مع نهاية كل عام ومقدم آخر تجتهد الصحف والفضائيات ومنظرو النهائيات والتصفيات السياسية والعسكرية لإصدار فتاوى حول أهم وأبرز أحداث مرت بالعالم والوطن العربي بشكل خاص خلال عام مضى , فبعضهم اعتبر الحرب على العراق أبرز حدث بالنسبة لعالمنا العربي وآخرون رأوا أن الانتخابات الأمريكية كانت الأبرزلأنها لم تنعكس علينا وحدنا بل على الكل إلى غير ذلك من الأحداث التي هزت الكرة الأرضية ليختتم العام أيامه بزلزال جزيرة سومطرة الاندونيسية , لكن أولئك المنظرين لا أدري نسوا أم تناسوا حدثا لا أراه وحدي هاماً وفريدا بل انه كان من ابرز ما مر على عالمنا العربي من أحداث وكان يستحق التذكير إن لم يكن افراد حلقات وندوات ومؤتمرات عربية وعالمية خاصة به وهو الملحمة الغنائية العراقية " البرتقالة " الذي مثل صورة من صور الحرية والديمقراطية التي بشرت بها الولاياتالمتحدة شعوبنا وشعابنا، وأقول البرتقالة لأنها اولاً استطاعت رغم قصرها وقلة كلماتها وعدد حباتها تحريك الشارع العربي من منفاه الى منفاه وهو الشارع الذي لم يتحرك الا بما سمح له من صراخ ونواح على صور القتلى في العراق وفلسطين فالجميع تفاعلوا مع أو ضد هذه الأغنية وعلى رقصات بطلاتها و نبت آلاف المنظرين والنقاد معها أو ضدها من العدم وأثارت من خلف كواليسها قضايا سياسية واجتماعية وثقافية معقدة ذكرت بقية الحمضيات بأن سارق البلح ما يزال في مزارع النخيل العراقية، كما أن هذه الأغنية خلقت في عواجيز العرب شعورا ولو كاذبا بأنهم ما يزالون شبانا وفي الشبان قناعة بأن البرتقالة العربية يمكنها مد عصائر النشوة الى أفواههم والرقص على دقة أي طبال حتى وان كانت مقطعة بسكين الأجنبي , ثانيا أن البرتقالة أثرت في الناس في زمن قياسي وبصورة لم تستطع معها أطباق السلطة العربية بكل بهاراتها وتشكيلاتها وأنواعها أن تنزع البلح العراقي من الحنجرة الأمريكية أو تمنعه من الوصول إلى فمه، كما أن البرتقالة مثلت رمزاً للحرية التي زفها الأمريكيون والبريطانيون للشعب العراقي قبل اكتساح بغداد بعدة أشهر وكان ثمنها لتظهر على الشاشات العربية كبيرا وصل إلى أكثر من مائة ألف قتيل وربما أكثر فالذي كان في زمن صدام لا يحق له إلا التغني بشكل ولون السلطة ها هو اليوم يتغنى بكل أنواع الفواكه والخضروات بحرية، وغداً قد يتغزل بحظائر الحمير ومزارع الخنازير وبحرية أيضا وفوق ذلك كله بإمكانه الرقص وهز جسمه كله دون حسيب ولا رقيب، أما الأمر الثاني أن هذه الأغنية أزالت من المطبخ العربي جلافة وقساوة طباخيه وحولتهم إلى مرهفي الحس وعاطفيين إلى درجة صاروا يطالبون بإعادة جدولة الاحتلال وترتيب أو ضاعه في المدن العراقية حتى يتناسب مع تقاليدنا وعاداتنا في البقاء ضيفا خفيفا، والأمر الآخر أن البرتقالة تاريخيا كانت واحدة من المظاليم في حديقة الفن العربي فجاء من ينصفها بعد أن كان صدام حسين أبرز الظالمين لها فكانت سببا في تحرير شقيقاتها الأخريات فرأينا التفاحة وقد تحولت إلى صاحبة قد مياس واليوسفندي إلى خيزران إن حركت خلخالها حركت الشارع العربي كله من الزقاق إلى الزقاق .. ولأن الأمر كذلك فقد كتب عن هذه الأغنية ما لم يكتب عن سواها من أغانينا وأناشيدنا ومواويلنا منذ احتلال فلسطين إلى اليوم وصار لها مناصرون وعشاق وجمعيات مؤيدة وأحزاب وربما أنظمة عربية تدافع عنها وتقف بالسكين ضد كل من يحاول تقشير سمعتها بأظافره وقلة أدبه ولعلها كانت الحسنة الوحيدة للتعبير عن حالة التضامن العربي لأن العيون والآذان تضامنت مع شاشات الفضائيات وهي تنسكب إليها من الفضاء الخارجي حاملة تباشير وحدة الرقص الشرقي وعراقته، والأهم من ذلك أنها فجرت حالة من حالات التعبير عن حرية الرأي والرأي الآخر فنتج عنها الممارسة الديمقراطية البعيدة عن هيمنة الحكومات فصار للزوجة إبداء الرأي وبصراحة في شم وطعم البرتقالة أو رميها إلى سلة المهملات أو حجب الشاشة عن الزوج حتى لا يراها و المطالبة بالطلاق إن أصر على رأيه كما حدث في بعض البلاد العربية، وقد جاءت في وقت سيطرت فيه صور الرئيس الأمريكي بوش على العالم صبح مساء فلم يكن هناك سواه و" أكياس القمع الأمريكي " في العراق وفي أماكن أخرى وشارون وكوكتيل الموت الإسرائيلي فقط فأتت البرتقالة لتقول أن بإمكان برتقالنا العربي أن يغلب البرتقال الأمريكي ليس في حموضته بل بسكرياته وتخديره لآكله، وتثبت أيضا بأن الورد الذي ظل الشعراء العرب يتغنون به من الجاهلية وحتى اليوم لم يتسبب إلا في زيادة حمرة خد العدو وليس في حياء جبينه خجلا مما يفعل بنا، والأهم من كل ذلك هو أن نسأل أنفسنا ما الذي قدمناه كعرب للشعب العراقي فلا نحن ساعدناه على النظام العراقي السابق وظلمه ولا نحن أنقذناه من مجازر الاحتلال ومارشاته العسكرية ونشيده اليومي في كل مدينة وبيت عراقي فجاء من يقدم لهم شيئا مختلفا غير ما الفوه من صدام وبوش والعرب حتى لو كانت أغنية كالبرتقالة التي توزع خيرها على الشعوب العربية قبل أن تصل حموضتها إلى الشعب العراقي الذي تنكر لها واعتبرها تجسد ثقافة الاحتلال.