ألقت الظروف المأساوية بالطفلة اليتيمة (م) للعيش منذ ولادتها في أحضان أسرة جديدة تكفلت بتربيتها كأحد أبنائها، وهذا ماجعل الطفلة لا تعرف شيئاً عن ماضيها برغم مرور 12عاماً من عمرها في أحضان هذه الأسرة، إلا أن الأيام لا تبقى كما يشاء الإنسان، فقد أحست الأم المربية بدنو أجلها، وحينها كإحساس منها بواجب تأمين مستقبل هذه الطفلة عرضت فكرة تربيتها على جارتها التي رفضت هذه الفكرة بصوت سمعته هذه الطفلة، مبررة ذلك بأنها (لقيطة)، وهذا ما جعل الطفلة تثأر لكرامتها من جور الزمان وغدره، وتلملم ما بقي لها من ذكريات طفولية بريئة وتلقي بها في محرقة التقاليد والتصرفات اللاإنسانية، وتغادر غير ملتفتة إلى ذلك المكان الذي قضت فيه سنيناً من عمرها، وغير آبهة بما تخفيه لها الأيام القادمة من تشرد وضياع علها تستطيع الاختفاء حيث بمقدورها أن تتحمل سياط الآلام الجسدية وتتحاشى طعنات خناجر الألسن المسمومة التي لن تستطيع تحملها، وكان سلوانها حينذاك قول الشاعر: جراحات السنان لها التئامُ ولا يلتام ما جرح اللسانُ طريق مجهول كان التشرد في الشوارع والحارات بعد أن تخلى عن إيوائها الجيران والمعارف هو الحل الذي فرض نفسه عليها، إلى أن سمعت مجموعة من الفتيات يُعلن عن توجههن إلى العاصمة صنعاء للبحث عن عمل في النظافة أو الخدمة وغيرها، فتوسلت إليهن أن يأخذنها معهن.. وبعد تردد نظرنَ بعطف إلى مطر الدموع المنهمر من عينيها وقررنَ في لحظة مشاعر إنسانية جياشة أخذها معهن إلى العاصمة، وبعد وصولهن إلى هناك أزمعنَ التخلي عن الطفلة (م) في (فرزة) السيارات لأنهن جميعاً فقيرات ولا يملكن من المال ما ينفقنه عليها، وهنا تعللت الفتيات بالذهاب للبحث عن طعام الغداء وأصدرنَ أمراً للطفلة بالبقاء في (الفرزة) تنتظر عودتهن بالطعام... وطال انتظارها في ذلك المكان الذي يعج بأشكال وألوان من البشر الذين رمقها البعض منهم بنظرات مريبة، فاضطرت بعد غروب الشمس إلى مغادرة المحطة باحثة عن رفيقات السفر ولكن دون جدوى. ألم الحرمان من العطف والحنان والمأوى، ألم الجوع والبرد والخوف تحول إلى سياط قاسية شرسة تلهب جسد الصغيرة بأصناف المعاناة التي بدأت طريقها معها بمرض السكر الذي تمكن منها، ووجدت بعد ذلك أسرة آوتها إلا أن تلك الأسرة التي كفلتها مؤخراً تعرضت لظروف خاصة اضطرتها للبحث عن كافل آخر، وهناك كانت الصدمة الكبرى للطفلة التي انتكست نفسياً وصحياً بسبب داء السكر ثم فارقت الحياة. صدقة جارية مديرة مؤسسة الرحمة للتنمية الإنسانية الأستاذة رقية عبد الله الحجري أوضحت أن هذه الحادثة كانت سبباً من أسباب تأسيس دار الرحمة لرعاية وإيواء اليتيمات في أمانة العاصمة في 23أكتوبر2000م وبعد تطور آلية العمل في هذه الدار تحولت إلى مؤسسة الرحمة للتنمية الإنسانية بتصريح من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في 31 ديسمبر 2003م، وأشارت إلى أن موت الطفلة (م) كان من ضمن الأسباب الملحة للتفكير في إيجاد مأوى وملاذ آمن لمثل هذه الفئات التي لا تقل أهمية في المجتمع يحميهن من جرائم الاغتصاب والاستغلال اللاإنساني والانحرافات، وهنا قام فاعلو الخير بالبحث عن مبنى من أجل إنشاء نواة أولى لدار خيرية تضم اليتيمات المشردات، إلى أن أراد الله لهم الوصول إلى حيث تقع مؤسسة الرحمة اليوم، حيث تبرع الشيخ أحمد المنصري بثلاثة مبانٍ كمقر لدار الرحمة لرعاية وإيواء اليتيمات ثم توالت التبرعات حتى أصبح عدد المباني خمسة مبانٍ موزعة على مبانٍ خاصة باليتيمات وأخرى خاصة بالأيتام. وتضم المؤسسة يتيمات وأيتاماً كلاً في سكنه الداخلي المخصص له، وترعى كذلك عدداً من اليتيمات والأيتام في أحضان أسرهم يمارسون حياتهم الطبيعية في ظل رعاية المؤسسة، إضافة إلى عدد من اليتيمات والأيتام تكفلهم المؤسسة في ظل الأسر البديلة وخاصة مجهولي الوالدين منهم، أي أن المؤسسة تكفل اليتيمات والأيتام على 3 فئات، أولاً الأيتام واليتيمات في أحضان أسرهم عندما تكون الأسرة تربوية، ثانياً اليتيم أو اليتيمة المعرضة للانحراف والتشرد والضياع يتم إيواؤها في السكن الداخلي للمؤسسة، ثالثاً اليتيم أو اليتيمة مجهولة الأبوين ترعاها أسرة بديلة وفق قوائم بأسماء أسر لا يوجد لديها أطفال وترغب في التبني وهنا يتم إعطاؤها من يتم التأكد من أنه أو أنها مجهولة الوالدين درءاً للمشاكل. تربية سليمة وبحسب مديرة المؤسسة فإن دار الرحمة في بادئ الأمر تأسست بهدف رعاية اليتيمات فقط كونهن الأكثر عرضة للأخطار، ونظراً لأن كثيراً من اليتيمات المكفولات في الدار يمتلكن إخوة ذكوراً لا يزال التشرد يلفهم في الشوارع، وهذا يؤثر سلباً على نفسيتهن، فقد تم ضم الأطفال الأيتام الذكور إلى المؤسسة في قسم منفصل تماماً عن الإناث هو دار الفرسان التابع للمؤسسة، وكانت الأولوية للأطفال الأيتام الذين لهم أخوات في دار الرحمة، ومن منظور آخر فقد تم استيعاب الأيتام الذكور ممن لديهم أخوات في الدار من أجل مستقبل تلك اليتيمات، فعندما يتربى الأخ تربية سليمة فسيكون سنداً لأخته في المستقبل. إن استهداف اليتيمات والأيتام مرتبط بفاعلي الخير الذين يقومون بإيصالهم إلى المؤسسة، وتوضح مديرة المؤسسة أن القبول في المؤسسة له شروط نظراً لمحدودية الإمكانات فليس بمقدور المؤسسة استيعاب الجميع، ومن هذه الشروط التأكد من أن الطفلة أو الطفل يتيم الأب، ويتم التأكد من ذلك من خلال شهادة وفاة الأب، ويمكن اعتبار الطفل أو الطفلة يتيم أو يتيمة مع وجود والده على قيد الحياة في حالة كان الأب مريضاً وميئوس من شفائه أو مجنوناً أو محكوماً عليه بالإعدام بحسب فتوى شرعية. مهرجان الرحمة الأربعاء الماضي أقامت مؤسسة الرحمة للتنمية الإنسانية مهرجانها الثاني لليتيم على قاعة المركز الثقافي بصنعاء بمناسبة اليوم العالمي لليتيم الذي يصادف أول جمعة من أبريل من كل عام حضره دولة رئيس الوزراء وعدد من الوزراء وكبار المسؤولين وممثلي المؤسسات الخيرية والإعلامية ومنظمات المجتمع المدني، وفي المهرجان الذي أقيم تحت شعار (حتى لا يُقهر اليتيم) أكد رئيس الوزراء الدكتور علي محمد مجور على ضرورة التنسيق والتكامل بين الجهود الحكومية والأهلية في مجال الاهتمام بالأيتام واستقطاب المزيد من الرعاية والتأهيل لهم. وقال في كلمته: هذا المهرجان يبعث فينا مشاعر الحزن والسعادة في آن واحد، فالحزن هو على أوضاع الأطفال الذين فقدوا آباءهم فأصبحوا أيتاماً، والسعادة للجهود الخيرة التي ترعى هذه الشريحة وتعمل على إدخال البسمة والفرحة إلى قلوبهم وإفساح المجالات أمامهم للعيش بحياة كريمة آمنة ومستقرة سواء من قبل الجهات الحكومية أو الأهلية. وأشار إلى أن الدولة تحرص على توفير مقومات الرعاية والعيش الكريم لهذه الشريحة من خلال إنشاء مراكز الرعاية الاجتماعية التي تحتضنهم والتي يأتي في مقدمتها مركز رئيس الجمهورية لرعاية وتأهيل الأيتام والذي يتضمن إلى جانب المراكز الحكومية الأخرى البالغ عددها 10مراكز متطلبات وسبل الحياة الكريمة، فضلاً عن برامج تدريبية وتأهيلية مهنية تكفل لمنتسبيها في المرحلة اللاحقة من العمر فرصة العمل و الاندماج في المجتمع والمساهمة في التنمية الوطنية. وأضاف: تعكف الحكومة حالياً ممثلة بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل على إنجاز الدراسات والتصاميم لإنشاء 11 مركزاً جديداً للأيتام في عدد من محافظات الجمهورية وذلك تنفيذاً لتوجيهات الأخ رئيس الجمهورية بهذا الشأن وسيتم تزويدها بكل أشكال الرعاية وبأحدث الإمكانيات والتجهيزات الإيوائية والتربوية والتعليمية، ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى الجهود المبذولة في إطار الإستراتيجية الوطنية للطفولة والشباب وخطة العمل المنبثقة عنها والتي ركزت في جانب منها على رعاية الأيتام وتوفير احتياجاتهم، وكذلك تشجيع الأسر على كفالتهم وإلحاقهم بالتعليم العام والتدريب المهني مع النظر بعين الاعتبار إلى قدرات العاملين والمتعاملين مع هذه الشريحة الاجتماعية وتأهيلهم على نحو جيد بما يمكنهم من تقديم خدمات الرعاية والتأهيل المهني والاجتماعي على نحو أفضل، كذا تشجيع المؤسسات الأهلية الخيرية على العمل في هذا الجانب بأبعاده التربوية والإنسانية والأخلاقية والوطنية. وأكد على ضرورة التنسيق والتكامل بين الجهود الحكومية والأهلية في مجال الاهتمام بالأيتام واستقطاب المزيد من الرعاية والتأهيل لهم والوفاء بالتزاماتها تجاههم. مديرة مؤسسة الرحمة للتنمية الإنسانية الأستاذة رقية الحجري من جهتها أشادت بدور الخيرين والمساهمين في رعاية وتأهيل الأيتام ووصفتهم بالصادقين مع الله في البذل والعطاء بعيداً عن أي جزاء في الدنيا أو مدح المادحين، داعيةً الجميع للمساهمة في فعل الخير ودعم مشاريع الأيتام وتحقيق الأمان والحماية لهم. وفي السياق ذاته أشار الداعية الإسلامي وجدي غنيم إلى أن وفاة أحد الوالدين أو كليهما ما هو إلا ابتلاء من الله للأيتام، موضحاً أن ذلك يعد فرصة لإثبات أننا أهل الخير وأن أمتنا هي أمة الخير، مسترشداً بآيات من القرآن الكريم « ألم يجدك يتيماً فآوى «، وأحاديث نبوية شريفة « أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى»، «من مسح على رأس يتيم لا يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنة أو (حسنات) «، مؤكداً وجوب كفالة هؤلاء الأيتام كحق من حقوقهم علينا. تخلل المهرجان بوتقة إنشادية معبرة عن كافل اليتيم وما ينتظره من أجر عظيم من الله، إلى جانب عرض مسرحية جسدت مشاهد طالما تتكرر في عالم الأيتام من معاناة وتحديات، هذا وتم في المهرجان تكريم الطالبة يسرية حفظ الله الرباعي والطالب يونس يحيى عبد الله الحاج، كطالبين مثاليين متميزين في مجال السلوك والآداب العامة والتحصيل العلمي للعام2008م.