مشكلة العالم مع إدارة الرئيس بوش لا تختلف كثيرا عن مشكلته مع الأنظمة العقائدية المشابهة التي ظهرت في المراحل المختلفة من التاريخ وفي أماكن متفرقة من الأرض. فالعقائديون بشتى ألوانهم عندما يجدون فجوة بين أفكارهم وبين الواقع يلجئون إلى محاولة تغيير الواقع بدلا من تغيير أفكارهم. وهذا هو حال الإدارة الأمريكية الحالية في العراق. غزت القوات الأمريكية العراق لتحقيق أهداف معينة ترتبط أولا وقبل كل شي بمصالح شركات النفط وشركات إنتاج السلاح العملاقة ودولة إسرائيل. لكن الإدارة أمريكية، وكأي قوة توسعية عبر التاريخ، استخدمت في غزوها ثلاث تبريرات أولها علاقة النظام العراقي السابق بالإرهاب، وثانيها امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وثالثها، نشر الديمقراطية في العراق. لقد أثبتت الأيام أن الادعاء بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل هو ادعاء باطل وان تلك الأسلحة لم توجد إلا في أذهان المحافظين الجدد في واشنطن. كما أثبتت الأيام أن العلاقة المزعومة بين صدام حسين وأسامة بن لادن ليست أكثر من فبركة استخباراتية أمريكية قام بها المقربون من بوش ورغم أنف المخابرات المركزية الأمريكية. ولم يبق أمام إدارة بوش في سعيها لحفظ ماء الوجه سوى مبرر نشر الديمقراطية. لقد نسيت كل التبريرات الأخرى ولم يبق سوى قشة الديمقراطية التي تتعلق بها الإدارة الأمريكية. فأمريكا غزت العراق من اجل نشر الديمقراطية ومن اجل جعل العراق مثالا يُحتذى به في المنطقة. مشكلة إدارة بوش انه في الوقت الذي تسعى فيه للتعلق بقشة الديمقراطية فان نهر الدم الذي فجرته في العراق مازال يجري رغم مضي قرابة عامين على المغامرة غير الناجحة للصقور الأمريكية. الأكثر من ذلك أن رسل الديمقراطية قد قتلوا خلال السنتين الماضيتين أضعاف ما قتله الطاغية صدام حسين خلال العشر سنوات الأخيرة من حكمه. أما أساليبهم في التعذيب فحدث ولا حرج ! لقد تفوق اونكل سام، باستخدامه سلاح الجنس الجماعي لمجنديه ومجنداته، وبقدرته على توثيق عمليات التعذيب حتى على زبانية صدام حسين. وتمكن أنكل سام بفضل تطوره التكنولوجي من جعل سجن ابوغريب رمزا للوحشية الأمريكية بعد أن كان رمزا لاستبداد صدام حسين. ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد. فالإدارة الأمريكية التي وجدت نفسها في مستنقع آسن في العراق تحاول الفرار إلى الأمام وفي محاولتها للفرار تجعل من الحرب الأهلية في العراق أمر محتم. وتعتبر الانتخابات الجارية يومنا هذا بمثابة الورقة الوحيدة التي تملكها الإدارة الأمريكية في الوقت الحالي. وبدلا من التأني ومحاولة خلق الظروف المناسبة للعب ورقة الانتخابات إذ بإدارة بوش تهرول للعب هذه الورقة قبل أن يتوفر الحد الأدنى من الظروف المناسبة للعبها. تحاول إدارة بوش من خلال المسرحية الهزلية التي أطلق عليها الانتخابات أن تنقل السلطة إلى العراقيين وتفر بجنودها إلى قواعد عسكرية آمنة يستخدم فيها العراقيون كدروع بشرية. لقد فرضت الانتخابات على العراقيين جميعهم سنة وشيعة، مسلمين ومسيحيين، برغم المعارضة الواضحة من جميع الأطراف. الم يكن حزب علاوي ذاته احد الأحزاب التي طلبت تأجيل الانتخابات؟ فأي انتخابات هذه التي تعقد في ظل السيارات المفخخة؟ أي انتخابات هذه التي يتساوى فيها احتمال فوز المرشح باحتمال موت الناخب؟ أي ديمقراطية هي تلك التي تقذفها حاملات الصواريخ الأمريكية بشكل عشوائي؟ أي انتخابات هذه وبنادق الاحتلال موجهة إلى نحور العراقيين؟ أي انتخابات هذه تلك التي تعقد في ظل حظر التجول وفي ظل جهل الناخبين لأسماء المرشحين، وفي ظل مقاطعة شعبية واسعة؟ لقد بلغ الغرور بالإدارة الأمريكية حدا جعلها تعتقد ان بإمكانها أن تحدد من هو الديمقراطي ومن هو غير الديمقراطي، ما هي الحرية وما هي العبودية، ما هو القانوني وما هو غير القانوني. وبغض النظر عن ما ستسفر عنه هذه الانتخابات فان الهدف الوحيد الذي ستحققه هو الضحك على الرأي العام الأمريكي الذي يسقط أبنائه ضحايا في حرب لا تهمه بنفس الدرجة التي تهم شركات تصنيع السلاح وشركات النفط ومصالح تكساس. إن مشكلة العراق التي خلقتها الولاياتالمتحدة لن يتم حلها بانتخابات تفتقر إلى الحد الأدنى من شروط الشرعية كالأمن ومشاركة جميع القوى الفاعلة والتحرر من الاحتلال. إن جهل الأمريكيين بأوضاع العراق يتفاقم يوما بعد آخر وأخطائهم التي بدأت بالغزو مرورا بإستراتيجية التعذيب النفسي والجنسي ثم بعقد انتخابات غير شرعية وغير نزيهة وغير عادلة كلها تؤدي إلى نتيجة واحدة..مزيدا من الدم ومزيدا من الفوضى! إذا كان بوش كما يزعم قد غز العراق من اجل نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط فان سنتين من الاحتلال وآلاف القتلى قد أعطت الديمقراطية معنى سيئا. وإذا كانت الديمقراطية هي ما يفعله بوش في العراق فان الغالبية العظمى ليس فقط من الجماهير العربية ولكن من الجماهير في العالم اجمع ستدينها وسترفضها دون تردد. * أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء سبانت