يوما بعد يوم، ومع استفحال هجمة الامبريالية المتوحشة علي العالم عامة، وساحته العالمثالثية والعربية الاسلامية خاصة، تتأكد فعالية المفتاح الاخطر الذي اهتدت اليه استراتيجية الحقبة الراهنة، والمتمثل في اشعال حروب الهوية بوسيلة (الفوضي البناءة). فكما يتراءي لمنظري تلك الفوضي المتذاكية لم يعد من سبيل أسهل الي اشعال فتيل الاضطراب المتنامي في نسيج الشعب الواحد، من اطلاق صراع الهويات الجماعية او الفئوية علي اسس الانتماءات الي الملل والنحل واثارة ذاكراتها التراثية الغاصة بضغائن تاريخية متوارثة. لكن الصراع من اجل تثبيت ثمة رابطة عقائدية ما محكوم مقدما بالمطامح الاقوي للاستيلاء علي السلطة السياسية، وحرمان جماعات اخري منافسة من التمتع بها. فابتعاث طقوس دين او مذهب، والجهر بها والالحاح علي رموزها ومظاهرها تهدف الي الاضفاء علي الهوية المرفوعة راياتها، افضل المزايا واعلاها، ما يعني آليا تجريد الهويات الاخري من تلك الصفات المبجلة، ههنا تجد العنصرية انجع الاقنعة لاخفاء ممارساتها الفعلية. اذ ان مضمون العنصرية لا يقتصر فقط علي صراع الاعراق، بل كل فرد او فصيلة مجتمعية يمكنها ان تتمرأي من خلال ما تتصوره عن ذاتها من نماذج البروز والتفوق علي سواها. فالاصل في صراع الهويات ليس هو في التسابق علي تحقيق سبل الصلاح العام، بقدر ما هو اعتداء صارخ علي ممكناته واختطافها من ايدي الاخرين واحتكارها لحساب الصفوة من اعيانها وقادتها. هكذا تلعب الانتماءات الطوائفية الجديدة ادوار حصان طروادة، من حيث انها تلبس اضيق المصالح والمنافع الذاتية مظاهر الفضائل الدينية التي تروج لدعاوي التقوي والتجرد والتقرب من الاوامر السماوية، في حين توجهها دوافع السيطرة علي مقاليد الامور في كل شأن من شؤون مجتمعها، وبالطبع يأتي هم السيطرة علي قمة الهرم تتويجا منتظرا لرحلة الصعود المتواتر والانتشار المتنامي طولا وعرضا في كامل انسجة المجتمع ومستوياته. فاختراع عصبيات جديدة، او تفعيل القديم المتوارث منها، يشكل الحوامل الموضوعية لازدهار صراع الهويات. لكن تحتاج كل عصبية علي حدة الي استنباط عدة الشغل المناسبة لاطروحاتها وهذه العدة توفرها لها ذخائر لا تنفد من ثقافة التخلف ورواسب تراثاته المستهلكة سلفا ابان عصورها السحيقة. غير ان كل عصبية تصير الي ما يشبه الموقد المشتعل بضروب من الحماسات الجمعية المفتعلة التي من طبيعتها ان تحجب كل ترو عقلاني يسبق اطلاق الاحكام المستبدة واتخاذ المواقف المتهورة. بل ان العصبية هي العدو الاول لاية فعالية فكرية تطالب بحصة ولو هامشية، لشيء من الوعي والتحليل واعادة التقويم لمعطيات الواقع وظروفه الضاغطة. هنالك ما يشبه الاجهزة المتكاملة المتخمة بالاجوبة الحاسمة علي مختلف المشكلات وما ينجم عنها من التفريعات الطارئة، وكلها مسورة مقدما باشارات التقديس والمنع وحتي التحريم، لاية قابلية لحوار الاسئلة مع ما تعتبره من مسلماتها النهائية والمثال العراقي يفضح كل يوم بأوضح المآثر الدموية. وهنا تتجاوز العصبية تعريفها التقليدي الذي ابتكره ابن خلدون، فهي لم تعد تعني فقط اشتداد اواصر العلاقة الدموية او ما يشابهها ما بين افراد القبيلة او الجماعة الواحدة، بحيث تتمكن بقوة هذه الوحدة العضوية من دحر عصبيات اخري اصيبت بانحلال هذه الاواصر، وشاخت قواها الحيوية، بفعل ايغال زعمائها واتباعهم بانانيات التسلط والتفسخ الاخلاقي والفساد ذلك ان عصبيات الملل والنحل العصرية قد انحدرت الي حال من العقم الفكري والتخلف الحضاري لا يمكنها من اعادة بناء وحدتها العضوية السابقة علي مستوي تحديات العصر. بل تدفعها حالها تلك الي التشبث اكثر بمختزلاتها الايديولوجية، واجترار شعارات فضفاضة حول قضايا مصيرية زائفة انقضي زمانها ومكانها. كأن يصار الي تغطية ابتعاث العصبيات بادعاء الديمقراطية كما في العراق. ان تعميم صراع الملل والنحل يحول كل المجتمع الي مجرد اقليات متناحرة بما فيها فئة الاكثرية العددية نفسها فيتساوي الجميع في خسارة وحدة الوطن، وضياع مؤسسة المواطنية، فلا تضيف الملة او النحلة الي اتباعها مزايا جديدة، بقدر ما تحرمهم من التمتع بحقوق المواطنة السوية والمتساوية بين مختلف رعاياها، في ظل الدولة القومية وسيادتها المعترف بها من قبل الشرعية الدولية، والانتماء الي ذاكرة الامة الحافظة لمآثر اجيالها وعصورها، والشاملة دائما لجميع مكوناتها التعددية المتآلفة. وان تفكيك الدولة القومية وشرعيتها العصرية الي دويلات الطوائف هو مجرد انتحار امني واقتصادي وثقافي يدمر ابسط شبكيات العلاقات الطبيعية والانسانية ما بين قلاعها المغلقة ضد بعضها وذاتها في آن معا، يدخلها جميعا في مسلسل حروب المئة عام وحتي بلوغ الافتاء والاعدام المتبادل لاطرافها كلهم وبدون تمييز بين منتصر ومنهزم. فالجميع في المحصلة مهزومون فاشلون. والعصر العربي قدم ويقدم لنا امثلة حية عن هذه المسيرة البائسة الكالحة لمشاريع التفكيك الكياني للدولة الوطنية ومجتمعها المنكوب بامراض التناحر الطوائفي العقيم. ولبنان بين الامس وحتي اليوم لا يزال يمثل حقل التجارب النموذجية لمفاعيل التفكيك هذا، بكل اعراضها الظاهرة والخفية. ما يؤدي الي الاستنتاج المحتوم بأن الاسباب الحقيقية الكامنة وراء العقم المريع الذي تنتهي اليه دائما مختلف تحولات مسيرته العامة منذ الاستقلال عن الاستعمار الاوروبي، انما ترجع الي استحالة قيام الدولة الوطنية العادلة بالنسبة لجميع ابنائها بوسيلة الابقاء علي مبدأ العصبيات والمحاصصة السياسية والاقتصادية ما بين الزعامات الفئوية للملل والنحل المتفشية في انحاء النسيج الاجتماعي والمانعة، وفي مختلف الظروف وحتي اخطرها لنشوء حالات الاجماع الوطني والتوافق العام المتعارف عليها لقيام الدول السيادية المستقلة. وان كان وقع ذلك التوافق غير الكامل، والعابر والطاريء، حول خروج الوصاية السورية. لكن سرعان ما عاد صراع العصبيات الي صميم الحراك السياسي، حول من هي الطائفة الفائزة بجائزة الاستقلال العائد، ومن الممسك بقيادة مؤسساته والمستفيد الاول من منافعة القادمة، المشروعة وغيرها. ولعل التحدي المركزي الذي تشعر بوطأته بعض النخب الواعية هو في اعطاء ثمة مضمون وطني حقيقي لاستعادة الاستقلال، والا فان صراع العصبيات المتجدد، اعلاميا علي الاقل وبصورة مواربة، سوف يجعل من الوصاية الدولية، الامريكية تحديدا، لاعبا رئيسيا في اقصي شؤون البلد. ما كان للتدخل الامريكي ان ينتهز كل الفرص المتاحة والمجانية بعد خروج السوريين لو لم تكن بعض العصبيات العائدة رموزها الي مقدمة المسرح، ترحب به، بل وتستدعيه، وقد تفرش له الارض بكل اغراءات الفرص المبذولة، اذ انها ترشح نفسها من جديد لتكون حليفه المميز كالعادة كيما تستمد منه قبل سواها بعض مفاتيح السلطة، ويكون لها عونا علي منافسيها من زعامات الملل والنحل الاخري المتحفزة هي كذلك للاستيلاء علي حصتها وحصص سواها من كعكة هذا الاستقلال المزعوم. هكذا تنقلب معركة السيادة لهذا البلد الصغير المزدحم دائما برموز كل التحولات التي تنتقل عدواها الي كل جيرانه حسب مضاعفات وتجاذبات سياسية متناسبة مع ظروف كل جار، نقول تنقلب معركة السيادة اللبنانية الي مصيدة لجهود الشبيبة الصاعدة والمتلاقية ما فوق حواجز الملل والنحل، اذ لا تلبث القيادات التقليدية والنسخ المستجدة عنها، حتي توظفها في تجارة الاستتباعات لمراكز التدويل من امريكية واوروبية وحتي عربية. فالاستقلال الثاني الوليد مهدد بازدحام التأويلات المتناقضة لدلالاته واهدافه ومشاريعه، وخاصة مع اشتداد الاستقطابات الدينية والمذهبية والجهوية التي اخترقت اخيرا كل الاقنعة المستعارة واطلت بوجوهها الكالحة، مطلقة لألسنتها العنان بترداد كل المعزوفات الفئوية المستهلكة، والمستعارة من قواميس الحروب الاهلية، بل ان بعضها لا يتورع عن التهديد بنبشه العدة القديمة القاتلة، ما دام فرسانها المتقاعدون قد استأنفوا وظائفهم السابقة في الساحات العامة اذا كانت تلك هي الحلقة الشيطانية التي يدور فيها المصير اللبناني دونما امل حقيقي بكسر فولاذها مهما اختلفت ظروف الداخل والخارج والمحيط، فان منطقة المشرق العربي بتمامها لن تكون ولا هي كائنة راهنا علي حال افضل، بل ان وباء (المللية والنحلية) يكاد يلتهم ملامح خارطتها، مزيلا خصوصياتها تحت عموميات النكبة الشمولية التي ستساوي بين الجميع في الهزيمة الحضارية الكبري، عندما لا يفتقد فرسان الحلبات المشبوهة في كل مكان ذاكرة النهضة والحداثة وحدها فحسب، بل يفتقدون ذاكرة هذا الفقدان كذلك، وهم يحسبون انهم يبنون لشعوبهم كل الجنان الاخري التي اخليت دروبها اجيال التغيير والتقدم السابقة. وفي المواجهة مع الهزيمة الحضارية الكبري، تتضاءل كل الهزائم العسكرية والسياسية والايديولوجية السابقة. اذ انه بعد مثل هذه النهاية، لن تكون هناك اية بداية، ولآجال مجهولة. (القدس العربي):