يبدو ان الحلف الاطلسي ما عاد يحب الحروب البرية التي تستدعي حضور عشرات الالوف من المقاتلين الذين يرسلون الى بلد من اجل تغيير نظام الحكم فيه على غرار النظامين العراقي والافغاني.والواضح انه يتردد، بل يمتنع عن الاستجابة كلما عرض عليه مشروع تغيير حكم معين بواسطة القوة المسلحة كما هي الحال في سوريا فقد اكد الحلف انه لن يضحي بأرواح جنوده وليست لديه القدرة على تحمل خسائر بشرية كبيرة خصوصا اذا كان المقابل غير واضح المعالم. والمؤكد ان الحلف بات مشدودا اكثر من اي وقت مضى الى "عقيدة القذافي" اي خوض حرب جوية دون خسارة بشرية فهو سيد الجو وهامش المناورة الجوي امامه واسع للغاية ويمكن عطفه على هامش المناورة البحري بحيث يسيطر على البر من البحر والجو ويلحق ضربة قاصمة بالخصم كما شاهدنا في ليبيا التي يمكن القول ان الحرب فيها لم تكلف الاطلسي عشرة قتلى. واذا تعذرت "عقيدة القذافي نرى الاطلسي يبحث عما يشبهها كما هي الحال اليوم في افغانستان التي مازالت الحرب فيها تجرجر اذيالها وتلحق اذى بالقوات البشرية الاطلسية من الصعب تحمله ناهيك عن الاذى الاقتصادي في ظل ازمة عالمية طاحنة، ولعل قمة الاطلسي الاخيرة افصحت عن الخطة الجديدة التي تقوم على خصخصة الحرب الافغانية بين الافغانيين انفسهم على ان يدعم الاطلسي الحكومة المركزية جوا وبحرا وعبر ميزانية ثابتة للجيش الافغاني الذي يرتبط مصيره وحياته ومعيشته بالحلف الاطلسي فماذا عن قمة شيكاغو الاخيرة والى اين تمضي الحرب في افغانستان؟ لم يكن شعار "دخلنا الى افغانستان معا ويجب ان نخرج معا" الذي طرحته المستشارة الالمانية انجيلا ميركل عشية قمة الحلف الاطلسي في شيكاغو لم يكن عاصما للرئيس فرانسوا هولاند الذي اصر على سحب قواته المقاتلة من هذا البلد خلال العام الجاري وان كان تصريح المستشارة الالمانية يعكس تصميم الاغلبية الساحقة من الدول الاعضاء على مواصلة الحرب الافغانية حتى الاجل المعلن لها اي نهاية العام 2014 . ومع ان فرنسا ليست الدولة الاطلسية الوحيدة التي تغادر افغانستان منفردة فقد سبقتها هولاندا وكندا فإن الانسحاب الفرنسي يوحي جزئيا على الاقل بإخفاق الاطلسي في القضاء على حركة طالبان التي عادت بقوة الى المسرح الافغاني وكان من المفترض ان تهزمها الحملة الاطلسية الاطول والاهم في غرة الالفية الثالثة. ولعل الانسحاب الفرنسي يتناسب أيضاً مع جملة من المؤشرات على اخفاق هذه الحملة من بينها ان الحكومة الافغانية برئاسة حامد كرزاي رددت في اكثر من مناسبة نيتها التفاوض مع الجناح المعتدل في حركة طالبان دون ان تعرف ما هي ملامح هذا التيار ومن هو رمزه او رموزه في هذه الحركة . ومن المؤشرات ايضاً ان تصريحات صدرت في مناسبات مختلفة ومن اكثر من عاصمة اطلسية مفادها ان الحل في افغانستان لن يكون عسكريا ما يعني ان الحرب التي شنها الحلف صارت بلا مهمة وان التفاوض مع طالبان لا يستدعي حشدا ما عاد يخيف الحركة بل الدول التي ينتمي اليها هذا الحشد. ومن بينها أيضا علو النبرة الباكستانية ضد الاطلسي الذي لم يتردد في قتل عسكريين باكستانيين في وزيرستان خلال قصف جوي بتهمة ايواء او التغاضي عن المجموعات السلفية المسلحة الامر الذي ادى الى اقفال خطوط الامداد الباكستانية للقوات الاطلسية في افغانستان علما ان "اسلام اباد" ما كانت يوما مطمئنة ومرحبة بالحملة الاطلسية التي استهدفت وتستهدف مجموعة الباشتون الاتنية القوية في افغانستان والتي تمثلها حركة طالبان. و"الباشتون" هم من الاتنيات الافغانية والباكستانية الشديدة البأس والمنتشرة على طرفي الحدود ويملك افرادها نفوذا كبيرا في الجيش الباكستاني في حين كانوا على الدوام محور السلطة المركزية في افغانستان ما يعني ان الجيش الباكستاني وبخاصة المخابرات الباكستانية التي كان الاطلسي يعول عليها في قهر طالبان الباشتونية كانت تلعب بهذا القدر او ذاك لعبة مزدوجة وجهها الاول يقضي بالتعاون مع الحلف الاطلسي لضرورات دولية واقليمية وبالتالي توفير خطوط امداده اللوجستية ووجهها الثاني يستدعي حماية طالبان وغض الطرف عن خطوط انسحابها وامدادها بالمقاتلين والمعدات القتالية المهربة. تبقى الاشارة الى عوامل اخرى كثيرة من بينها ان الازمة الاقتصادية التي تضرب بلدان القارة الاوروبية والتي تهدد اليورو نفسه بالزوال ما عادت تسمح بتغطية كلفة حرب مستمرة ولا شيء يوحي بكسبها في مدى زمني منظور.ولعل هذا الاستنتاج ليس قاصرا على الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي فاز في الرئاسيات الاخيرة فالرئيس السابق نيقولا ساركوزي كان قد وعد ناخبيه بسحب القوات الفرنسية من افغانستان قبل نهاية العام 2013 اي بفارق شهور معدودة عن منافسه فرانسوا هولاند. من جهة ثانية لا بد من لفت الانتباه الى الاسباب الداخلية الفرنسية التي املت هذا الانسحاب ومنها ان باريس في عهد نيقولا ساركوزي سعت للفوز برضى الامريكيين بعد تمردها على ارادتهم اثناء حرب العراق ولكي تفوز بالرضى بادرت الى التمركز في مناطق افغانية خطرة كانت القوات الامريكية قد انسحبت منها وقد ادى هذا التمركز الى خسائر كبيرة مادية وبشرية وسط اجواء شعبية فرنسية مناهضة للحرب الافغانية التي طالت اكثر مما ينبغي ورأي عام لا يدرك تماما السبب الذي يحمل بلاده على مواصلة الحرب في ارض يرى الجميع ان التفاوض هو الطريق الوحيد وليس الحرب للخروج منه. في قمة شيكاغو الاطلسية ربما تمكن المشاركون من تغطية الانسحاب الفرنسي من افغانستان بإعلان تضامنهم واصرارهم على البقاء في هذا البلد حتى تتمكن حكومته من تحقيق المصالحة الوطنية في نهاية العام 2014 وعبر تفهم قرار فرانسوا هولاند المبني على تعهد اخذه على نفسه امام مواطنيه خلال الحملة الانتخابية وبالتالي لا يمكنه التنكر له. بيد ان التغطية غير المباشرة ربما انطوت في ثنايا الاستنتاج الذي لاح في ختام القمة من ان الاطلسي بات مهتما باستقرار افغانستان وبعدم عودة طالبان الى تولي شؤون هذا البلد وهذا الهدف يبدو بعيدا لمسافات طويلة عن اهداف جورج بوش الشهيرة لحرب عام 2001 بجعل افغانستان البلد الاكثر ازدهارا وديمقراطية في محيطه.. اما كيف يمكن للاطلسي ان يضمن استقرار افغانستان بعد خروجه منها فقد اجاب عن السؤال الامين العام للحلف بقوله انه سيوفر للجيش الافغاني اكثر من اربعة مليارات دولار سنويا لتغطية نفقاته وان الولاياتالمتحدة ستتعهد بدفع اكثر من نصفها على ان يتولى اعضاء الحلف النصف الباقي ما يعني ان الحرب الافغانية ستستمر بقوى افغانية وبوسائل وتجهيزات ورواتب اطلسية وفي هذه الحال تكون فرنسا قد خرجت من افغانستان قبل غيرها دون ان تخرج من الحرب الافغانية التي ستستمر بوسائل اطلسية اخرى.