ما يميز لاوس في جنوب شرق آسيا حيث كانت تقع الهند الصينية الفرنسية، عن بقية بلدان آسيا بل العالم كله، ليس الثروة أو الصناعة أو السياحة الخارقة، بل كما قال الصحافي تين لي وين، أنها كانت تتلقى عدة أطنان أو آلاف الكيلوغرامات من القنابل العنقودية المميتة لكل من تقع عليه أو يتعثر بها كل ثمان دقائق لمدة تسعة أعوام.. يعني زلازل يومية من المتفجرات كالتي ألقتها إسرائيل على لبنان خلال العقود القليلة الماضية والحرب الأخيرة قبل عامين. الأسوأ أن كان هناك ما هو أسوأ، أن تلك القنابل المصنوعة في الولاياتالمتحدة والتي تتلقاها إسرائيل مجاناً، تظل مدفونة إذا لم تنفجر فوراً عند سطح الأرض لأعوام عديدة تقتل وتشوه آلاف البشر، ولا يمكن التخلص منها إلا باستخدام أعداد كبيرة من الأحياء وبثمن باهض للبحث عنها وتفجيرها إلى أمد غير معروف، وهو ما يجري في لبنان حالياً وقد يأتي دور بعض الأراضي الفلسطينية في المستقبل القريب إذا ما استعرت الحرب في غزة كما يتوقعون. لذلك قال تين لي وين ان أبناء لاوس يعانون الموت والإصابات حتى اليوم بعد مرور ثلاثة عقود على نهاية الحرب التي شنتها القوى المتحاربة في المنطقة خلال حرب فيتنام منذ الستينات والسبعينات، حين أسقطت الطائرات الأمريكية وحدها ما يزيد عن مليوني طن من القنابل أو ألفي مليون كيلو من المتفجرات وهي أكثر مما أسقطه الحلفاء في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية التي دارت رحاها بين 1940 و1945 واندحرت فيها ألمانيا وقبلها إيطاليا.. واستسلمت اليابان بعد تلقيها قنبلتين ذريتين اضطرتها إلى البقاء تحت الاحتلال الأمريكي حتى اليوم، تقع قاعدتها في أوكيناوا.. ورغم أن "الحلفاء" وعلى رأسهم أمريكا وبريطانيا لم يستخدموا القنابل النووية في العراق وأفغانستان إلا أنهم ألقوا وأطلقوا ملايين العبوات الناسفة المصنوعة مع اليورانيوم المخصب الذي يساعد على الإصابة بشتى أنواع الأمراض التي ستظل تقتل الناس تدريجياً لعدة عقود قادمة، ومنها المرض الذي عصف بالجنود الأمريكيين والبريطانيين خلال حرب الخليج الثانية عام 1990. مائة دولة وقَّعت معاهدة لحظر استعمال القنابل العنقودية منذ شهرين إلا أن إسرائيل وأمريكا امتنعتا عن التوقيع لأنهما بحاجة إليها لضرب العرب المقيمين في الأراضي المحتلة في الوقت المناسب لها ولبنان حالياً وسوريا وغيرها مستقبلاً. لاوس ستظل تتعايش كما تفعل فيتنام مع جبال المفرقعات إلى أجل غير معروف ولا يستطيع أحد أن يقدر عدد ضحاياها في العقود القادمة إذ أنها حتى الآن قتلت وشوهت منذ الحرب اثني عشر ألف شخص في البلاد التي راحت ضحية الاحتلال الفرنسي أولاً ثم الفيتنامي ثم المذابح التي سببتها أمريكا فيها. سكانها لا يتجاوزون سبعة ملايين بدخل فردي سنوي قدره 699 دولار فقط، في أرض خصبة عموماً مساحتها أقل من ربع مليون كيلومتر مربع أو نصف مساحة الجمهورية اليمنية، عبثت بها الحروب الأهلية ثم الاحتلال الفرنسي حتى عام 1949، لكنها لم تر العافية بعد ذلك وإذا كان للاحتلال أي فضل بضم أجزائها في وطن موحد تحت راية واحدة كما فعل البريطانيون في الهند خلال استعمارهم إلا أنه أيضاً امتص خيراتها ومزق أحشاءها كما رأينا ونرى حالياً. فالهند كانت عبارة عن مئات السلطنات يحكمها مهراجات إلا خلال العهد المغولي الإسلامي الذي وصلت قواته من أفغانستان وآسيا الوسطى. أجبر الفرنسيون ولاة لاوس على الانضمام إلى حكومة مركزية تحت حكمهم وجعلوا لها عاصمة اسمها فينشيان، كنا نسمع عنها كثيراً خلال الحروب الأمريكية في فيتنام وساعدوها على الوقوف على قدميها وسط عدة دول هي مينمار –التي كان اسمها بورما– خلال الاستعمار البريطاني، والصين وفيتنام وكمبوديا وتايلاند، لذلك فهي تتمتع بموقع جغرافي رائع وكان يمكن لها أن تصبح دولة رخائية لولا حروبها الداخلية ثم الاستعمار الفرنسي الذي تلاه الزلزال الأمريكي القادم من وراء الحدود بشراسة قل مثيلها سوى في فيتنام الشمالية قبل الوحدة مع الجنوب، في عهد مهندس السياسة الأمريكية هنري كسينجر وزير خارجية الرئيس نيكسون. يقول الكاتب: "يتم إسقاط القنابل العنقودية بالطائرات أو إطلاقها بمدافع الهاون –كما تفعل إسرائيل– وتفتح وهي في منتصف المسافة بالجو لتطلق قنابل أصغر حجماً تتناثر على مساحة كبيرة، وتكون عادة في حجم كرة التنس. "والحقيقة أن الكثير منها لا ينفجر إلا أن لها أثراً انسانياً مدمراً في لاوس لأن ثلاثين في المائة ظلت سليمة عند تصادمها مما ترك نحو ثمانين مليون قنبلة حية فوق الأرض أو تحتها، وذلك يمثل تهديداً خطيراً للأرواح" ويكفي لمسها أحياناً ولو بأطراف الأصابع لتنفجر وتشيع دمارها وهلاكها بين الشعوب من لبنان إلى لاوس. ولا يمكن لأي شعب أن يتخلص منها نهائياً.. وتذكرني بملايين الألغام التي تركها البريطانيون والألمان والإيطاليون في الصحراء الكبرى في الشمال الأفريقي التي تقتل المصريين والليبيين وسواهم حتى يومنا هذا منذ بداية الأربعينات. في غضون ذلك تحيا لاوس تحت نظام جمهوري اشتراكي قاسٍ بحزب واحد له مطلق الصلاحيات تأسياً بالحزب الصيني الحاكم، رغم أن الصين قد بدأت تتغير اقتصادياً على الأقل وإن لم يعرف شعبها حتى الآن نظاماً ديمقراطياً ليبرالياً حتى بعد مرور ثلاثين عاماً من بداية الإصلاحات التي قادها الزعيم دينج زيا بنج، الذي تولى بعد فترة قصيرة من وفاة القائد ماوتسي تونج الذي وحد كل الصين بما فيها التبت، لكنه جمدها حيث كانت بعد سقوط خصمه العنيد، شيان كاي شيك ومعه الحزب الوطني الذي انتقل هارباً إلى جزيرة تايوان المجاورة حيث جعل منها نمر آسيا الثاني، بعد اليابان، مستفيداً من الضمان العسكري الأمريكي إلى يومنا هذا.