تعيش فرنسا هذه الايام على وقع حملة انتخابات رئاسية حامية بين اليمين واليسار كعادتها في الظروف الدولية والأوروبية الصعبة ولا يختلف حالها كثيراً عن حال الولاياتالمتحدةالامريكية التي تعتبر الرئاسيات فيها اكثر تعقيداً وتمتد على عام كامل تكاد ان تتعطل خلاله مراكز القرار والسياسات الطويلة الامد لتحل محلها المواقف السياسية العاجلة او تلك المحصورة بأجل منظور, لذا اعتاد المعلقون القول ان الولاية الاولى لرئيس امريكي قلما تشهد تحركا جديا في قضية الشرق الاوسط وان المواقف الفعلية تبدأ في الولاية الثانية حيث يكون الرئيس في آخر عهده ويرغب في ان يخلده التاريخ باتفاقية سلام ما في هذه المنطقة طالما ان التاريخ اقل اهمية في المناطق الاخرى... ومع ذلك لم يخلد رئيس امريكي بعد جيمي كارتر راعي اتفاقيات «كامب ديفيد». والثابت ان العرب يحضرون سلباً وإيجاباً في الحملتين الفرنسية والأمريكية وعليه سنسعى ابتداء من هذا العدد الى تسليط الضوء على حضورهم في الانتخابات الفرنسية على ان نتحدث من بعد عن الانتخابات الامريكية. نبدأ من فرنسا بالمرشح الراديكالي جان لوك ميلونشون الذي سجل سابقة في بلاده بان تحدث علنا عن فضل العرب على اوروبا والعالم قبل عصر الانوار وعن فضلهم اليوم على فرنسا واوروبا باعتبارهم شركاء في مستقبل مشترك مع هذا البلد وربما مع القارة الاوروبية . واذ يعترف ميلونشون بفضل العرب فان الجبهة الوطنية المتطرفة صممت حملتها الانتخابية على العداء لهم مهاجرين ومواطنين من اصول عربية فيما تراوحت مواقف المرشحين الاخرين بين حدي التاييد والعداء- اي بين المرشح الراديكالي المذكور ومرشحة التطرف اليميني مارين لوين .فمن هو مرشح جبهة اليسار.. وماذا يقول عن العرب.. وكيف ستكون سياسة بلاده الخارجية ان فاز بالرئاسة.؟!. "اعطانا العرب الطب والعلوم قبل عصر الأنوا ر... لا مستقبل لفرنسا بدون العرب... تجمعنا بالمغاربة رابطة الاخوة".. اطلق هذا الاعتراف العلني الاول من نوعه في فرنسا جان لوك ميلونشون المرشح للرئاسة عن "جبهة اليسار " الفرنسية المكونة من احزاب وجمعيات يسارية مختلفة من بينها الحزب الشيوعي الفرنسي واليسار الاشتراكي وحزب اليسار وجزء من التروتسكيين ومن انصار البيئة. وتعطيه استطلاعات الراي المرتبة الثالثة في الرئاسيات المقبلة بعد الاشتراكي فرانسوا هولاند والديغولي نيكولا ساركوزي . وإذا كان صحيحاً أن ميلونشون اطلق العبارة في مدينة مارسيليا في جنوبفرنسا حيث يكثر الوجود العربي وحيث الميناء الواصل بين فرنسا وشمال افريقيا.. واذا كان صحيحاً ايضاً ان المرشح الراديكالي يراهن على كسب اصوات الفرنسيين من اصل عربي فالصحيح ايضاً انه قيل امام 120 الف مواطن احتشدوا في المدينة التي تضم تياراً مؤيداً لليمين المتطرف بقوة ومناهضا للعرب ما يعني ان المرشح المذكور ملتزم تماماً بما قال. وهذه ليست المرة الاولى التي يشير فيها الى العالم العربي، ففي مناسبة اخرى خلال لقاء مغلق مع الصحافيين خصصه لسياسة الدولة قال ميلونشون ان لامصلحة لبلاده في أن تضع نفسها في الوسط بين السنة والشيعة وانه عازم على انتشال فرنسا من هذا الموقع اذا ما فاز برئاسة الجمهورية . واكد على امتعاض ناخبيه من علاقة التبعية التي تربط بلاده بالولاياتالمتحدةالامريكية .. و يذكر في هذا السياق ان الرجل تلقى تأييداً من رئيس الاكوادور وتحيات من ايفو موراليس وهوغو تشافيز وهو معروف بمواقفه الرافضة لادانة كوبا فقد انسحب من البرلمان الاوروبي عام 2010م احتجاجاً على منح صحافي كوبي منشق جائزة ساخاروف الاوروبية . هذا فضلاً عن تاكيده بانه لايعتبر النظام الكوبي ديكتاتورياً وان التشدد القائم في هذا البلد مرده الى الحصار الامريكي المفروض عليه منذ خمسين عاما . كما امتنع عن مقاطعة الالعاب الاولمبية في الصين الشعبية بسبب قضية التيبت رافضا اقامة دولة دينية في هذه المقاطعة. وتنسجم مواقف ميلونشون الخارجية مع برنامجه الانتخابي الداخلي فهو يرفض الخضوع ل "الاوليغارشية التي سيطرت على فرنسا" ويريد تقاسم الثروة الوطنية التي ما كانت يوماً طافحة في تاريخنا كله كما هي اليوم وماكان التشارك فيها سيئاً في تاريخنا كما هو اليوم، حيث تسيطر اقلية ضئيلة على الثروة وتحرم القسم الاعظم من عدالة التشارك فيها" وهو يدعو الى انشاء جمهورية سادسة" تحرر فرنسا من المونارشية الرئاسية وتعيد السلطة الى الشعب" على حد تعبيره و ينال من دستور الجمهورية الخامسة الذي وضعه الجنرال ديغول والذي يعطي الرئيس الفرنسي صلاحيات اشبه بصلاحيات الملوك. وتتناسب هذه الشعارات مع جزء من تاريخ هذا الرجل المولود في طنجة في المغرب الاقصى والذي جاء الى فرنسا في سن الحادية عشرة بعد انفصال والديه والذي يختلف عن القسم الاعظم من النخبة السياسية الحاكمة يميناً ويساراً فهو حاصل على اجازة في الفلسفة وقد عمل في شبابه في محطة بنزين وفي قسم التصحيح اللغوي في احدى المطابع وعمل ايضاً في الصحافة الاقليمية والحزبية وفي التعليم قبل ان يلتحق بالحزب الاشتراكي الفرنسي ويصبح منتخباً محلياً ومن بعد عضوا في مجلس الشيوخ ووزيراً للتعليم المهني وهو اليوم بعد انفصاله عن الحزب الاشتراكي نائبا في البرلمان الاوروبي علماً انه انتمى في شبابه الى المحفل الماسوني والى التيار التروتسكي، الامر الذي اتاح له اكتساب تجارب غنية على كل صعيد وقد حافظ على مبادئه ولم يستخدم السياسة لتجميع ثروة طائلة اذ تؤكد صحيفة «الاكسبريس» انه يملك شقة في باريس لم يفرغ من تقسيطها بعد ويملك منزلاً في الريف لا يتعدى ثمنه ال 125 الف يورو.. ما يعني ان التناسب بين شعاراته ومواقفه وبين حاله الاقتصادية متناسب الى حد كبير . لقد جعلت سيرة ميلونشون ومواقفه الراديكالية الحملة الانتخابية تدور عملياً حول ايقاعه لا بل يظن البعض بأنه سيسجل اختراقا غير متوقع ويخلط اوراق اللعبة الانتخابية مكرراً سيناريو العام 2002م عندما تنافس اليمين الديغولي مع اليمين المتطرف في الدورة الثانية لرئاسيات العام المذكور وغاب اليسار ممثلاً حينذاك بليونيل جوسبان ويأمل محبو الرجل ان يكون سيناريو العام الجاري معكوساً . والملفت في هذا الصدد ان العرب الذين يكثرون الحديث عن وجوب تنظيم لوبيات في الغرب للدفاع عن مصالهم يبدو انهم لم يسمعوا بعد بهذا المرشح الظاهرة الذي يملأ الحملة الفرنسية ضجيجاً وصلت اصداؤه الى بوليفيا ولم تصل بعد الى فضائياتنا الموقرة المنشغلة بالفتن والمؤامرات. والراجح ان عرب هذه الايام ينظرون نحو فرنسا بعيون عرب الايام الماضية الذين اعتقدوا مخطئين ان الديغولية مؤيدة لهم والاشتراكية مناهضة لقضاياهم .وبما ان الرئيس ساركوزي يزعم انه ديغولي فهو يحظى بتأييد عربي شبه تام يحجب الرؤية عن كل ما عداه. لا ليس ساركوزي ديغوليا وليس مؤيدا للعرب وليس اليسار الفرنسي مؤيداً للصهيونية و مناهضا.. في كلا التيارين ينقسم الناس بين مؤيد ومناهض لهم مع فارق هذه المرة هو جان لوك ميلونشون الذي لا يطلب من العرب شيئاً ولا يخضع لاي من اللوبيات الفرنسية بل يرى محقاً ان المصالح العربية والفرنسية المشتركة حاسمة في مستقبل بلاده ومستقبل العرب ان هم رغبوا؟ متى تقرأون ما ينبغي يقرأ بعين فاحصة وناقدة؟ متى تنتبهون الى ان ديغول مات وعصره ما عاد قائماً وسياسة بلاده العربية تغيرت من الضد الى الضد.. عسى ان تفعلوا مبكراً.. فنلتقي مع هذا الرجل الصادق في منتصف الطريق ..؟