في بيته المتواضع بالمنصورة بعدن، وفي غرفة استقبال ضيوفه، والتي يعتبرها أيضا مكتب عمله، ينسج بداخلها إبداعاته في الكتابة الإخبارية الصحفية لتخرج إلى أصقاع المعمورة.. التقت "السياسية" الأستاذ الصحفي محمد عبدالله مخشف، ونحن في غمرة الاحتفال بعيد الإعلاميين 19 مارس، لنبش ذاكرته، ونقل عديد من الصور للقارئ التي قد تكون غائبة أو مغيبة عن الكثيرين. وفي أول لقاء شامل مع مطبوعة صحفية محلية ليروي وبتواضع الفصول العديدة، والتي استلهمها في معترك عمله في سن مبكرة، وهو فتى يافع لم يتجاوز ال15 عاما من عُمره، حيث اكتشف ميوله وولعه في الصحافة المدرسية أولا، ومن ثم التحاق بصحيفة "فتاة الجزيرة" وبعدها "الأيام" ووكالة أنباء عدن وصحيفة 14 أكتوبر ثم عمل مراسلا لوكالة رويترز، وصقل تجربته من خلال احتكاكه بالرعيل الأول من الصحفيين حتى أصبح معلما في مهنة المتاعب، وبعد أن منحه زملاؤه لقب ملك الخبر والجميل، والجميل في خاتمة الحوار أكد لنا تدوين تحياته الحارة لوالدته العزيزة -أطال الله في عُمرها- التي شجّعته في عمله على الرغم من ممانعة والده وزوجته التي كابدت معه شطف العيش.. ** نقطة الانطلاق * حدثنا عن بداية التحاقك بالعمل الصحفي؟ - بدأت عندي منذ الصغر، وأنا في فترة الدراسة في المرحلة المتوسطة "الإعدادية" كنوع من الرغبة والشغف للعمل في الصحافة، وذلك من خلال قراءاتي للجرائد، وفي المدرسة عملنا صحيفة حائط، بالإضافة إلى الكتابة في الدفاتر نكتب المقالات، وأثناء الدراسة عملنا صحيفة حائط، وأقوم ببعض الزيارات للمطابع في عدن للتعرّف والاطلاع. وأثناء العُطلة الصيفية، وأنا في ثاني ثانوي عام 1962، أتذكّر أني وبعض الزملاء زرت جريدة "فتاة الجزيرة" وهي أول جريدة صدرت في عدن عام 1940، صادفنا شاب عرفت فيما بعد أنه المهندس ماهر محمد علي لقمان، ودار بيننا حوار سريع، أفصحت من خلاله برغبتي في العمل في الصحفية كمحرر، وعلى الفور وافق، وكلّفني بإعداد باب الشباب، وكانت فرحتي كبيرة بهذا التكليف، وعلى الفور بدأت بإعداد مواده، وحررتها على مكينة خياطة الوالدة التي اتخذتها مكتبا، وأحضرتها لمبنى الصحيفة في اليوم الثاني، وبعد ثلاثة أيام نشرت المواد في الصحيفة تحت باب بعنوان "قلم جديد.. وعي جديد.. فجر جديد"، باب أسبوعي يحرره ويشرف عليه "محمد عبدالله مخشف". فوجئت بأن كل المواد التي أعددتها نُشرت.. أصابتني فرحة غامرة، واشتريت خمس نُسخ، وبقيت أتجوّل بها في الشوارع والمقاهي، وخُيّل لي أن الناس تعرفني. ** "فتاة الجزيرة" * إذن كانت البداية في "فتاة الجزيرة" كمحرر لباب "الشباب". - بالتأكيد، أصبحت المحرر الأساسي لباب "الشباب، في "فتاة الجزيرة"، الذي كان يظهر كل يوم ثلاثاء، وبعدها أصبحت أواظب على المداومة اليومية في مبنى الجريدة، وتحت هذا الإلحاح أتاح لي الأستاذ محمد علي لقمان -رحمة الله عليه- الفرصة للعمل كمحرر تحت التدريب كراصد للأخبار العربية والدولية في النشرات الإذاعية وتصحيح البُروفات، ومن حينها تركت الدراسة للظروف المادية الصعبة للوالد -الله يرحمه- وقررت الارتباط بالمهنة براتب 36 شلنا، في الأسبوع. واعتبر مرحلتي في "فتاة الجزيرة" المرحلة التمهيدية في سُلّم عملي في مهنة المتاعب. ** صحيفة "الأيام" * وماذا بعد؟ - بعدها انتقلت إلى صحيفة "الأيام"، وتجربتي فيها رسّخت أقدامي بشكل عملي، حيث كان المجال واسعا، وقد كبُرت بعض الشيء في السن، وفهمي اتّسع، وبدأت أكتب العمود، وأكتب وأحرر الخبر، وأعرف الفرق بين الخبر والتقرير، طبعا تحت توجيهات الأستاذ محمد علي باشراحيل -رحمة الله عليه- وتعلّمت منه أشياء كثيرة، واستمريت في "الأيام"، حتى أبريل 1967، وهو تاريخ توقّف إصدار الجريدة. * بعد توقّف "الأيام" إلى أين اتجهت؟ - اتجهت إلى تعز بغرض الحصول على منحة دراسية في القاهرة، غير أن الظروف لم تساعدني على ذلك، وحينها أسعفني الحظ وصادفت هناك تواجد الفرقة العربية للموسيقى بقيادة الفنان أحمد تكرير، والتي كانت حينها تحيي الحفلات الغنائية ليعود مردودها المادي لصالح جبهة التحرير، وأصبحت سكرتيرا إداريا للفرقة. *بعد أن أصبحت إداريا مرافقا للفرقة.. حدّثنا حول هذه التجربة؟ - بعد أن أصبحت إداريا مرافقا للفرقة في تعز توجّهت مع الفرقة إلى صنعاء في مايو 1967، وفيها سعى الأخ محسن الجبري مدير إذاعة صنعاء حينها إلى توظيف أعضاء الفرقة في الإذاعة، والذي وجّه أيضا بإعادة تسجيل الأغاني لبعض الفنانين بمصاحبة للعزف الموسيقي للفرقة.. وأنا عملت محررا في قسم الأخبار بالإذاعة حينها مع زملاء أتذكّر منهم الأخ يحيي الشوكاني، الذي أصبح فيما بعد مديرا عاما لوكالة "سبأ"، ومن ثم رئيس تحرير لوكالة الأنباء اليمنية (سبأ) بعد قيام الوحدة في مايو 1990. * بعد صنعاء أين أستقر بك المقام؟ - بعد تحقيق استقلال الجنوب في 30 نوفمبر 1967، عُدت إلى عدن في عودة ثانية لها، ولكن بدون عمل، حتى التقيت الأستاذ محمد ناصر محمد؛ حامل فكرة مشروع تأسيس وكالة أنباء عدن. ** وكالة أنباء عدن * حدثنا بإيجاز عن فترة تأسيس وكالة أنباء عدن؟ - الحقيقة بعد عودتي من صنعاء إلى عدن بعد الاستقلال تعرّفت على الأستاذ الصحفي محمد ناصر محمد مراسل وكالة رويترز البريطانية، والمُؤسس الأول لوكالة أنباء عدن، والذي شرح لي فكرة تأسيس الوكالة في البداية كمشروع غير حكومي، وأقنع القيادة السياسية حينها بذلك على أن تعمل بجهود ذاتية بدعم حكومي لم يتجاوز 800 دينار كمقدمة عند التأسيس، وذلك قبل إصدار قرار تأسيسها في 7 فبراير 1970، من قبل رئيس الوزراء محمد علي هيثم، وكانت الوكالة تعتمد على مصادر دخل ذاتية من خلال طباعتها لنشرات ثلاث باللغة العربية عبر الاستنسل حينها للأخبار والرصد الإذاعي والتقارير ونشرة واحدة للأخبار باللغة الانجليزية. وبعد إصدار قرار التأسيس، وقبل ذلك، عملنا بإمكانيات شحيحة للغاية، حيث جلب الأستاذ محمد ناصر محمد جهاز راديو ومروحة وآلة كاتبة من منزله في مبنى كان بمثابة مطبخ للبحرية البريطانية بجانب إذاعة عدن بالتواهي قبل الانتقال إلى المبنى القديم -الذي أعيد بناؤه حاليا- لفرع الوكالة بعدن، وعملنا بطاقم صحفي محدود مستعار من إذاعة عدن ضم الزملاء محمد العطار وتوفيق سالم بازرعة وفؤاد عبداللاه أحمد وجميل محمد أحمد ومعروف حداد وفؤاد خالد دجنة ومحفوظ العواضي، بالإضافة إليّ والزميل المرحوم علي فارع سالم ومحمد صالح حمودي وسعيد بجاش وأشرف كوكني والمرحوم محمد محسن بركات وعبد العزيز مقبل. ولم يمر العام الأول من التأسيس إلا وتوفّر للوكالة الكثير من التجهيزات الفنية في استقبال الوكالات الشقيقة والصديقة عبر أجهزة بدعم من الأشقاء المصريين والسوريين والأصدقاء الروس والصينيين، كما بدأنا في الإرسال الخارجي لوكالة أنباء عدن عبر وكالة الشرق الأوسط المصرية، التي تعيد إصدار بثنا الخارجي، كما كُنا نزوّد أجهزة الإعلام المحلية بالمواد الإخبارية. المُهم -الحمد الله- البداية كانت صعبة وشاقة، ولكنها كانت لذيذة وممتعة. ** وكالة رويترز * وكيف عملت مراسلا لوكالة رويترز؟ - في بداية عملي مع الأستاذ محمد ناصر محمد في وكالة أنباء عدن، وفي فترة تأسيسها، كُنت أعمل من الباطن مراسلا لوكالة رويترز لحساب المُراسل الأصلي محمد ناصر، الذي أصبح رئيسا لوكالة الأنباء الوطنية، وهو ما يتعارض مع الوضع الجديد له، واستمر ذلك لشهور قليلة، حتى زار عدن كبير مراسلي رويترز في بيروتإبراهيم نوري للبحث في وضع اعتماد مراسل جديد لرويترز؛ خلفا للأستاذ محمد ناصر، وهو ما تم اختياري باتفاق بين محمد ناصر محمد ووزير الإعلام حينها عبدالله الخامري وكبير المراسلين الزائر، وهكذا أصبحت مراسلا لرويترز في العام 1970، وحتى الآن. ** بعد الوكالة * حدثنا عن انتقالك من الوكالة إلى صحيفة 14 أكتوبر؟ - في بداية عام 1973 انتقلت من الوكالة إلى صحيفة 14 أكتوبر، والتي امتدت إلى نهاية خدمتي في الإعلام الرسمي، وصدرت لي عدّة كتابات من المقالات وصياغة الأخبار والتقارير والتحقيقات الصحفية والمقابلة الصحفية مع الشخصيات السياسية الدولية والعربية والأجنبية التي كانت تزور عدن. ** حادثة لا تنسي * هل تعرّضت لمقالب في عملك؟ - كثيرة، على سبيل المثال: حادثة سقوط الطائرة المصرية المستأجرة لنقل الحجاج اليمنيين في عام 1972.. الحادث وقع في الثانية فجرا، ونتيجة لعدم امتلاكي جهاز التلفون في منزل والدي عند ما كُنت ساكنا فيه بالشيخ عثمان اضطر الأستاذ محمد ناصر محمد إلى إشعاري بهذا الحادث لتغطيته خبريا لوكالة رويترز بالاتصال هاتفيا بمركز شرطة الشيخ عثمان وإحضاري إلى موقع الحادث في كريتر، طبعا هذا الأمر سبب انزعاجا للأسرة، وتوجّهت إلى الطويلة بكريتر بواسطة دراجتي النارية؛ لأن الطائرة اصطدمت بالجبال القريبة من الصهاريج، وقُمت بالتغطية لهذا الحادث لوكالة رويترز على الفور. ** اليوم والأمس * هل بإمكانكم إعطاءنا مقارنة بين إعلام اليوم والأمس؟ - طبعا، الفرق كبير ولا مجال للمقارنة، جريدة زمان كانت عبارة عن أربع صفحات فقط من الحجم المتوسط، وتقتصر على الخبر والمقال، أما اليوم فالصّحف توسّعت وتطوّرت وازدادت الأشكال والأنواع في الكتابة الصحفية. والإعلام المسموع والمرئي كان مقصورا على المستوى المحلي، وبفضل التطوّر التقني أصبح الإعلام في مساحات واسعة من بقاع المعمورة. ** الإعلام اليمني * كيف ترى حال الإعلام اليمني اليوم؟ - للأسف لا توجد تقاليد وأصول إعلامية يحتذى بها.. فالإعلام الرسمي نمطي ومملل وساذج، ويسوده الارتباك والضبابية، أما الإعلام الحزبي فلا بأس، ولكنه ليس أفضل من الرسمي، أما الإعلام الأهلي فيوجد فيه نوع من المهنية والمصداقية ونقل الحقائق وتحليلها، ويقدم خدمة إعلامية وقريب من هموم الناس. ** عيد الإعلاميين * اليوم ونحن على أعتاب الاحتفال بعيد الإعلاميين ماذا تريد أن تُسجل من ملاحظات؟ - لا تعليق، غير أنني أرى أنه من المفيد الاحتفال بيوم الصحافة في 9 يونيو، استنادا على قرارات المؤتمر التوحيدي لنقابة الصحفيين الذي أقرّ يوم 9 يونيو يوما للصحافة اليمنية. وأجدها فُرصة لمناشدة زملائنا في النقابة للاحتفاء بهذه المناسبة، وهي عزيزة علينا جميعا؛ لأنه يوم ميلاد الكيان النقابي الموحّد بعد دمج الكيانين في الشطرين قبل الوحدة. **نصائح للشباب * هل تود نقل بعض النصائح للصحفيين الشباب؟ - كثيرة.. أدعوهم إلى المزيد من القراءة في شتّى حقول المعرفة، وإلى المزيد من حبّ المهنة والتقرّب إليها، وأقول لهم: عمل الصحفي لا يتقيّد في مواعيد الأعمال المكتبية، أي من الصباح وحتى الظهيرة فقط، والاحتكاك أكثر بزملائهم الروّاد والاستفادة منهم. *حدثنا باختصار عن نشاطكم النّقابي؟ -أنا عضو في نقابة الصحفيين، وقبل الوحدة تم انتخابي عام 1981، عضوا مرشحا للمجلس المركزي لمنظمة الصحفيين بعدن قبل الوحدة، وأعيد انتخابي في العام 1985؛ لنفس المنصب. أما في العام 1986، فقد تم انتخابي عضوا في المجلس المركزي والأمانة العامة ومسؤول العلاقات التنظيمية، ومن خلال هذا الموقع ساهمت في حوار دمج الإطارين بهدف التوحيد، والذي تُوّج في المؤتمر التوحيدي في 9 يونيو 1990، في العاصمة صنعاء. ** إصدار كتاب * هل تنوي تجميع كتاباتك في كتاب؟ -الحقيقة أجدها فرصة هنا، ودعوة أوجهها للزميل أحمد الحبيشي لتجميع المواد الصحفية من أعمدة ومقالات وحوارات، وهي كثيرة، وتجميعها في كتاب. وإن شاء الله يستجيب الزميل الحبيشي لهذه الدعوة، وله منِّي جزيل التقدير والشُّكر. * ما هي هوايتكم؟ -القراءة، قراءة مختلف الكتب، وقراءة السير الذاتية للمشاهير في السياسة والإعلام والروايات المحلية والعربية. * من هم الكُتّاب والصحفيون اليمنيون الذين تحب أن تقرأ لهم؟ - من الزميلات نادرة عبدالقدوس وأروى عثمان.. من الزملاء الأستاذ فاروق لقمان وعبده حسين أحمد ومحمود ياسين ونجيب يابلي وعلي الصراري وسامي غالب ومحمد الغباري، والدكتور أبو بكر السقاف وعبد البار طاهر وعلي المقري ونصر طه مصطفى وجمال جُبران ومنصور هائل وعلي السقاف وأحمد الشرعبي وفكري قاسم وواثق شاذلي وصادق ونعمان قائد سيف وغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة بهم فيعذروني. * لمن من الفنانين ترتاح لسماع أغانيهم محليا وعربيا؟ - محليا محمد سعد عبدالله والمرشدي والزيدي وأحمد قاسم وأحمد فتحي وسالم بامدهف وعربيا فائزة أحمد وماجدة الرومي، الراحله ذكرى. ** تحيّة لأمي وزوجتي * في الختام لمن تود أن توجّه تحياتك؟ -أولا لأمي -أطال الله في عمرها- لأنها شجّعتني على العمل في مهنة المتاعب على الرغم من معارضة الوالد، وثانيا لزوجتي -أطال الله في عُمرها- التي كابدت معي شطف العيش وعاشت معي الحياة بمرّها وحُلوها، وبالطبع تحيات وفاء وعرفان بالجميل واجبة لجيل الروّاد الأوائل الذين أسعدني الحظ بمعاصرتهم، ولكل من مدّ لي يد العون والمساندة في مشوار حياتي. ** بطاقة شخصية - محمد عبد الله مخشف - من مواليد 2 / 3 / 1947م بالشيخ عثمان، محافظة عدن. - درس في المدارس الحكومية وحتى الثاني ثانوي انقطع عن الدراسة لظروف مادية. - التحق بالعمل الصحفي مبكرا في عام 1962. - أب لأربعة أولاد ثلاثة ذكور (ريام وذويزن وأزال) وبنت واحدة، متزوجون جميعا. - له أربعة أحفاد. صحيفة السياسية