دون أدنى شك، أضحت البراءة بيئة خصبة لاستثمار العنف بمختلف صوره ودوافعه، ففي الوقت الذي نحت فيه الجماعات المتطرفة باتجاه استثمار الأذهان النقية لبلوغ مرامها الشيطاني، بات المهتمون أكثر قلقاً على مستقبل الأطفال والنشء، إذ ليس بالإمكان أن يتحمل أولئك الصبية، تلك التجاذبات والإغراءات المتنافسة مع واقع في الأصل كل ما فيه يشي بألوان عنف متعددة الأطياف والأطراف. في بلادنا، أثبتت الأحداث الأخيرة أن البراءة أوالمراهقة لم تسلم أبداً من مخالب التطرف والإرهاب لأهداف جوفاء إن لم تكن لمصالح ذاتية، حيث دقت أجراس الخطر بالفعل، مع العملية الانتحارية التي استهدفت السياح الكوريين في المكلا، والتي قام بها أحد المغرر بهم الذي لم يتجاوز سنه ال18 عاماً، وما تلتها من عملية أخرى في صنعاء، فجر آخر نفسه فيها – بنفس العمر- مستهدفاً فريق التحقيق الكوري الذي قدم إلى اليمن لتقصي حقائق عملية المكلا. وفيما أضحت الظاهرة هي الأكثر رواجاً على المستوى الإعلامي في الآونة الأخيرة، في كثير من المجتمعات ولاسيما العربية،أذاعت فضائية «العربية» تقريراً متلفزاً «صناعة الموت.. أطفال مدانون رغم براءتهم» تناول إشكالية استغلال بعض العناصر المتطرفة للأطفال في المنطقة، في ظل عدم احتراس الأسر على أطفالهم وتوسع دائرة الواقع الذي يدفع باتجاه العنف. واعتبر الباحث المتخصص في شؤون الجماعات المتطرفة، الدكتور ضياء رشوان، تحديد المناطق التي تنمو فيها الآن هذه الظاهرة أو ما يسمى باستخدام الأطفال في العمليات الإرهابية والانتحارية، شيئاً مهماً للاستدلال على بعض الأسباب التي تكمن وراءها. وأوضح رشوان قائلاً: نشاهدها الآن في العراق، في أفغانستان، في باكستان، وهذا يعني أن هذه المناطق في الأصل، يوجد فيها بؤرة كبيرة لهذا الفكر المتطرف، وفيما لم ينسَ التطرق إلى انتشار الظاهرة، في اليمن والسعودية، كما بدا من الواضح مؤخراً، بعد التأكيد على تواجدها في العراقوأفغانستانوباكستان بشكل أقوى، أشار رشوان، إلى أن هناك تنامياً للأفكار وللجماعات المتطرفة في تلك المناطق، وتابع «تركزت تلك الجماعات وتميزت بعدد من الخصائص أبرزها هو بلوغ مستوى العنف فيها إلى درجة بدت غير مسبوقة سواء في هذه المناطق أو ربما على مستوى العالم كله، وهذا العنف شمل فيما شمل أطفالاً كان بعضهم ضحايا لهذا العنف سواء الذي ارتكبته قوات حكومية أو قوات غازية أو الذي قامت باستخدامهم كمفجرين وكانتحاريين، جماعات ذات طابع إرهابي». وأردف رشوان في حديث تلفزيوني لقناة «العربية»: ومن ثم فإن نمو مستوى العنف وبالترافق معه زيادة حدة التطرف الفكري في هذه المناطق وأيضاً ربما المآزق الأمنية التي تمر بها بعض هذه الجماعات في ظل هذه الحالة من الصراع الواسع في مثل هذه المناطق التي أشرنا إليها تفسر ربما اللجوء إلى الأطفال واستخدامهم في مثل هذه العمليات هروباً من ربما المراقبات أو المتابعات الأمنية التي عادة ما يتم تركيزها على كبار السن. وفيما يتعلق بانضمام الأطفال لعضوية تلك الجماعات قال رشوان «يعود إلى بعض الأسباب منها أولاً الانتماء العائلي، أن هؤلاء الأطفال ينتمون إلى عائلات يكون فيها بعض من القيادات أو من المنتمين لهذه الجماعات، ومن ثم يكون هناك ما يشبه الوصاية عليهم أو دفعهم دفعاً وإقناعهم في الانضمام إلى هذه الجماعات، وهو أمر تكرر كثيراً ورأينا بعضاً من الأطفال الذين كانوا أبناءً أو أقارباً لكبار في هذه الجماعات أو أعضاء في هذه الجماعات أصبحوا بعد ذلك هم نفسهم أعضاء». وعلاوة على ذلك، فإن تقديرات المهتمين تشير إلى أن بعض العادات والتقاليد المتوارثة في اليمن، أسهمت بشكل أو بآخر، في توسيع دائرة الإشكالية التي تبعد الطفل عن مستقبله الآمن، وتجعله على حافة الموت، كظاهرة حمل السلاح، ومن حين لآخر، تتوارد الأخبار المؤكدة على مفارقة طفل لحياته إثر لعب شقيقه أو صديقه بالسلاح الناري، وذكر مركز الإعلام الأمني قبل عدة أشهر، أن طفلاً في أحد مديريات أمانة العاصمة تشاجر مع صديقه أثناء لعبهم لكرة القدم، وأسفر الشجار عن طعن أحدهم للآخر بسلاحه الأبيض ( الجنبية). وتسعى بعض المؤسسات المختصة بالطفولة في اليمن، منذ فترة، إلى التصدي الجاد للإشكالية، من خلال تبني حملات توعوية وتثقيفية مستمرة، تستهدف الأطفال والأسر. وأنتجت مؤسسة «شوذب» للطفولة والتنمية، منتصف العام الفائت، فيلماً «كرتونياً» بعنوان «أحمد ولعبة الموت»، للتوعية بالمخاطر المترتبة على انتشار مظاهر حمل السلاح بين الأطفال اليمنيين. الفيلم الذي قدم بقالب درامي مشوق، ناقش تلك الظاهرة ومخاطرها، في مدة زمنية قدرها (20) دقيقة، وسارت أحداثه وفق أسلوب المفارقة بين «والدين» أحدهما يحصن أولاده بالعلم، والآخر يهديهم المفرقعات، وذلك في إشارة واضحة إلى تكريس ثقافة السلاح السائدة عند الكبار لدى أبنائهم الصغار. ويصف المهتمون ظاهرة حمل السلاح في اليمن بأنها «نتيجة سلبية وحتمية لانتشار ثقافة متوارثة ومغلوطة عن السلاح» والتي تؤدي حتماً «إلى واقع تنتشر فيه النزاعات المسلحة والثارات القبلية، ويسود فيه منطق العنف». وكانت مريم الشوافي، أمين عام مؤسسة «شوذب» للطفولة قالت ل»رأي»: إن فيلم «أحمد ولعبة الموت» يتناول المصائر المفجعة التي قد يؤول إليها ترك السلاح في متناول الأطفال وتشجيعهم على حمله، وأشارت إلى أن الفيلم يأتي تجسيداً لاتفاقية حقوق الطفل، ودعماً من جانب منظمات المجتمع المدني للتوجهات الحكومية الرامية إلى الحد من انتشار السلاح بين اليمنيين المقدر بنحو 62 مليون قطعة. ومن صور العنف المتكررة التي يتعرض لها أطفال اليمن، استخدامهم في الحروب القبيلة التي تظهر من حين لآخر، في مختلف مناطق اليمن، الأمر الذي حتم على المهتمين إطلاق صرخاتهم لوقف العبث بحياة الأطفال، ولا سيما بعد التأكد من أنهم أكثر ضحايا تلك الحروب. وأشارت مصادر مطلعة إلى أن الأطفال مثلوا حوالي 40% من ضحايا الحرب القبلية التي راح ضحيتها 63 شخصاً في محافظة عمران، قبل أشهر، في حين أكدت المصادر ذاتها، أن المتحاربين استخدموا الأطفال ممن هم دون السن القانونية كمقاتلين أو مساعدين في العمليات القتالية، مبينةً أن 50% من المقاتلين الذين اشتركوا في تلك الحروب القبلية هم من الأطفال. وحاولت بعض المنظمات المحلية المختصة بالطفولة، التحرك على طريقتها ووفق إمكاناتها، لوقف أثر تلك الحرب التي دارت بين قبيلتين في محافظة عمران ، على مستقبل أطفال تلك المنطقة، الذين راح منهم العشرات. منظمة (سياج) لحماية الطفولة، وهي منظمة مدنية حديثة، ناشدت الفئات القبلية المتقاتلة في محافظة عمران على مدى حوالي أربعة أشهر، وغيرها من مناطق الحروب القبلية في اليمن، الاحتكام للشرع والقانون أو العودة لأحكام وأعراف القبائل وشيمها في تجنب قتل أو استهداف الأطفال والنساء في حروبهم وعدم إطلاق النار على المدنيين غير المشتركين في القتال، ونشرت المنظمة حينها، بياناً، دعت فيه كافة المعنيين من مسئولي الدولة ومشائخ القبائل ورجالاتها إلى سن عقوبات رادعة بحق أي طرف يثبت أنه يقوم باستهداف الأطفال والنساء أو إشراكهم في عملياته القتالية سواء كمقاتلين أو مساعدين أو مقدمين لدعم لوجستي أو غير ذلك من أشكال الإشراك التي تعرض حيواتهم للمخاطر. وتشير الدراسات السابقة إلى أن عامل مشاهد العنف بمختلف أنواعه والتي تعرضها القنوات التلفزيونية تؤثر بشكل كبير على سلوك ونفسية الطفل، الأمر الذي لم يستبعد المهتمون في بلادنا، تأثر الأطفال اليمنيين، بما يعرض على تلفزيون اليمن، وأظهرت نتائج دراسة ميدانية سابقة، تأثر ما نسبته 51٪ من الأطفال اليمنيين بالعنف التلفزيوني. الدراسة التي أعدها د. وديع العزعزي، الأستاذ المساعد بكلية الإعلام جامعة صنعاء، توصلت إلى أن تأثر الأطفال اليمنيين بالعنف كان تأثراً نفسياً، وتأثراً سلوكياً، وبينت الدراسة أن التأثر يأتي بحسب إجابات الأطفال (عينة الدراسة)، من خلال الإعجاب الكبير بالرسوم المتحركة (سلاحف النينجا). والرسوم التي فيها قتال ومعارك. وأثبتت الدراسة أن التأثر يأتي أيضاً من خلال قيام الأطفال بشراء الملابس والحقائب التي تحمل صوراً لأبطال الرسوم المتحركة، والإعجاب بمشاهدة أفلام الرعب وبشخصية البطل في أفلام المطاردات فضلاً عن تقليد الأبطال في الحركات القتالية وغيرها. ويرى الأخصائيون النفسيون أنه عندما يتعرض شخص ما لمشاهد العنف في التلفزيون فإن الآثار السيكولوجية المباشرة هي من نفس الطبيعة لو كان هذا الشخص نفسه قد تعرض لموقف عنف في الواقع وهذا ما تدل عليه مؤشرات إيقاع ضربات القلب وضغط الدم. العديد من الأطباء المختصين يؤكدون مثل هذا الواقع وقد ثبت منذ سنوات الستينيات الماضية بأن هناك براهيناً على زيادة العنف بسبب التلفزيون وأنه يمكن مقارنة مثل هذا التأثير ب «تأثير زيادة الإصابات بمرض السرطان بسبب التدخين وخاصة سرطان الرئة». وأثبتت الدراسات المختصة أيضاً أن «إهمال الطفل وواقع البؤس ومستوى تعليم الأهل إنما هي متناغمة مع الزمن الذي تتم تمضيته أمام التلفزيون»، إذ إن المحيط الأسري الأكثر جهلاً إنما هو الأكثر استلهاماً للوقت أمام شاشات التلفزيون لكن العنف لا يشكل وحده النتيجة المترتبة على الإفراط في مشاهدة التلفزة وإنما هناك أيضا تنامي مشاعر القلق والغضب والخوف والخجل وذلك على أساس أن التهديد يأتي دائماً من الآخر وأول ما يبعثه هذا الآخر في النفس هو الخوف. وأضافت دارسة علمية بعنوان «العنف في التلفزيون .. التحول من الافتراض إلى الواقع»، أعدها «بلاندين كريجل وآخرون» ونشرتها «المطبوعات الجامعية الفرنسية» قبل سنوات، أن التأثير على الأطفال يزداد بسبب فقدان التواصل مع الأهل هذا في الوقت الذي تتم فيه «صياغة» ذهنية الطفل من خلال العلاقات التي يقيمها مع الوسط المحيط به ابتداء من أمه ووصولاً إلى الدوائر الأوسع ف «الطفل هو كائن ثقافي في عمقه واللغة تلعب دوراً أساسياً في تكوينه» وبالتالي لا شك بأن البقاء طويلاً أمام شاشات التلفزيون يلحق أذى كبيراً بأولئك الذين يقومون بمثل هذه الممارسات. وفيما يتعلق بالتوجهات الرسمية فإن هناك محاولات لإيقاف زحف المشكلة. وتجدر الإشارة إلى أن صنعاء احتضنت منتصف العام قبل الفائت، المؤتمر الإقليمي الثاني لوقاية الأطفال من العنف والإساءة والإهمال، حيث أوصى المؤتمر الذي قدمت فيه أكثر من سبعين ورقة عمل، بتفعيل الشراكة مع المؤسسات الدينية لحماية الطفل من العنف بكل أشكاله، ودعوة جامعة الدول العربية إبلاء قضايا تهريب الأطفال والمتاجرة بهم أهمية خاصة ومعالجة أسبابها بين الدول الأعضاء المصدرة والمستقبلة للأطفال ضحايا التهريب، فضلاً عن إعداد فريق من الخبراء متعددي التخصصات في حماية الأطفال من العنف بكافة أشكاله لتدريب مدربين على مستوى كل بلد من أجل تأهيل المهنيين المتعاملين مع الأطفال، إلى جانب إكساب الطفل القدرات والمهارات اللازمة للوقاية والحماية من العنف وكيفية الإبلاغ عن حالات العنف والإساءة، بالإضافة إلى دعوة المؤسسات الأكاديمية للاهتمام بدراسة ظاهرة العنف ضد الأطفال ليتم مناقشتها بشكل علمي مدروس بما يتوافق مع الواقع المجتمعي، إلى جانب عدد من التوصيات الهامة التي تصب في مصلحة الطفولة وحياة الطفل.