في سابقة هي الاولى من نوعها منذ احتلال فلسطين حاولت جميع فصائل المقاومة الفلسطينية نفي مسؤوليتها عن عملية تل أبيب الفدائية الاخيرة بهذه السرعة عنها والتنصل منها، فضلا عن نفي القوى الإقليمية مشاركتها فيها أو حتى التحريض لتنفيذها، وهذا التنصل والنفي الشديد للمسؤولية وضع حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين في موقف حرج أمام السلطة الفلسطينية التي استنفرت أجهزتها الأمنية لكشف ملابسات العملية بالتعاون مع ضباط امن صهاينة. الجهاد الإسلامي التي أعلن جناحها المسلح "سرايا القدس " مسؤوليته عن العملية الاستشهادية عبر شريط فيديو يظهر منفذها محاط برايات الحركة، تعيش اثر العملية المفاجئة ارتباك سياسي داخلي شديد، فبعد التزامها بالتهدئة، يخرج من بين أحشاء الحركة من ينفذ عملية جلبت على الحركة نقمة القيادة الفلسطينية التي اتهمت طرفا اقيليما ثالثا لأول مرة بالوقوف وراء تنفيذ العملية. أما صهيونيا فان العملية أفادت الحكومة الاسرائيلية التي تنفست الصعداء بهذه العملية التي تمكنت من خلالها إسرائيل من توجيه الأنظار عن تلكؤها في تنفيذ الالتزامات تجاه الفلسطينيين، لترمي الكرة في الملعب الفلسطيني، ولتضغط بقوة على القيادة الفلسطينية لدفعها على محاربة فصائل المقاومة الفلسطينية كافة، فضلا عن استغلال الحكومة الإسرائيلية للعملية لربط أكثر من طرف فيها؛ إذ، بعد أن اتهمت حزب الله اللبناني بالمسؤولية عن العملية، وجهت الاتهام مباشرة إلى سوريا، لتزيد من الضغوط الدولية الواقعة تحتها بفعل تداعيات اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري قبل أسبوعين. إذاً العملية بكل المقاييس عادت نتائجها بالفائدة على الحكومة الإسرائيلية التي أجادت استغلالها إعلاميا ودبلوماسيا وعملت على تضخميها بشكل غير مسبوق مع العمليات الاستشهادية الكبرى التي فاقت عدد قتلاها العشرين وجرحاها المئة، في مقابل موقف حرج جداً لكل من السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة الفلسطينية بمن فيها حركة الجهاد الإسلامي، إضافة إلى حزب الله، وسوريا؛ سوريا المحشورة في الزواية، ستتحرك إسرائيل ضدها على أكثر من صعيد وفرتهم العملية الأخيرة، فالوفود الأمنية الإسرائيلية ستصل واشنطن ولندن وباريس لإطلاع المسؤولين فيها على المعلومات التي تثبت ضلوع سوريا في هذه العملية. هذا الإحراج كان واضحا من خلال التصريحات السريعة والواضحة التي أعلنتها كل لأطراف، فلأول مرة تنفي كل فصائل المقاومة صلتها بعملية، ولم يعهد الفلسطينيون أن نفى يوما فصيلا مسؤوليته عن عملية إن لم ينفذها عناصره، بل دأبت العادة على إشادة الفصائل بالعمليات الفدائية، وهو ما فقدته هذه العملية حتى من القيادة السياسية للجهاد الإسلامي، لكن هذا لم يمنع الفصائل من تبرير وقوع العملية. أما السلطة فان الحرج الذي وضعت فيه اثر العملية تمثل في إعلانها لأول مرة بشكل صريح وجود طرف ثالث له علاقة بالعملية، ما يعني أن السلطة بهذا التصريح ستدخل في مناكفات سياسية مع أطراف عربية، عملت القيادة الفلسطينية الجديدة على تحييدها قبيل استلام الرئيس الفلسطيني الجديد زمام الحكم، إضافة إلى أن العملية فرضت على السلطة التعامل مع منفذيها بقوة غير معهودة منذ بدء انتفاضة الأقصى، وفرضت عليها ضمن ما فرضت التعاون مع ضباط المخابرات الصهاينة للتحقيق في ملابسات وقوع العملية. تداعيات العملية على سوريا واضحة لا تحتاج إلى إيضاح، فسوريا الواقعة على حدود البلدان الملتهبة ليست بحاجة إلى عمليات جديدة تحمل المسؤولية عن تنفيذها والوقوف وراءها، إضافة إلى حزب الله الذي نأى بنفسه هو الأخر عن العملية. لذا، إذا نفى الكل المسؤولية، وأربكت العملية القيادة السياسية لسرايا القدس التي أعلنت المسؤولية، من المسؤول عن تنفيذها ؟ ولماذا أعلنت الجهاد الإسلامي مسؤوليتها بعد نفيها في وقت متأخر؟وكيف وقعت العملية الواضح تداعياتها على كل الأطراف المعنية في المنطقة. يفسر المحلل عدلي صادق سر تبني الجهاد الإسلامي للعملية في وقت متأخر، بالقول:بمقدورنا أن نفسر، هذا الاستدراك المتأخر، من حركة "الجهاد الإسلامي" بإعلان المسؤولية عن العملية؛ ففضلاً عن الضغوط، من قبل الجهات التي لها معاركها الدفاعية المفتوحة" يقصد سوريا وإيران وحزب الله"، نلمس أن هناك رسالة جوابية، من "حزب الله" للسلطة الفلسطينية، ترد على تأكيد مصدر منها، بالتصريح، مثلما ترد على تلميح الرئيس محمود عباس، إلى صلة الحزب بالعملية. وجاء الإعلان "الجهادي" مشفوعاً بالشريط، ليرد الكرة إلى الملعب الفلسطيني، ويجنب الآخرين أية تبعات، على قاعدة الافتراض الذي في غير محله، بأن فلسطين ساحة مفتوحة للاستراتيجيات الكثيرة، وبأنها تحتمل، أكثر مما تحتمل البلدان ذات الجيوش الجرارة، وذات المفاعلات النووية، وذات التشكيلات المقاومة، المدججة بالسلاح. ويواصل صادق تحليله لمجريات حدوث العملية بالقول:المجموعة الصغيرة، التي أرسلت الشاب لتنفيذ العملية، دون العودة كما تدل عدة مؤشرات إلى قيادتها، ربما تكون هي التي اتصلت فور وقوع الحادث، للإعلان عن مسؤولية "الجهاد" ثم انبرى "الكبار" لمهمة النفي، بلغة محترمة. إلا أن صادق يجزم بأن قياديي الحركة في الداخل، لا يعرفون بالعملية، ولا يرغبون في أن تتحمل حركتهم، المسؤولية عنها، ولم يكونوا يتمنون أن يقوم شبابهم بها. لكنه لا يبرأ ساحة بعض قادة الحركة في الخارج من جزء من المسؤولية لمراعاة أحوال أخرى، وأجندات لا ذنب لنا فيها، وقوى كان يجب أن تكون مكتفية بذاتها، وقادرة على أن تتحمل، ولو مثقال ذرة مما تحمله الشعب الفلسطيني فالإعلان عن مسؤولية "الجهاد" كان بضغوط خارجية، لعدم إحراج الضاغطين. لكن يختلف محلل سياسي فلسطيني آخر هو طلال عوكل مع صادق، يرى أن إسرائيل تصر على أن تستفيد من حالة اليتم هذه، لتنسب عملاً من المرجح انه فردي إلى أب تختاره فيكون مرة حزب الله ومرة أخرى سورية، أو الاثنين معاً.ويستبعد عوكل استغلال طرف ثالث لمجموعة مقاومة فلسطينية لتنفيذ العملية، ويقول:الفصائل الفلسطينية التي تعمل في مجال المقاومة، معروفة بقدرتها على إلزام عناصرها بالسياسات والقرارات التي تتخذها، وليس هناك أية إشارة من قريب أو بعيد على أن اياً من هذه الفصائل يتبع سياسة مزدوجة، أو انه يعاني انقساماً في الرأي والموقف، حتى تقوم جهة منها بعمل يخالف رأي جهة أخرى، ما ينفي ما قيل من أن الجهاد الإسلامي من دمشق هو من أوعز بالعملية على نحو مخالف لموقف الجهاد في الداخل الفلسطيني. ويدافع عوكل عن موقف سوريا:"دمشق لا ينقصها أن تفتح ضدها جبهة أخرى، تقدم سبباً اضافياً لضغوط شديدة أخذت تتعرض لها من قبل المجتمع الدولي، ومن قبل جزء لا يستهان به من اللبنانيين، وأيضاً من الحكومة العراقية.ويضيف عوكل الاتهامات الموجهة ضد سورية كثيرة ومن وزن ثقيل كان لتبرير تزايد الضغوط عليها، فهي متهمة سلفاً باغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، ومتهمة بأنها تغتصب لبنان رغماً عن أهله، ومتهمة بأنها تدرب مقاتلين عرباً وعراقيين يتسللون من حدودها إلى العراق، وبالاحتفاظ بأرصدة مالية في بنوكها تعود لقيادات بعثية تنتمي لنظام صدام حسين المخلوع. ويخالف عوكل كثر ذهبوا إلى أن لحزب الله بدٌ في العملية، فيقول:حزب الله كما الفصائل الفلسطينية لا يوجد لديه أي سبب لكي يخفي عداءه لإسرائيل والعمل ضدها وفق حسابات، والضغوط عليه بلغت حد اعتبار قناة المنار التلفزيونية عملاً إرهابيا، ولا نظنه من نوع الأحزاب التي تسعى لبناء فروع وأذرع لها في دول أخرى، خصوصاً أن فلسطين لا تعيش حالة فراغ من وجود أحزاب وحركات دينية فاعلة، حتى يتقدم حزب الله لملئها. ويرى عوكل أن العملية، كانت ربحاً صافياً لإسرائيل، فقد وفرت لها غطاء كان يلزمها، وكانت تنتظره، لتبرير تملصها من الالتزامات التي وافقت على تنفيذها، ومن أجل متابعة خلق الوقائع على الأرض، وأيضاً من أجل تصدير حالة الصراع والأزمة إلى الداخل الفلسطيني. مقابل التحليلات لكبار المحللين الفلسطينيين، كان اتهام السلطة الفلسطينية لطرف ثالث واضح فعضو المجلس التشريعي عن حركة فتح عبد الفتاح حمايل، وعضو اللجنة الفلسطينية - الإسرائيلية المشتركة لحلّ موضوع المبعدين والمطاردين، يؤكد أن لدى السلطة الفلسطينية من المعلومات ما يكفي حول المصدر الرئيسي لهذه العملية. ويزيد حمايل أنّ هذا الطرف لا زال يتاجر في القضية الفلسطينية وما زال يرى أنّ الشعب لفلسطيني قاصر وأنه هو الوصي عليه. ويقول:إن هذا الطرف الذي لم يُسمِّه يرمي بكامل ثقله وإمكانياته في سبيل تخريب أي تقدّم وأية حركة تدفع بالفلسطينيين باتجاه الحل السياسي! وأوضح أنه إذا ما استمر الوضع كذلك "فإنّ السلطة وما تملكه من معلومات سوف تضطر لكشفها لوضع النقاط على الحروف". وإذا كان حمايل يشير بكلامه إلى مسؤولية حزب الله عن العملية، فان وزير التخطيط غسان الخطيب ينفي اتهام السلطة الفلسطينية لأية جهة كانت. ويوضح الرئيس الفلسطيني ورئيس الوزراء ووزير الداخلية وجميع المعنيين بهذه المسألة استنكروا العملية، مشيرين إلى الضرر الذي يترتب عليها والتوقيت السيء لها، وأشاروا إلى أنّ المستفيدين منها هم الجهات الإسرائيلية اليمينية التي تسعى إلى تقويض الجهود.ويؤكد الخطيب على أنّ أيّا من تصريحات المسؤولين الفلسطينيين لم تُشر إلى اتهام أية جهة على الإطلاق وبالتالي ليس لدى السلطة أي اتهام لجهة مُحددة. لكن بغض النظر عن الجهة التي قامت بهذه العملية، فهي لم تخدم المصلحة الوطنية الفلسطينية. بدوره أخذ شارون الرابح الأكبر من هذه العملية دور المتهم والحكم؛ إذ، وزع اتهاماته على الجميع، وربط الجميع بالعملية في استغلال ناجح منع للعملية، وهدد الجميع بالعقاب إذا لم يقم كل طرف بما عليه، ويضبط الوضع في منطقة نفوذه، فقال شارون:"إننا متأكدين أنّ أوامر تنفيذ العملية وصلت من جهات من الجهاد الإسلامي في سوريا، إلا أنّ هذا لا يعفي السلطة من مسؤوليتها". ويلوح شارون بعصا إعادة الضربات العسكرية على الجانب الفلسطيني:إذا لم تبدأ عملية فلسطينية جادة ضد الإرهاب، فإنّ إسرائيل ستضطر إلى زيادة عملياتها العسكرية التي تهدف للحفاظ على حيوات مواطني إسرائيل". تهديد شارون للفلسطينيين، قابله تهديد بلهجة اشد ضد سوريا وجهه نائب وزير الأمن الصهيوني الليكودي المتطرف زئيف بويم، محذرا من مهاجمتها بزعم رعايتها لما اسماه "الإرهاب". وقال:إن إسرائيل عملت في الماضي ضد سوريا، وإذا كان الأسد بحاجة إلى تلميح آخر من قبل إسرائيل، فسيحصل عليه". ولم يستبعد بويم قيام إسرائيل بهجوم على سوريا، لكنه فضل أن يتم ذلك بالتعاون مع الجهات الدولية الفاعلة في المنطقة، وخص بالذكر أميركا وأوروبا، وفرنسا بشكل خاص، معربا عن أمله بأن تنضم روسيا إلى الضغط على سوريا. وبرأيه "إذا لم يفهم الأسد برأسه، فقد يفهم برجليه"! التحريض الصهيوني ضد سوريا جليا من تصريحات معظم المسؤولين الصهاينة الذين توعد عدد منهم بمعاقبة سوريا بشكل مختلف هذه المرة ولربما غير مسبوق. وبمتابعة تفاعلات العملية داخل إسرائيل يتضح حجم التحريض ضد سوريا، إذ، خلص وزير الحرب الصهيوني شاؤول موفاز مع أركان قادة الأجهزة العسكرية الصهيونية إلى أن سوريا تواصل رعاية التنظيمات"الإرهابية"لتنفيذ عمليات ضد إسرائيل على نحو يعرض الاستقرار في المنطقة للخطر. النتيجة التي وصل إليها الجهاز العسكري والسياسي الصهيوني، شرعت إسرائيل في استغلالها دبلوماسيا وإعلاميا ضد سوريا؛ إذ، قررت إسرائيل إرسال وفودها إلى واشنطن ولندن وباريس لإطلاعها على المعلومات التي تثبت ضلوع سوريا في عملية تل أبيب وتمويلها. ويعتبر التحرك الدبلوماسي والإعلامي الإسرائيلي تمهيد لتصعيد عسكري ضد سوريا، يطال هذه المرة ضرب مناطق حساس، وبشكل أقوى وغير مسبوق. نوايا إسرائيل معروفة تجاه سوريا، فإسرائيل أول من سارع إلى تحميل سوريا مسؤولية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهي التي تغذي الإدارة الأمريكية بمعلوماتها الاستخباراية حول النشاط السوري في العراق، وجاءت الفرصة لإسرائيل اليوم لتأزيم الوضع على الساحة السورية بتحميلها الجزء الأهم من المسؤولية، إذ لم يقنعها اتهام حزب الله فقط أو الجهاد الإسلامي، فهي تريد الإيقاع برأس كبيرة في المنطقة تحيك إسرائيل ضده المؤامرات منذ عقود. إزاء المواقف الصهيونية المتشددة، والمضخمة للعملية، ينفرد النائب الفلسطيني زياد أبو عمرو المتخصص في الحركات الإسلامية الفلسطينية، بتحليل دقيق لهذه العملية، إذ يقول: أتفهم تماماً طبيعة مثل هذه العمليات الفردية، فمثل هذه العملية وقعت في السنوات الماضية عمليات كثيرة منها ما كان معداً لها من قبل من الفصائل الفلسطينية، ومنها ما تبنتها الفصائل بعد وقوعها، مشيرا إلى أن أكثر من عملية لم تعلم الفصائل عن نية عناصرها تنفيذها إلى بعد وقوعها. ويبرر أبو عمرو رأيه: الاحتلال أوجد الدوافع لكل فلسطيني كي يقاوم الاحتلال كلما حانت له الفرصة لذلك، وليس بالضرورة أن ينتظر أي فلسطيني قرارا مركزياً من أي فصيل مقاوم ليقوم بعملية معينة. موقف أبو عمرو يشاطره معلومات شبه مؤكدة ذكرها احد قادة الجهاد الإسلامي –دون الإفصاح عن اسمه – تفيد أن الخلية التي نفذت عملية تل أبيب، كانت على خلاف بسيط مع قيادة الحركة، فالقيادة لم تستجب لمطالب بعض عناصر الخلية، فقام العناصر بالإعداد لعملية تفجير استشهادية (احراجية ) لإحراج قيادة الجهاد الإسلامي السياسية ليس أكثر، والموقف لا يحتمل أكثر منذ لك. ويضيف القيادي في الجهاد: ليس صعباً اليوم الإعداد لعملية تفجير استشهادية، فالمئات من الفلسطينيين، أصبحوا خبراء في إعداد المتفجرات، وفي التخطيط لتنفيذ العمليات، ولم يعد التمويل يقف عائق أمام الإعداد والتنفيذ، فإمكانيات بسيطة، مع توفر عزيمة، يتم تجهيز عمليات كبيرة، فما بالنا بعملية تل أبيب، الأمر لا يتعلق بداخل أو خارج، والأمر ليس مربوطا بحزب الله أو سوريا أو أي جهة أخرى. ويشير القيادي في الجهاد إلى وجود رغبة قوية لدى كل الدول في المنطقة لتخفيف حدة الحرب في فلسطين،ولا يوجد دولة في المنطقة كانت مع استمرار التصعيد داخل فلسطين، سوى إسرائيل الطرف الأكثر استفادة من العملية وهذا واضح من حجم التضخيم الإسرائيلي للعملية .