ولم يكتف القنصل الأمريكي بمتابعة ما يجري لدى الإمام يحيى بل امتد اهتمامهم لما يجري في جنوباليمن .. وفي القاعدة العسكرية البريطانية .. وفي ذات البرقية .. تحدث القنصل الأمريكي عن مخاوف قبيلة يافع عن تحرك الإمام في قلعة المقاطرة , وسرعة تحرك مشايخ يافع إلى عدن فهو يقول في البرقية : بعد أن سقطت قلعة المقاطرة أصبح واضحاً أن الإمام سيهاجم قريباً أراضي يافع زار وفد من يافع عدن وطلب المساعدة من البريطانيين وقد بلغنا أن نتيجة هذه الزيارة هي 45الف طلقة وعشرة آلاف روبية فضية , وسيعود أهل يافع إلى منطقتهم قريباً , ونظراً لتهديد الإمام انه سيهاجم المركز الحدودي في دكيم الذي يحتفظ البريطانيون فيه بقوات , وثم لحج تمت زيادة عدد القوات في دكيم كما تم طلب طائرات ووصلت من مصر وهي تقوم بالاستطلاع إلى دكيم وما بعدها على أمل أنها سيكون لها أثر جيد على الإمام المحارب , كما تم نقل ذخائر كثيرة إلى الحامية في دكيم وطلب من كثير من ضباط فرقة عدن أداء الخدمة في دكيم . رغم تكالب المتآمرين على دولة الإمام يحيى حميد الدين التي انصهرت منذ ولادتها في أخطر وأهم مواجهة مع أعداء كثر ليس الانجليز إلا واحداً من تجليات تلك الفترة .. حيث لعبت العقلية البريطانية دوراً تخريبياً أو تآمرياً حتى اليوم مازالت آثار تلك السياسات البريطانية تفرض نفسها .. وزاد أن تكالب أعداء آخرون وطامعون آخرون من ايطاليين , و من أمريكيين وفرنسيين .. ناهيكم عن الأطماع الإقليمية من دول كانت ستظل ذيلاً بريطانياً .. مثل النظام السعودي والنظام الإماراتي اللذين قبلا بأن يكونا أدوات رخيصة في حسابات المستعمرين بأنماطه الجديدة وأجندته في فرض السيطرة بالوكالة والرضوخ للإملاءات الخارجية ولو أعدنا الذاكرة قليلاً إلى عشرينيات القرن العشرين الماضي، سنرى الكثير من المفارقات , بل إن الحاضر الذي نعيش سنراه ممهداً من فترة سابقة , ومن جهود حثيثة لم تتوقف عن السير بإصرار مكثف لإيجاد موطئ قدم لقوى النفوذ الدولية , سواء ما كان يخص بريطانيا صاحبة أكبر رصيد وإرث استعماري , أو فرنسا التي لم تكن تخفي أطماعها وتحركاتها .. أو الايطاليين , أو الأمريكيين الذين زاحموا الجميع في فرض تواجدهم التجاري , وفي السعي لإيجاد نافذة اقتصادية تجارية في المنطقة .. وهذا ما تكشفه وثائقهم التي بدأت تتسرب من قنصلياتهم في المنطقة العربية وهذه المرحلة المهمة والمفصلية من تاريخ الأمة وتاريخ هذه المنطقة اليمنوجنوبالبحر الأحمر .. وتاريخ هذه المنطقة اليمنوجنوبالبحر الأحمر .. كمنطقة تواصل بين القارات , ومنطقة اقتصادية الأمية , بما يجعلنا نفهم ذلك التاريخ ونستوعب المتغيرات الراهنة ونعي جيداً أهداف القوى الدولية الإقليمية الراهنة , وما تعانيه اليمن من ويلات حرب كونية وإقليمية , مؤشراتها الأولى تقول أن ما شهدناه هو تمهيد لاتيا ت ثقيلة من التحديات لن تكون اليمن وحدها من ستدفع الثمن , بل المنطقة وشعوبها جميعاً ستكون أمام الاستحقاقات الثقيلة لهذه الحرب العدوانية الملعونة .. ومن المجدي نفعاً أن نعود بين الفينة والأخرى لقراءة ولو على عجل لمكونات الوثائق حتى نستشف منها ما خفي علينا من السابق ونقرأه بعين ووعي الحاضر الذي سمح بان تكون بعض ما تيسر من الوثائق بين أيدينا , لنكون على بينة مما يجري اليوم .. ومن المفيد لنا نعيد قراءة تقرير فارل شيرو المستكشف الفرنسي الذي رفعه إلى وزارة الخارجية الفرنسية واختار له عنوان : “استكشاف اليمن من 1يناير إلى 1ابريل العام 1922م” .. بعد الإفاضة في التوضيح في مقدمة التقرير يشير إلى : خلال الفترة من 1920- 1921م سافرة بعثة انجليزية رسمية بقيادة الكولونيل جيكوب مسافة 40 كيلومتراً في الداخل عبر الحديدة في طريقها إلى صنعاء , ولكن عند وصول البعثة إلى باجل تم احتجازها لمدة أربعة شهر .. ولهذا حري بنا أن نتدارس جيداً مثل ذلك الإصرار الأجنبي وتحديد اً الأوروبي على التغلغل في الداخل اليمني , وفي الأخص الوصول إلى صنعاء ونسيج علاقة مع الإمام يحيى حاكم صنعاء .. ومثل هذا التغلغل جاء من الساحل الغربي لليمن من الحديدة .. ويؤكد لنا ذلك الإصرار .. مثل هذا الوصف الذي كتبه المستكشف الفرنسي “ شيروا “ عندما كتب يقول : لذلك فقط بعد صبر شديد يفوق طاقة الإنسان على التحمل , وبعد أن عشت مثل الوحش “ لكي اكتسب ثقتهم “ أولاً مع الصوماليين ثم مع الدناكل , وأصبحت قادراً على صنع علاقات مع العرب في سواحل اليمن , معرضاً حياتي للمخاطر في هذا الشأن , ولكنني كنت قد صممت بقوة على الذهاب إلى السلطان يحيى محمد الذي نجحت في ذلك إلى حد أنه يعتبرني صديقاً له ويثق بي , لقد نجحت في إقناعه بالمزايا والفوائد الكبيرة التي سيكتسبها هو إذا استغلت اليمن شركات فرنسية .. وهنا المدخل الذي يسعى الأوروبيون للحصول عليه , وامتلاك ثقة الحكام .. والمقدرة على التأثير والنفاذ إلى الداخل اليمني عبر بوابة التجارة والاستثمار , وهذه شهادة فرنسية كانت تعتبر بمثابة وثيقة سرية متداولة في السلك الدبلوماسي الفرنسي على أضيق نطاق .. وفيها يتحدث بثقة عن مقدرته للنفاذ إلى الداخل اليمني , وقدرته السابقة في النفاذ إلى الداخل الصومالي واكتساب ثقة الجميع . . وهي بوادر للرغبة الغربية لا يجاد لها موطئ قدم , ونسج علاقة تجارية .. ولنعد إلى قراءة الوثيقة الفرنسية : حيث تقول بسبب الحرية الكاملة التي منحني إياها السلطان لاستكشاف البلاد فقد توصلت إلى انه توجد ثروات معدنية وبترولية حقيقية .. ويضيف: ومن الثابت انه يجب الاهتمام بكثير من العمل لإتاحة الفرصة لاستغلال هذه الثروات سيكون من الضروري التفكير في بناء سكة حديدية وموانئ لرسو السفن ..إن البلاد مع كونها جبلية توفر تسهيلات تسمح بهذا الاستغلال .. لقد تم التفكير في 1913م في بناء خط سكة حديدية بين الحديدةوصنعاء , وكانت خطط البناء جاهزة عندما أعلنت الحرب .. وسآخذ على عاتقي أن ابلغ السلطان بالمعاهدات والمقاولات التي كان قد تم توقيعها مع الحكومة العثمانية نظراً لأنها السلطة التي كانت تحكم اليمن آنذاك .. وإيراد مثل هذه الحقائق تدل أن المسألة لم تكن اجتهاداً شخصياً من مستكشف فرنسي لوحده وإنما عمل مؤسسة متكامل فقد تم تدارس المعاهدات والاطلاع على وثائق الدولة العثمانية , ومعرفة كل التفاصيل التي على ضوئها جاء تحرك هذا الفرنسي المستكشف.. ونسمع ما يقوله “ شيروا “ : بالإضافة إلى المعادن : والنحاس والحديد والرصاص الخ .. سيكون من الخطأ إهمال الإمكانيات التجارية الكبيرة التي تقدمها المنتجات الزراعية , حيث أن البلاد خارج الخمسين إلى ستين كيلومتراً غير المنتجة على الساحل تقدم إمكانية ضخمة للزراعة وذات مناخ معتدل غالباً . ويصل شيروا الفرنسي المستكشف إلى جوهر مهمته وأساس عمله ونشاطه في أن إيجاد موطئ قدم لفرنسا أو لأي من الدول الأوروبية .. فهو يقول : ولذلك ومن كل وجهات النظر والزوايا استطيع ان أعلن رأيي عن قناعة راسخة بان اليمن بلاد يمكن على أرضها إرساء الأمل في مستعمرة رائعة لصالح الأمة التي ستحوز الفرصة لاستغلالها وأنني أضع هذه الفرصة في يد فرنسا”.. وقد ذيل توقيعه في تاريخ 5يونيو العام 1922م مدينة باريس.. والخلاصة هي إنشاء مستعمرة فرنسية في اليمن .. كهدف أجنبي كان العقل الفرنسي يسعى إلى تثبيته وفرضه واقعاً وخاصة في عشرينات القرن العشرين الذي أنطوى ومضى .. نواصل في عدد قادم .. صوراً من تلك الأطماع الأجنبية في اليمن والتي كانت تمر عبر الساحل الغربي لليمن .