أرمي، في هذا البحث إلى تبيان أثر الانتفاضة على الحركة الأدبية في المناطق الفلسطينية، ولتجسيد ذلك عيانياً فسوف أناقش التأثير الايجابي والسلبي من خلال النظر في أهم الإصدارات الأدبية، من مجلات وجرائد وانتظام هذه أو عدم انتظامها، وازدياد حجمها أو تقلصه، ومن خلال تتبع نشاطات بعض الأسماء الأدبية المعروفة ومقارنة نشاطاتها في أثناء الانتفاضة بما كانت عليه من قبل، وأيضا من خلال تتبع نشاط بعض الملتقيات والمؤسسات الثقافية في الفترة المدروسة ومقارنته بما كان عليه من قبل. لتوضيح ذلك سوف أنظر في المجلات الأدبية الصادرة مثل مجلة " الكرمل "(1) ومجلة " الشعراء " (2) ودورية " دفاتر ثقافية "(3) وجريدتي " الأيام "(4) و " الحياة الجديدة "(5) بالإضافة إلى جريدة الانتفاضة(6)، الصادرة في أثناء الانتفاضة، وسأتوقف أمام نشاط محمود درويش ويحيى يخلف وتأثير الانتفاضة على نتاجيهما، وسأتتبع نشاط وزارة الثقافة، فيما يخص إصداراتها وندواتها في أماكن معينة، ونشاط ملتقى بلاطة الثقافي. ولإنجاز هذا كله سأعتمد على متابعاتي لأعداد المجلات الصادرة المشار إليها، وعلى ملاحظاتي الشخصية للملاحق الأدبية في الجرائد المذكورة، باعتباري مشاركاً في الكتابة في بعضها وقارئاً لها، وعلى المقابلات التي أجريتها مع بعض أعضاء مؤسسة ملتقى بلاطة الثقافي ودار الفاروق للنشر(7). الانتفاضة محفزا للكتابة : التفت الناقد العربي القديم ابن قتيبة إلى الحالات النفسية وعلاقتها بالشعر، وقد تناولها من جوانب عديدة منها جانب الحواجز النفسية الدافعة إلى قول الشعر، كالطمع والشوق والطرب والغضب(8) . ويعني قول ابن قتيبة هذا أن هناك دوافع نفسية لقول الشعر تحث الشاعر على إنجاز نصوصه، والسؤال الذي قد يثار هنا، ما علاقة الحوافز التي ذكرها بالانتفاضة، ما الذي يطمع إليه الشاعر الفلسطيني، وما الذي يتشوق إليه وما الذي يطربه وما الذي يغضبه؟ إن الطمع في التراث القديم مقترن بالمال والشوق مقترن بلقاء المحبوب والطرب مقترن بالبيض الحسان وبحب آل البيت، وأما الغضب فغالبا ما كان مرده العداء القبلي أو العداء الديني، فإذا غضبت قبيلة على قبيلة حسبت الناس كلهم غضاباً، فكيف يقول الشاعر الفلسطيني الشعر وهو لا يطمع، في ظل الانتفاضة، إلى كرم مسؤول، وبينه وبين البيض الحسان مسافة في وسطها ألف حاجز وحاجز، وأما الطرب فبعيد بعيد، وربما يبقى الغضب، غير أننا يمكن أن نقول إننا نطمع في أن نرى الاحتلال يزول ونتشوق إلى دولة مستقلة ونطرب لإرباك طفل جندياً ونغضب لتمادي شارون وصمت الأمة العربية، وفي هذا كله ما يحث الشعراء على أن يكتبوا، ولا أظن أن الشعراء الذين كتبوا عشرات القصائد في حادثة استشهاد محمد الدرة الطفل الفلسطيني كتبوا لأن مؤسسة البابطين(9) خصصت جائزة لأفضل قصيدة تصور هذا المشهد، فقد كتب شعراء كثيرون قصائد فيه قبل أن يقرأوا إعلان المؤسسة عن الجائزة، لقد حركت الحادثة هذه مشاعر الشعراء وكانت النتيجة مئات القصائد التي جمعت في ديوان شعر سيترجم إلى العديد من اللغات، وهكذا كانت الانتفاضة حافزا للكتابة . العودة إلى ما كان: تأثير الانتفاضة على موضوعات الكتابة: أنجزت الكتابة الخليجية ظبية خميس مقالة (10) حول ديوان الشاعر محمود درويش " سرير الغريبة " (1999) ومما كتبته: " والآن ماذا بعد وقد صارت فلسطين وطناً لا يشبه الحلم الذي كان يحمله محمود درويش، ولم يعد بالإمكان الحديث من جديد عن قهوة أمه وبيارات يافا، ما الذي يمكن لمحمود درويش أن يكتبه وأن يحلم به وقد تقزم الحلم القديم على ما هو أصغر هامة مما قد حمله فؤاد الشاعر في ترحاله ومنافيه وخصوماته". ويحيلنا قول الشاعرة إلى تقييم النقاد العرب الأدب الفلسطيني وإلى موقف الشعراء الفلسطينيين من هذا التقييم. ذهب بعض الدارسين إلى أن أدب المقاومة اكتسب قيمته لكونه أدب قضية بالدرجة الأولى، لا لقيمته الفنية، وهذا ما حدا بشاعر، هو محمود درويش، إلى مخاطبة النقاد الذين أسبغوا هالة على أدب المقاومة، إلى الالتفات الى جماليات هذا الأدب ومحاكمته بناء على قيمته الفنية أيضا(11)، ويلخص رأي الشاعرة ظبية خميس الجدل الذي دار حول هذه الإشكالية، وكأنها ترى أن ما ميز درويش القضية الفلسطينية التي تمحورت حولها أكثر أشعاره، فلما كتب "سرير الغربية"(12) كتب كما يكتب بقية الشعراء العرب، وصار الشاعر واحداً مثل بقية شعراء العربية، وكتب درويش بعد "سرير الغريبة" نصا شعريا طويلا هو "جدارية" (2000) وتمحور حول تجربة الشاعر مع الموت، وهكذا شكل الديوانان الأخيران خروجا ًعن مألوف كتابة الشاعر منذ " أوراق الزيتون" ( 1964)، ولما كانت الانتفاضة فاجأنا درويش بقصيدتين هما "محمد"(13) و " القربان "(14) وأعادتانا إلى أشعاره الأولى، وهكذا جعلت الانتفاضة الشاعر، من جديد، شاعر مقاومة، وجعلته، من جديد، يختلف عن كثير من الشعراء العرب، ولعل ظبية خمس، الآن، ترى فيه شاعراً مختلفاً من جديد، وذلك لأنه عاد ليكتب عن حملة الحلم الفلسطيني الذي ظن بأنه تقزم. وليس محمود درويش الحالة الوحيدة الاستثنائية، هنا يمكن أن يتوقف أمام أديب آخر تركت الانتفاضة أثرها على نتاجه، وهو يحيى يخلف، وقبل متابعة هذا لا بد من التوقف أمام الكلمة التي نشرها في العدد السابع والعشرين من دورية " دفاتر ثقافية " لملاحظة تأثير الانتفاضة على الحركة الأدبية الفلسطينية وعلاقتها بالحركة الأدبية العربية. يذهب يحيى يخلف إلى أن عودة المثقفين الفلسطينيين، في العام 1994 إلى مناطق السلطة الوطنية، جعلهم يغيبون" عن المشهد الثقافي العربي، وحصل ما يشبه القطيعة القسرية بينهم وبين زملائهم وقرائهم في الوطن العربي .." وجاءت انتفاضة الأقصى "لتعيد الصلة ما بين المواطن الفلسطيني ومحيطه القومي، ولتعيد القدسوفلسطين إلى قلب الوجدان العربي"(15). ويذهب يخلف إلى ما هو أبعد من ذلك، فيشير إلى تأثير الانتفاضة على النص الأدبي الفلسطيني، ويبدو هذا التأثير من وجهة نظر الكاتب ايجابيا فقد " أكدت الانتفاضة أن فلسطين هي أرض المقاومة، وأن المقاومة هي سمة أساسية من سمات الأدب الفلسطيني والثقافة الفلسطينية، وأن ما يحدث في مدن وقرى ومخيمات فلسطين سيعكس نفسه بالضرورة على النص الأدبي، وعلى المادة الثقافية، كذلك فإن مرحلة الصمت والبحث والتأمل سيعقبها مرحلة إبداع مقاوم في مختلف حقول الأدب والفنون وسائر أنواع المعرفة(16) . وكانت الانتفاضة ملهمة للكاتب نفسه، فقد نشر جزءا من رواية يعكف على إنجازها،عنوانها " الفجر طيور"(17)، وهكذا كانت الانتفاضة حافزا له، مثلما كانت حافزا لمحمود درويش وآخرين، لينجز نصا روائيا جديدا، ومثلما أعادته الانتفاضة للكتابة في الهم الوطني، فقد أعادت بطل روايته كمال إلى المشاركة في الهم العام بعد أن ابتعد عنه بسبب مرحلة (أوسلو) التي حولته من مناضل إلى موظف في شركة استثمار . تأثير الانتفاضة على المجلات والصحف : لئن كانت الانتفاضة، كما لاحظنا، تركت أثرا على الأدباء وموضوعات نصوصهم،حيث أعادتهم إلى الكتابة في موضوعات كانوا يكتبون فيها قبل مرحلة السلام (1993)،وابتعدوا، قليلا، عنها في مرحلة (أوسلو) وما بعدها، فما التأثير الذي تركته على المجلات الأدبية والدوريات الأخرى والملاحق الأدبية؟ تتطلب الإجابة عن هذا السؤال النظر في هذه وملاحظة ما هي عليه، في أثناء الانتفاضة، بما كانت عليه من قبل . هوامش : - من دراسة طويلة للكاتب أنجزها عام 2001م 1. الكرمل، فصيلة ثقافية، رئيس التحرير محمود درويش، صدرت في بداية الثمانينات من القرن الماضي، صدر منها حتى الآن 68 عدداً . (تاريخ إنجاز الدراسة أي 3/9/2001). 2. الشعراء، فصلية ثقافية تصدر عن بيت الشعر فلسطين، المحرر المسؤول المتوكل طه، رئيس التحرير غسان زقطان، صدر منها حتى نهاية آب 2001 ثلاثة عشر عدداً . 3. دفاتر ثقافية، شهرية ثقافية تصدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية، رئيس التحرير محمود شقير، صدر منها سبعة وعشرون عدداً . 4. الأيام، يومية سياسية مستقلة، تصدر في رام الله، رئيس التحرير أكرم هنية. 5. الحياة الجديدة، صحيفة يومية سياسية شاملة، تصدر في رام الله، رئيس التحرير حافظ البرغوثي . 6. الانتفاضة، أسبوعية يصدرها المثقفون الفلسطينيون والعرب، تصدر في رام الله، وصدر منها، بعد إصدارها منذ بدء الانتفاضة سبعة وتسعون عدداً (2 أيلول 2001). 7. التقيت بأعضاء من الملتقى هم مازن دويكات وعباس دويكات وجميل دويكات، وبصاحب دار الفاروق للنشر، في مكتبة الفاروق يوم الخميس 30/8/2001 . 8. أنظر د.إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، بيروت، دار الثقافة، 1986 ط5 ص 112. 9. على أثر استشهاد الطفل محمد الدرة أعلنت مؤسسة البابطين عن جائزة لأفضل قصيدة تكتب في الشهيد محمد، وتم هذا، وفاز بالجائزة شاعر جزائري. 10. نشرت المقالة في المجلة " العربي " ( الكويت)، أنظر عدد 493، كانون أول، 1999،ص 165. 11. يشار هنا إلى مقالة محمود درويش المشهورة " أنقذونا من هذا الحب القاسي"، وقد ظهرت في كتابه " شيء عن الوطن " وظهرت طبعته الأولى في عام 1971 عن دار العودة / بيروت، ص 25 . 12. صدر الديوان عن دار الرياض الريس للنشر، في عام 1999، ويعد هذا الديوان تجربة فريدة في مسيرة الشاعر، حيث تمحور حول موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة بعيدا عن أجواء العداء القومي الذي ظهر في قصائد درويش التي كتبها يتغزل فيها بالمرأة اليهودية. 13. نشرت القصيدة في غير مكان، وأنظر نصها في " دفاتر ثقافية" ع 27، كانون أول2000. 14. أنظر نص القصيدة في مجلة الكرمل، ع 66، شتاء2001. 15. عنوان المقالة " انطباعات أولية "، دفاتر ثقافية، عدد 27، كانون أول،2000،ص 13. 16. السابق. 17. انظر مجلة الكرمل، ع 68، صيف 2001، ص 133 171 .