في تاريخ الشعوب هناك مواقف دامية، وتمزيقٌ لخارطة الوطن والمجتمع، وقد تمت مقايضة أقاليم وأقليات، وفصل مناطق غنية بمواردها الطبيعية ضد أخرى فقيرة، وأُبيدت أجناس لصالح أعراق أخرى، ومُسخت هويات وثقافات، وأمام الجبروت من إنسان على آخر ظهرت مبررات المقاومة والنضال ضد الإمبراطوريات والدول الاستعمارية والمستوطنة، أو مظالم الحكومات المستبدة، فكانت قرون الدماء أمام المنتصرين بأدواتهم وقواتهم الحديثة، ليست القاهرة للإرادات الشعبية ومقاومتها.. كلّ الشعوب المنتصرة والمهزومة تعاقبت عليها نفس الأحداث في أطوار ضعفها، وبالتالي صارت العقوبات من جنس العمل، ولم يكن للحضارات الراهنة الدور الإنساني إلا في محيطها، أو من يتماثل معها بالقوانين والقوة والقدرة على المنجز العلمي والتقني، أما المحرومون من هذه الامتيازات فقد تُركوا لمواجهة عدوهم وأنفسهم، وقد سُيرت الدساتير والحقوق في خدمة من يقف على صناعة التاريخ لا من يشاهده أو ينتظر عفوه، ومصادفاته.. في محيطنا العربي، وعالمنا الإسلامي جرت أحداث هائلة، فقد أقمنا إمبراطورية عظمى عمرت ثم تفتت كشأن صعود وهبوط القوى التاريخية، ونعيش الآن على ذكرياتها فقط، أي لم نستطع مثل أمم أخرى، فاقت وجدّدت حيوية شعوبها بنهضة جديدة، لأن حكام ما بعد الاستقلال لعبوا أدوار استعارة قوانين وأنظمة لا تتلاءم مع مكوّننا الاجتماعي، وعندما شعروا بعجزهم عن التطور بدأوا لعبة خلق التناقضات بين القوى الداخلية بعزل قوميات، أو دفع طوائف وقبائل للتصادم لتقوية وتطويل أعمار تلك السلطات ما كرّس العداوات بين الشعب الواحد الذي ظل متعايشاً ومنسجماً قروناً طويلة، وحتى في حالة أميّته وفقره لم يكن الشعور العام يفجر هذه التناقضات حتى إن الاستعمار الذي حاول ضرب الشعوب مع بعضها فهم الهدف من ذلك وانتصرت الوحدة الوطنية على الفئوية والتقسيمات التي أصبحنا نعيشها الآن فخلقت صراعاً أقوى من صراعنا مع العدو الخارجي.. فكذبة الديمقراطية التي جلبها الاحتلال الأمريكي للعراق خلقت واقعاً جديداً؛ حيث أصبح العراق مرتهناً إلى إيران بوجوده وتوجّهه، وصار الفصل بين أجزائه الثلاثة، جنوب، ووسط، وشمال حقيقة تشجعها دعوات الفرقاء، وصارت الطائفة الهوية الجديدة والتبعية لإيران، وجنوب السودان استقل ليس بفعل الرغبة وحالة التمايز مع الشمال، ولكنّ وجود مواطنٍ منفيّ ومقهور على أرضه فتحَ النار على الوحدة، والسبب يعود إلى أن جميع حكومات ما بعد الاستقلال تجاهلت الاهتمام ببناء علاقة تتساوى فيها مهام التنمية والحقوق بدون فوارق، فكان لابد من تحقيق المصير الذي جاء بالقوة وانتهى بالحوار وقبول الأمر الواقع، والأمر نفسه يهدد وحدة اليمن التي قامت بمباركة عربية لكنها فشلت في أن تلغي الفوارق بين الجنوب والشمال، وربما تحدِث نفس السيناريو العراقي والسوداني، ويبقى لبنان عرضة لنفس الحالة، وهنا يأتي الجزم بأن الحكومات وحدها مَن يتحمل وزر ما يجري، والمستقبل المظلم لهذه الأمة..