيده أو ذاكرة أهله المنكوبين.
نحن للأسف لا نقرأ الظواهر والتوجّهات والأقوال إلا بالتجزئة، فلا نقيم الروابط العضوية الطبيعية بين مفرداتها وأطرافها، كي نستبين هيكلها الكامل الذي يواجهنا ووجهها الحقيقي، بكل ما يكتنفه من دمامة وقبح، لقد انتابني هذا الشعور بعمق، وأنا اتفحّص بنود مشروع الصكوك السياديّة، التي تم تعطيرها باسم الإسلام، لإبعاد روائح العفونة الكامنة فيها عن الأنوف، قبل أن استحضر بشكل عفوي إلي جوارها عدة ظواهر وتوجهات وأقوال، يمكن للوهلة الأولى إدراك أنها جزء لا يتجزأ منها، ولو أن الروابط بينها لا تبدو مستقيمة ولا ملتحمة، ذلك أنها جميعها تدخل في باب واحد هو: باب السيادة الوطنية، أو قل إذا أردت الدقة: نفي السيادة الوطنية، وإذا كان مشروع الصكوك السيادية هو بدنها، فإن وعود د. مرسي الانتخابية بالحصول على 200 مليار دولار من الخارج هي نطفتها الأولى، في الوقت الذي تمثّل فيه المادة 145 من الدستور المختطف، أطرافها، وإذا كانت تصريحات د. العريان التي منحت اليهود المصريين حق العودة هي حنجرتها وفمها، فإن عملية إدارة تعويم الجنيه المصري القائمة الآن، وما يصاحبها من زيادة الضرائب ورفع الدعم، هي الوقود السائل الذي يتم صبّه في آلتها بوصفها جزءًا من الاتفاق أو التوافق مع شروط البنك الدولي، ومنظومة الاحتكارات الدولية.
وربما لهذا يبدو أننا بصدد خطوات وتوجهات ومشروعات وتصريحات، ليس للعشوائية أو المصادفة نصيب فيها، فهي مقررة ومرتبة، بل هي سابقة التجهيز.
أما الوعود الانتخابية ذات ال 200 مليار دولار فهي معروفة ومشهرة، وقد تعرض د. مرسي بسببها إلى نقد لاذع، بسبب ما بدا من أنها وعود في الفراغ، دون أن يفطن أحد إلي أنها وعود جادة، في إطار استراتيجية متكاملة لبيع الأصول الوطنية، وأما المادة 145 من الدستور، فهي تتيح لرئيس الجمهورية منفردًا تمثيل الدولة في العلاقات الخارجية، وإبرام معاهدات تسمح بتقسيم الأراضي المصرية، وتغيير الحدود، افتئاتًا علي حقوق السيادة المطلقة، وذلك دون الرجوع إلى مجلس الوزراء، اكتفاء بموافقة ثلثي أعضاء المجلس النيابي، وهي مادة تم الإصرار على تمريرها بالتحايل، في مواجهة رفض ممثل القوات المسلحة في لجنة إعداد الدستور، بحذفها من المادة 150 وإضافتها إلي المادة المذكورة، وأما 'وعد العريان' لليهود المصريين فهو أشد ما يكون تلازما وارتباطًا ببنية مشروع الصكوك السيادية، الذي يرتبط بدوره بالأمرين السابقين، وأما إدارة تعويم الجنيه المصري القائمة الآن باسم التصدي للمضاربة على سعره، فهي بدورها وما سينتج عنها من آثار، بمثابة تخفيض عيني لأسعار هذه الأصول السيادية وهياكل الإنتاج، تسهيلاً لعملية تسويقها، في ظل حاجة ملحّة، وعملة متداعية، وبالتالي أسعار بخسة.
وإذا كان جسم التوجه، هو مشروع الصكوك السيادية، فإن التوقف أمام بنوده ينبغي أن يحظي بالأولوية.
سوف تجد في المادة الأولي من نصّ مشروع الصكوك السيادية، ما يلفت بقوة إلى تحديدين ملزمين هما: توصيف الصكوك بأنها 'سيادية' وأن قانونها وأحكامها تتمتع بدورها بالسيادة، فقد أسبغت على نفسها سلطة سيادية فوق كل أحكام أي قانون آخر يتعارض مع أحكامها، أي أنها صكوك فوق حقوق السيادة الوطنية والاقتصادية والقانونية، التي تسري أحكامها كافة على ما عداها من الحقوق والقوانين، سواء أكانت سابقة أو قائمة أو تالية، وبالتالي فنحن أمام صكوك لا سيادة لقانون أو حكومة أو سلطة عليها، فهي فوق سلطة الحكم وسلطة التشريع، وسلطة الدولة، وهو ما يعني أننا بصدد إنشاء دولة جديدة موازية في مصر هي 'دولة الصكوك' التي تتمتع بسيادة كاملة ومستقلة، لا تقبل الطعن بكل صوره وأشكاله، وسوف تجد عندما تنغمس في تلافيف المواد المؤسسة لهذه الدولة الجديدة الموازية، أن القواعد المنشئة لقيم هذه الدولة ذات السيادة، يمكن أن تُستخلص تحديدًا فيما يلي:
أولاً: أن الطريق أمامها مفتوح كي تصدر أوراقاً مالية اسمية، سواء بالجنيه المصري أو العملات الأجنبية.
ثانيًا: أن الطريق أمام صدورها مفتوح من الناحيتين: الاكتتاب العام أو الخاص، أي المغلق 'وغير المحدد الملامح'.
ثالثًا: أنها ستمثل حصصًا شائعة في ملكية الأصول الوطنية 'أعياناً أو منافع أو خدمات أو خليطاً منها أو ملكية موجودات مشاريع بعينها'.
رابعًا: أن حق الانتفاع للمالكين من حملة هذه الصكوك داخل دولتها المستقلة، يعني حق الاستخدام الكامل للأصول بشرط واحد، ألا يؤدي هذا الاستخدام الكامل إلي فناء هذه الأصول، أما ما دون فنائها، وهو تعبير أكثر اتساعًا من تعبيرات أخري، مثل إتلافها أو تغيير وظيفتها... الخ، فهو جزء من الحقوق الثابتة والدائمة.
خامسًا: أن حق الانتفاع هو دالة على الملكية الكاملة، ولذلك فهو حسب بنود المشروع، لا يتطلب شهرًا أو تسجيلاً، لسنده أو للعقود المرتبطة به 'لأنه من الطبيعي ألا يرتبط تسجيل الملكية أو نقلها للغير في دولة الصكوك ذات السيادة، بإعادة تسجيلها في دولة أخرى لا تخضع لأنظمتها أو لوائحها القانونية'!
سادسًا: حقوق الملكية تشمل جميع الحقوق المقررة شرعًا حسب نص المادة الثانية والتي هي أكثر اتساعًا بدورها، من حقوق البيع والرهن والوصية، فمن بينها دون نصّ حق التفويض والتنازل والهبة. والاندماج في كل أو جزء من حقوق الملكية الأخرى الشائعة، في أصل وطني بعينه، أو بقية الأصول الوطنية، أي أن كل صكوك منشأة بعينها أو أصل بعينه، يمكن أن تنتهي في يد مالك واحد، سواء أكان فردًا أو شركة أو بنكًا أو دولة.
سابعًا: تنقسم أهم أنواع هذه الصكوك، وهي 'صكوك الإجارة' إلى نوعين: صكوك ملكية الأصول القابلة للتأجير، وهي تخص تمويل شراء أصل أو عين قابلة للتأجير، سواء أكانت مؤجرة أو موعوداً باستئجارها، حيث يمثل الصك حصة شائعة في ملكية الأصل ماديًّا أولاً، وعلى سبيل المنفعة ثانيًا، وفي الحصول على أجرتها بعد تأجيرها ثالثًا، أما النوع الثاني، فهو صكوك ملكية الأصول القابلة لإعادة التأجير، وهي تخص تمويل شراء أصول مؤجرة، حيث يمثل الصك حصة شائعة في ملكية منفعة الأصل دون مادته، وفي أجرتها، ويحق لمؤجرها أن يعيد تأجيرها لمن يشاء من الباطن بنص القانون، ويمكن للتقريب تمثيل الصنف الأول من 'صكوك الإجارة' بصكوك ملكية الأراضي التي تمثل أضلاع قناة السويس وتخومها علي الجانبين، وهي صكوك ملكية مادية، ولكنها مفتوحة للغير من المالك الأول، إلى مالك آخر، أو مُلَّاك آخرين أيًّا كانوا دون قيود، كما هي صكوك منفعة يمكن تأجيرها للآخرين أيًّا كانوا أيضًا ودون قيود، أما الصنف الثاني من هذه الصكوك، فيمكن تمثيله بصكوك تأجير منفعة المجرى الملاحي ذاته، وهي صكوك منفعة وتأجير من الباطن بنص القانون، وكلا الأمرين يتم داخل 'دولة الصكوك' بحقوق كاملة السيادة، خارج إطار سيادة الدولة.
ثامنًا: سلطة إصدار هذه الصكوك السيادية، ليست في يد الحكومة وحدها، ولكنها إضافة إليها في يد 'الهيئات العامة' و 'وحدات الإدارة المحلية' و'الأشخاص الاعتبارية العامة' بعد موافقة الحكومة، أما وزير المالية فتقتصر مهمته علي الإدارة في هذا الصنف من الصكوك.
تاسعًا: تستخدم حصيلة الصكوك بالترتيب في دعم الموازنة العامة للدولة، ثم المساهمة في تمويل وتطوير المشروعات التي يحددها مجلس الوزراء، ثم غيرها من المصارف الشرعية 'غير المحددة'، أي أننا سنبيع هذه الأصول السيادية، أو نرهنها في الحد الأدني، كي نضخ عوائدها في الإنفاق العام، تمامًا كمن يبيع أعضاءه الحيوية، ليأكل بثمنها.
عاشرًا: ينفرد رئيس الجمهورية وحده، بقرار تحديد الأصول الثابتة المملوكة للدولة، التي تصدر مقابلها الصكوك أي أنه ينفرد بتحديد الأصول السيادية المملوكة للدولة، التي يقوم ببيعها أو رهنها أو وضعها بمقابل غير محدد، تحت سيادة أخرى غير سيادة الدولة، ويمنحها بالمقابل حق بيعها أو تأجيرها للآخرين المجهولين، وهو ما يشكل أخطر بنود القانون دون شك، وتتوقف مهمة مجلس الوزراء، علي عرض هذه الأصول عليه لانتقاء منها، أما الأصول المنقولة فيحددها رئيس مجلس الوزراء، ويتوقف دور وزير المالية علي عرضها الأخير.
حادي عشر: أمد السيادة علي الأصول السيادية للمنتفعين بالصكوك بجميع أنواعها 60 عامًا كاملة، ولا موانع ولا شروط لإعادة تأجيرها للجهات نفسها، أو بيعها نهائيًّا لصالحهم، بعد انتهاء هذه العقود الست.
ثاني عشر: يعطي المشروع لغير المصريين عربًا أو أجانب، حق جمع الأموال من المصريين عبر الصكوك، أي أن المشروع في جانب منه، لا يخرج عن السماح بقيام شركات توظيف أموال غير وطنية، لا تضخ أموالاً للاستثمار في مصر، ولكنها تحصل على أموالها واستثماراتها من عموم المصريين، بضمانات من الحكومة المصرية.
ثالث عشر: يمنح المشروع للأجانب إمكانية الدخول في عمليات الملكية أو التأجير طويل الأمد، لمشروعات البنية الأساسية في المياه والكهرباء والصرف الصحي، وفق نظام B.O.T وهو نظام اضطر النظام السابق إلي العدول عنه، نظرًا لمقاومته الشديدة من جانب منظومة الأمن القومي لآثاره الوخيمة على أسعار الخدمات المقدمة للقاعدة الاجتماعية العريضة، وعلى تجريف الأرصدة الوطنية من العملات الأجنبية، التي يتم نزحها إلى الخارج بموجبه.
رابع عشر: تربط بنود القانون بين إصدار الصكوك، ومشروعات ومرافق عامة للدولة غير محددة، وهو ما يعني أن المشروع من جانب منه، يتوجه إلي خصخصة ما تبقي من القطاع العام، والشركات المملوكة للدولة.
خامس عشر: أما وجه الغرابة الأخير في المشروع فيتعلق ببند العقوبات التي يتضمنها، وإذا كان من الطبيعي أن تحدد عقوبات لمن يقوم بسوء قصد بتقويم الحصص العينية بأقل من قيمتها، أو من يذكر عمدًا بيانات غير صحيحة في الميزانيات أو حساب الأرباح والخسائر، أو يخالف أحكامًا بعينها في القانون، وكلها جرائم حرص القانون علي أن يحدد آليات تجاوزها والعفو عنها بتعبيرات مقابلة، مثل حسن النية، أو عدم العمد، لكنه ليس طبيعيٍّا، أن تكون عقوبة السجن مُشْهَرَةً في وجه كل من أفشى سرًا اتصل به بحكم عمله تطبيقًا لأحكام القانون الخاص بهذه الصكوك السيادية، وكأننا لا نقيم 'دولة الصكوك' مستقلة السيادة فحسب، ولكن 'دولة الصكوك' التي تحيط نفسها بجدار عازل، يلاحق السجن كل من يخترق أسوارها، أو من ينقل جانبًا مما يدور داخلها إلى الدولة الأم، باعتباره يفشي أسرارًا لا يجوز البوح بها على جانب، وباعتبار الأخيرة مجردة تمامًا من السيادة عليها، علي الجانب الآخر!
لقد جاء موقف مجمع البحوث الإسلامية برفض المشروع، تعبيرًا قويًّا عن حس وطني رفيع، وعن عقيدة وطنية راسخة، تستحق الإكبار والتقدير، خاصة أن مضمون رفضه استند إلي رؤية موضوعية لحقيقة أن المشروع هو بداية لبيع مصر، والسماح للأجانب بامتلاك أرضها ومؤسساتها وملكياتها العامة، وهو ما وضع جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة في تلافيف أزمة حقيقية، لم يكن ثمة سبيل للإفلات منها ومن دائرتها المغلقة، سوي الطعن، لا في المشروع ذاته فحسب، بل في وزارة المالية التي صُورّت علي أنها انفردت به، بل تآمرت عليه وعلي أصحابه الأصليين، غير أن الأمر لا يخلو في تقديري من محاولة لإعادة طبخ المشروع بمحسنات شكلية جديدة، قد تغطي على بعض عواره بغية إعادة تجميع ضغوط إضافية لتمريره من جديد، والشاهد على ذلك أمران، الأول أن المشروع قد تم عرضه علي مجلس الوزراء، وقد تمت الموافقة عليه وإحالته بقرار منه إلى مجمع البحوث الإسلامية، لإبداء الرأي فيه من زاوية واحدة هي الصفة الإسلامية، التي تم لصقها على صدره، والثاني أنه عندما شكَّل مجمع البحوث الإسلامية، لجنة مختصة مصغرة في البداية لدراسته قبل عرضه علي المجمع بكامل أعضائه، تعرضت اللجنة لضغوط هائلة من جانب أعضاء من الإخوان في الحكومة، لإقراره والموافقة عليه، ولكنها انحازت إلي ضميرها الوطني، وأهملت الضغوط الإخوانية، وحتي في إطار اجتماع المجمع بكامل أعضائه في المرحلة التالية، فقد كانت هناك فئة قليلة من الأعضاء تعد علي أصابع اليد الواحدة، بلغ إصرارها على تمرير المشروع، حد التهديد بانسحابها من الاجتماع، إذا استمر رفض الأغلبية الساحقة من أعضاء المجمع له، وسوف يكون من قبيل السذاجة المفرطة فوق ذلك تصور أن موافقة الوزراء الذين ينتسبون لجماعة الإخوان على المشروع، لم تكن تالية على عرضه علي الجماعة، وموافقتها عليه، بغض النظر عن دورها المؤثر في صياغة بنوده.
والحقيقة أن المنطق ذاته الذي تعامل به حزب الحرية والعدالة، مع رفض المشروع من قبل مجمع البحوث الإسلامية، بعد أن بدت سوءاته، هو ذاته المنطق الذي تعامل به مع تصريحات 'العريان' عندما فجرت مساحة مشتعلة من الغضب في صفوف الرأي العام، رغم وسام لقب البطل المحب للشعب اليهودي، الذي تم خلعه في قلب إسرائيل، ففي الحالتين كانت المواجهة هي التنكر والإنكار ودفع الضرر وإلحاقه بالغير أو بأصحابه المباشرين، سواء أكانت وزارة المالية أو شخص نائب رئيس الحزب ورئيس أغلبيته البرلمانية الكاسحة، ومستشار رئيس الجمهورية، الذي لا ينطق بحكم الطبيعة الخاصة للجماعة والحزب، عن اجتهاد ذاتي، رغم أنه تحمل الهوان وغرس خنجره بيده في صدره.
عن أي مشروع إذن نتحدث، وعن أي علاقة بينه وبين الإسلام العظيم، بشفافيته وبرّه وعدله وتقواه، أنه في الحقيقة رغم الصياغة الإسلامية الزائفة التي طلي وجهه بها، ليس مشروعًا ولا قانونًا، ولكنه عمل لا يدخل في باب السياسة أو الاقتصاد، بقدر ما يدخل في باب الجريمة المنظمة، فلا يشبهه ولا يدانيه، انحدارًا وتواطؤًا وتفريطًا ودونية، أي عمل سابق أقدمت عليه سلطة حاكمة على امتداد التاريخ الوطني كله، بمن في ذلك أولئك المتمصرون من أبناء محمد علي، الذين جلسوا على مقاعد الحكم بعد أن تم تقويض مشروعه، وتم فتح الباب على مصراعيه قسرًا أمام أكبر عملية نهب استعماري منظم، تعرض لها البلد في القرن التاسع عشر، من خلال استراتيجية الديون، والتغلغل والسيطرة المالية والاقتصادية، والاستحواذ على الأصول، والتي لم تكن جميعها أكثر من جسور طبيعية للاحتلال العسكري المباشر.
.... ويا أيها المتمركزون علي ذواتهم، المتدافعون بحثًا عن قطعة باقية من كعكة السلطة، المتخلفون عن نبض شارع يموج بالفقر والإحباط والغضب: مصر في قلب الخطر، وهو خطر لا يدانيه خطر آخر، لا خطر التهديد بقعقعة السلاح المكدّس في الزوايا والسراديب، ولا خطر العدو المتربص على الحدود، فكيان الوطن تحت التهديد، وعنقه تحت السكين، وجسده تحت منشار التقسيم، ولم يعد الأمر أمر أزمة، أو حتى معضلة، وإنما أمر محنة حقيقية، عليها أن تصطفي ناسها، ورجالها، وجنودها، إن كنتم صادقين....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.