في القرن الرقمي وعصر الاقتصاد المعرفي أصبح قطاع تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والبريد من أهم القطاعات الاقتصادية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق.. والذي بات يشكل مورداً استراتيجياً يعزز الدخل القومي ويسهم في زيادة الناتج المحلي وإيجاد فرص عمل جديدة للشباب والعاطلين ويساعد على دمج التكنولوجيا الحديثة في عناصر الإنتاج والإدارة والموارد البشرية والمالية. وهكذا فإن قطاع الاتصالات والانترنت والبريد في عصرنا الراهن، هو الدجاجة التي تبيض ذهباً، والمنجم المتجدد الذي لا ينضب مقارنة بالموارد النفطية والطبيعية.. لذا فإن جميع الدول الغنية والمتقدمة مثل ألمانيا وبريطانيا أو الدول الفقيرة أمثال موزنبيق وفولتا العليا وجنوب الصحراء جميعها تعض بالنواجذ على هذا القطاع الحيوي وتعتبره قطاعاً سيادياً ومورداً استراتيجياً للدخل القومي، فلا تسمح بالاقتراب منه أو المساس به بسهولة، وتكرس جهودها واستثماراتها لتنميته وتطويره والارتقاء بتقنياته وخدماتها، فتمنحه الامتيازات الاحتكارية والإعفاءات الضريبية لسنوات طويلة بما يساعده على التطوير والنمو والقدرة على المنافسة والتوسع محلياً وخارجياً، بالتالي تحقيق وحصد أرباح خيالية تنعكس إيجابياً على الاقتصاد القومي وقطاع الأعمال برمته. لكن قطاع الاتصالات والانترنت والبريد في بلادنا قطاع (مغلوب على أمره)، يقدم كل شيء دون مقابل ولا يحظى بأي امتيازات أو حقوق تكفل له التطور والنمو أسوة بما تتمتع به شركات الاتصالات الحكومية في بلدان العالم والدول العربية والخليجية ذات الاقتصاديات القوية والوفرات النفطية والطبيعية، حيث يحاصر قطاع الاتصالات بالقوانين والتشريعات البيروقراطية الحكومية، وتتربص به شركات الاتصالات الخاصة وتحاول ابتلاعه في ظل صمت حكومي مريب؟. إن تعالي الأصوات الداعية لتحرير ما تبقى من خدمات قطاع الاتصالات في الجمهورية اليمنية وخاصة بعد قبول انضمام اليمن لمنظمة التجارة العالمية ورفع هذا الشعار من جديد هو عملية عبثية لا تتسق مع حقائق العقل والمنطق والواقع الذي يؤكد أن اليمن كانت من الدول السباقة التي حررت قطاع الاتصالات النقالة منذ وقت مبكر وبنسبة 100 % وتم ذلك في ظل غياب (هيئة لتنظيم الاتصالات) كما هو متعارف عليه، حيث أنها الجهة الوحيدة المكلفة بمنح التراخيص ووضع الشروط والضوابط القانونية والتشريعية التي بموجبها تحصل الشركات الخاصة على تصريح بالعمل، ومع ذلك فقد منحت تلك الشركات الامتيازات الضريبية والتسهيلات والمزايا المهولة التي جعلتها تحتكر الخدمة سنوات طويلة دون منافس واحد. وفي المقابل سنجد أن عملية تحرير الاتصالات في كثير من دول العالم ومعظمها تتمتع بعضوية منظمة التجارة العالمية ومنها دول مجلس التعاون الخليجي لا تزال عملية معقدة وتخضع لشروط وضوابط تشريعية حازمة وسنجد على سبيل المثال أن دولة مثل الإمارات العربية التي وبرغم التزامها بسياسة التجارة الحرة، إلا أن ذلك لا يسري على سوق الاتصالات إذ تواصل شركة (اتصالات) إحكام سيطرتها الاحتكارية على قطاع الاتصالات. فهي الجهة الوحيدة المخولة بتقدم خدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية في كافة أنحاء الإمارات بما في ذلك خدمات الاتصالات الدولية وخدمات الانترنت، وتم إهمال الخطط التي تسمح لمقاولي خدمات الانترنت بالعمل في مدينة الانترنت في دبي، كذلك ما تزال الشركة العمانية للاتصالات منذ إنشائها شركة مساهمة مقفلة مملوكة بالكامل للحكومة، وما تزال الشركة السعودية للاتصالات (stc) شركة حكومية وتمتلك حصرياً البوابة الدولية للاتصالات والإنترنت، كما أن الحكومة السعودية لا تسمح للمستثمرين الأجانب بالاستثمار في قطاع الاتصالات وتحظر الاستثمارات الأجنبية في حوالي عشرين مجالاً، كذلك سنجد أن الحكومة القطرية منحت شركة الاتصالات القطرية كيوتل امتيازات لمدة (15) سنة تحتكر خلالها (كيوتل) الاتصالات ويتم تمديد هذا الاحتكار كل ثلاث سنوات، إلى جانب إعفاء أرباح الشركة من ضريبة الدخل لمدة عشر سنوات؟. وهكذا يجب أن تمنح الاتصالات الامتيازات والصلاحيات التي تمنح لشركات الاتصالات في دول الخليج الثرية جداً بثرواتها النفطية والذي قد يجعل قطاع الاتصالات والمعلومات مورداً ثانوياً، إلا أنها لم تفرط في هذا المورد الهام وجعلته يحظى بنفس الاهتمام إن لم يكن أكثر أهمية لديها من القطاعات النفطية، فما بالك باليمن التي تلهث خلف المساعدات والقروض وتعاني فاقة اقتصادية مدقعة، ومواردها النفطية محدودة جداًً، فمن الأولى أن يحظى قطاع الاتصالات والبريد بالاهتمام الأكبر بدلاً من محاصرته وتكبيله بالتشريعات والقيود البيروقراطية المتخلفة التي تتسبب في إضعافه وتراجع دوره المهم في دعم الاقتصاد الوطني، والله من وراء القصد.