كان لي جار من ذاك ينساه أو يشبع من نعمة وجهه وعطر بدلاته ورائحة بنزين سياراته وجمال ألوانها أو ينسى بوابة بيته التي كلفته أكثر من قيمة البيت نفسه فقد كان وهو ممن تجب عليهم الرحمة وممن قضى عمره في خدمة الوطن وخلف بعده مآثر و" تواثر " لاتعد وأبناء يشتد بهم ظهر حمير ذواقا إلى درجة يحتار المتأمل فيه وفي تصرفاته إلى درجة ظنه مغفل مثلي قبل أن يعرفه على حقيقته لصا كبيرا ينهب أموال البلاد ويبتز العباد لكنه كان غير ذلك لأنه كان يأخذ ما يجودبه الوطن عليه ولا تمتد يده إلا إلى الفائض من خيره فالرشوة عنده حرام لايقبلها على نفسه إلا إذا قدمت له في فتوى هدية , ليس ذلك مهما بل المهم أن درجة الذوق وما يسمى بالايتيكت عند ذلك الرجل بلغت حدا لا يمكن تخيله فقد كان له خمس سيارات منها ثلاث : خضراء وسوداء وبيضاء لم يكن يخرج بهن إلا نادرا فالسيارة الخضراء كانت سيارة نزهة يوم الجمعة فقط يخرج بها إلى ضلاع لشراء القات أو المناطق القريبة من صنعاء والبيضاء للأعراس ومناسبات الأفراح أما السوداء فلم يكن يخرجها إلا إذا مات أحد أصدقائه أومعارفه أو زار مريضا في المستشفى وقد كانت نفسها السيارة التي نقلته ميتا من المطار عندما عاد من الخارج جثة هامدة بعد أن عجز الأطباء في إنقاذ حياته فكانت هي وكوته الأسود بل وشعره الأشيب الذي كان يصبغه بالأسود علامات تعبيره عن حزنه وألمه في المآتم والأتراح فعرفت أنني جاهل ومتخلف لا أفقه في اتيكيت صاحبنا شيئا ولم أتعلم منه لكني عرفت شيئا أهم بعد موته وهو أنه كان وطنيا خالصا من عيار 21 لأن آلافا من سكان هذا الوطن شيعوا جنازته وكانوا يدعون له الله بحرقة أن يعتقه من نار جهنم وكانت معارض من السيارات السوداء تتقدم موكب جنازته ولوحاتها منكسة وزجاجاتها معكسة فتحول موكب جنازته الى عرس. وقد قارنت بين موكب جنازته وبين موكب جنازة اللواء محمد عبد الله صالح رحمه الله شقيق الرئيس علي عبد الله صالح والطريقة التي دفن بها فوجدت بأن الأول استحق أن يكون شقيق رئيس دولة بينما مراسم جنازة الثاني أخبرت أنه كان مواطنا عاديا فما زال مشهد ومراسم دفنه ماثلة أمامي إلى اليوم ولا أعتقد أحدا قد نسيها فبعد أن تم الصلاة عليه في احد مساجد صنعاء نقل جثمانه للدفن في قريته "بيت الأحمر" فكان من شاهد ذلك الموقف لم يتصور بأن الميت أخو الرئيس أوحتى تربطه به صلة قرابة وكأن الرئيس نفسه لم يكن حاضرا الدفن فقد كان بإمكان الرئيس أن يسمح إن لم أقل للشعب كله وللجيش وقوات الأمن بل لضباط وجنود الأمن المركزي الذي كان المتوفى قائده للسير في موكب جنائزي مهيب عدة ساعات في شوارع صنعاء يدعى إليه كبار القوم وقادة قوات الأمن المركزي في العالم كله ويأمر ببناء ضريح له لايقل فخامة ومهابة عن أكبر قصر بمقبرة الشهداء أو يبني ضريحا خاصا به في احد الميادين العامة ومن ميزانية الدولة وتنكيس العلم الجمهوري ثلاثة أيام ومنع أية برامج غنائية أو درامية في الإذاعة والتلفزيون تعبيرا عن الحزن عليه واعتقال كل حفظة القرآن الكريم والزج بهم في حوش المقبرة أو وضعهم تحت الإقامة الجبرية بأحد المساجد لقراءة مصاحف كاملة على روحه وتعطيل الحكومة بوزرائها ومدرائها أربعين يوما للقيام بواجب العزاء والمجابرة بل وجعلهم يبكون بالأمر ويرتدون الأسود طيلة هذه المدة , غير أن ذلك لم يحدث فقد رأيت جنازة محمد عبد الله صالح بعد خروجها من صنعاء إلى بيت الأحمر جنازة عادية خلت من تواجد الوزراء والنواب وكبار قادة الجيش والأمن وعند دفنه لم نشاهد على شاشة التلفزيون سوى الرئيس وأقرباء الفقيد وأهالي القرية فقط , فلماذا الرئيس يتصرف هكذا في مواقف أقل ما يمكن وصفها بأنها نادرة لايبغي الرجل من ورائها دعاية لنفسه أو كسب إعجاب الشعب وغيره إن توفي له قريب أو ختن ابنه البكر أو زوج ابنته حشر الدنيا ودعا الحكومة إليها وحول الوزارة أو المصلحة التي يرأسها إلى " شارعة " وجند موظفيها خدما للقيام بالواجب ومثلما يحدث في الأحزان تحدث الرئيس نفسه عن تصرفاته في مناسبات الأفراح كعرس ابنه وأبناء إخوته وقال إنها اقتصرت على عدد قليل من أصدقاء العريس وبعض الأشخاص الذين كان يدعوهم لحضورها حتى يروا ما يفعل في هذه المناسبات ليخبروا الآخرين بها لعلهم يقتدون ويتعضون . والرئيس في الفترة الأخيرة تحدث كثيرا عن مظاهر الإسراف والبذخ التي تصاحب المناسبات الاجتماعية وخاصة عند المسئولين والميسورين , ومجلس الشورى يدرس الآن هذه الظاهرة والرئيس دعا إلى ترك هذه المظاهر السيئة من باب الحفاظ على مشاعر اليمنيين البسطاء ولأنها تمثل وجها من أوجه الفساد وتثير الأحقاد, وأعتقد أن من خاطبهم الرئيس سيقولون سمعنا وأطعنا وعصينا أيضا, فعندما يبتعدون عن إقامة أعراس أبنائهم في صالات الأعراس في اليمن ويعتقون رقاب مئات الكباش والعجول من الذبح ويتخلون عن توجيه مئات الدعوات لحضور أعراسهم فإنهم بذلك يطيعون ويسمعون الكلام لكنهم في المقابل سيعصون إذا ما نقلوا وقد نقلوا أماكن أعراسهم وأفراحهم ومآتمهم إلى خارج البلاد وإقامتها في أكبر وأغلى الفنادق الأوروبية وسيجدون من شهر أغسطس من كل عام وهو الشهر الذي تؤجز فيه الحكومة وتهاجر صيفا من أثخن وزير إلى أنحف مدير عام إلى أوروبا فرصة لإحياء مناسباتهم هناك ويصرفون عليها بالعملة الصعبة ومن أموال الدولة وبدلا من أن يستفيد المقوت والجزار والنشاد والمغني اليمني من فساد أولئك سيستفيد منه الغريب وان كانوا بتصرفهم على ذلك النحو يحافظون على مشاعرنا نحن اليمنيين ويسلمون أنفسهم من حسدنا وحقدنا عليهم لكن المشكلة في ذلك كله هي الفساد وسرقة أموال الدولة لأنه لو قدم خمسة أو ستة أو حتى نصف فاسد كبير إلى المحاكمة ورأيناه في السجن المركزي يأكل جلده القمل والنمل والسهر والحزن والغم والندم والوحشة والعيش مع متهمين بالقتل والجريمة تأتي على ما تبقى من مسئوليته وهو خلف القضبان لكان ذلك بداية الحل لا كله.