التسامح في مفهومه العام يؤدي إلى السلام الاجتماعي، الذي يؤدي في نهايته إلى الشعور بسلامة الإنسان في حياته، كما يؤدي إلى السلام العالمي إذ لاداعي للحروب الفانية ، طالما النفوس مطمئنة ، والقلوب صافية، وقد أوجد الإسلام نظاماً خاصاً لأهل الذمة ليعيشوا في البلاد الإسلامية دون خوف على أرواحهم ولا على أموالهم، ولا على أنفسهم، ماداموا في دار الإسلام ، التي هي دار سلام. والتسامح بين الناس هو الذي يداوي القلوب المكلومة ، ويجذب النفوس النافرة، ويزيل الإحن والضغائن من الأفئدة، ويرفع عن الناس سوء مايقعون فيه لو استمر التمادي في العداء بين الناس، وتركزت الرغبة لديهم في الانتقام أو الثأر. ولقد وضع الإسلام للتسامح أسساً راسخة، وعقد له مواثيق متينة، وحدد تحديداً واضحاً واجبات المسلمين تجاه بعضهم بعضاً، في تضامنهم وتوادهم وتراحمهم ، وبين وجوب حسن معاملتهم مع من تقتضي الأحوال مخالطتهم من أهل الديانات والملل الأخرى. وتروي كتب التراث العربي جملة من المواقف والأقوال الدالة على التسامح ، ومن ذلك مثلاً ما يروى عن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، أنه كان في بعض حروبه قد صرع رجلاً من المشركين ، ثم جلس على صدره ليجتز رأسه، فبصق الرجل في وجهه، وعلى أثر ذلك قام علي وتركه. فلما سئل عن سبب قيامه وتركه الرجل، قال: إنه لما بصق في وجهي اغتظت منه، وخفت إن قتلته أن للغضب والغيظ نصيباً في قتله . ويروى كذلك أن رجلاً سب علياً ابن الحسين رضي الله عنه، فهجمت عليه العبيد يريدون قتله ، فقال علي بن الحسين لعبيده : مهلاً كفوا عنه واتركوه، ثم أقبل على الرجل وقال له: ألك حاجة نعينك عليه؟ فاستحيا الرجل ، فألقى عليه علي قميصاً كانت عليه ، وأمر له بألف درهم. وفي التسامح يقول الإمام الشافعي: لما عفوت ولم أحقد على أحد *** أرحت نفسي من هم العداوات إني أحيي عدوي عند رؤيته *** لأدفع الشر عني بالتحيات وأظهر البشر للأعداء ماجنحوا *** للسلم دوماً ولا أخشى الملامات وفي التراث العالمي كذلك نجد جملة من المواقف والأقوال الدالة على رغبة الناس في التسامح، بالرغم من الاختلافات القائمة فيما بينهم، ومن ذلك مثلاً ما قاله ( اندريه مورو ) نقلاً عن كتاب ( سبيلك إلى السعادة والنجاح ) لسمير شيخاني ص 171. ( إن الشخصين المختلفين في طبيعتهما سرعان ما يستقبلان أحدهما الآخر بقليل من التسامح وحسن النية .... ألسنا كالنوتات الموسيقية نكمل بعضنا بعضاً، لأننا نختلف بعضنا عن بعض ؟ فلو كانت النوتات الموسيقية كلها نوتة واحدة لما كان هناك تناغم مستساغ وميلودي أوهرموني ، ولكم كان السأم لا يطاق لو كان الزوجان متشابهين، ولو كان جميع أفراد مجتمع ما من طينة واحدة) أ.ه. أو كما يقول مفكر غربي آخر اسمه ( كيرمت روزفيلت ) نقلاً عن كتاب ( مجلة المجلات العالمية ) عدد2، اكتوبر 1975م حين تحدث عن سوء معاملة المجتمع الأمريكي للملونين في مجتمعاتهم ، فقال: ( إنهم لا يشعرون أنهم ملونون، وإنما أشعرهم بذلك نظرة البيض على أنهم مختلفون عنهم، وأنهم دونهم في المواهب، وهذا ما قدم لهم شيئاً يشتركون فيه ضد العنصر الأبيض.. أكثرهم بالطبع مسلمون ، ولكن الأغلبية في أولئك الذين هم غير مسلمين ، يشتركون مع هؤلاء في أنهم غير مسيحيين، وبذلك يتلاقون). وبعد، فإن التسامح بين الناس في حياتنا المعاصرة ضرورة حتمية، تقتضيها طبيعة الحياة المعاصرة ذات المصالح المتداخلة، والأمور المتشابكة ، وفي ذلك يقول المفكر الانجليزي ( برتراند راسل ) حين تحدث عن الصراع الذي كان قائماً في القرن الماضي بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي، قال ما نصه : ( إن العالم بحاجة إلى الاتفاق والتسامح، ولكن المبادئ التي نؤمن بها تحول دون هذا الاتفاق، ولابد أن نتذكر دائماً ذلك الدرس الذي خرجنا به من حروب الأديان منذ أكثر من ثلاثمائة سنة، وهو أن التسامح بين الناس ضرورة لاغنى عنها.. ولابد من التسامح إذا كنا نريد أن نتجنب وقوع الحرب في المستقبل القريب). ويضيف ( برتراند راسل ) قائلاً:« ليست هناك موانع تحول بيننا وبين إلغاء الحروب والفتن، والقضاء على المخاوف العميقة التي تملأ قلوبنا، ونحن في أشد الحاجة إلى تغيير نفوسنا، فنزرع حب الناس في قلوبنا بدل عداواتهم".أ.ه نقلاً عن: ( مجلة المجلات العالمية، العدد 4، ديسمبر 1975م). وما دمنا في صدد الحديث عن التسامح في التراث العالمي يجدر بنا التذكير بما قاله (غاندي) زعيم الهند في النصف الأول من القرن الماضي وهو كما عرف عنه ذو نزعة إنسانية مسالمة، يميل إلى التسامح ويرفض الحرب. قال:«إن الاختلاف نظرياً كان أو عملياً إذا وقع بين الأفراد أو الأمم، لا ينتهي إلا باللجوء إلى الحرب، ذلك لأن كل فرد، أو كل أمة ترى نفسها على الحق والصواب دون سواها، وتعتقد أن نجاح مناضليها يؤدي لا إلى القضاء على حريتها فحسب، بل يأتي على معيشتها ومجتمعها ومرافقها الاقتصادية، ولذلك هي تريد أن تستأصلها بكل ما لديها من قوة" أ. ه.