الوجود المصري في البحر الأحمر: من خلال اطلاعنا على المراجع التاريخية نجد أن مصر لها جذور صلة بالبحر الأحمر ضاربة في أعماق التاريخ , إلا أننا نجد أنها تبلورت بالفعل وأخذت طابعاً آخر منذ مطلع القرن التاسع عشر, ثم ما لبثت أن أصبحت قوة لها وزن في البحر الأحمر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, ونلاحظ أن تطور الاهتمام المصري بالبحر الأحمر قد نتج عن عوامل كثيرة أهمها اتجاه أنظار الدول الاستعمارية إلى المناطق المطلة على البحر الأحمر ثغورها ومنافذها , فكان على مصر أن تلعب دوراً لمواجهة هذه الأخطار المحدقة بالمنطقة , وفي نفس الوقت تعمل على انعاش حركة التجارة في البحر الأحمر بعد أن جعل منه العثمانيون بحيرة راكدة بسبب تخوف الدولة العثمانية من خطر المد الأوربي الاستعماري, ولحماية الأماكن المقدسة إذ كان على محمد علي أن يتبع سياسة جديدة تختلف عن السياسة العثمانية لذا عمل على توطيد الاتصال بين مصر والعالم الخارجي لاسيما موقعها على البحرين الأحمر والمتوسط مما يجعلها مؤهلة لأن تكون بؤرة التقاء طرق العالم , وممراً هاماً لتجارته في عهد تطورت فيه الوسيلة البحرية. بالإضافة إلى أن هذا الموقع قد جعل من مصر مجالاً ومسرحاً لأصطرع الدول الاستعمارية لاسيما فكرة ربط البحرين الأبيض المتوسط والبحر الأحمر بقناة قد كثر الحديث عنها في تلك الآونة , وبالإضافة إلى أن هذه القناة نفسها موضع صراع بين قطبي الصراع في المنطقة فرنسا وإنجلترا في تلك الفترة . ولقد أدرك محمد علي أنه بسيادته على البحر الأحمر في هذه الفترة التي أصبح فيها شرياناً من أهم شرايين المواصلات بين الشرق والغرب وسوف يضع حداً لنشاط شركة الهند الشرقية البريطانية ونفوذها التجاري المتزايد على سواحل الجزيرة العربية , وخاصة بعد حملته على الوهابيين في الحجاز (1813- 1818م ) ومنذ ذلك التاريخ بدأت تتبلور في ذهن محمد علي فكرة الانفصال عن الدولة العثمانية , وفتح آفاق جديدة لخلق إمبراطورية مصرية مترامية الأطراف هذا ولقد رأينا كيف كوفئ إبراهيم بن محمد علي على جعله والياً على الحجاز , وإيالة الحبش التي تضم سواكن ومصوع على الساحل الغربي للبحر الأحمر. وكانت أولى خطوات محمد علي التي بدأ بها العمل لحسابه هي فتح السودان الذي أراد منه الرجال للجيش المصري المنشود لخلق إمبراطورية المستقبل , بالإضافة لما صوره له البعض عن خبرات السودان ووجود الذهب في الجنوب مما يساعد على تمويل دولة قوية ذات عزة ومنعة . بداية تكون الإدارة المصرية في عهد محمد علي ضم السودان الشرقي بدأت حملة محمد علي للسودان في عام 1820م حيث أستمر الجيش المصري يدخل منطقة تلو الأخرى, ولكن ما يهمنا أن طموح محمد علي هدف من احتلال السودان الشرقي لغرض فرض السيطرة على ضفتي البحر الأحمر الشرقية, والغربية إضافة إلى حسابات مطامع أخرى ففي سنة 1838م وصلت قواته منطقة التكا حيث تكبدت قبائل هذا الإقليم خسائر فادحة أمام التقدم المصري المسلح بأسلحة نارية حديثة آنذاك .. ما لبث ان اخضعها , واصبح هذا الجزء الذي اطلق عليه مديرية التكا ضمن مديريات السودان التي أصبحت تابعة للحكومة المصرية.. واشيع ان بعض القبائل الحدودية تحالفت مع الأحباش ضد المصريين مما دفع محمد إلى التفكير في بسط نفوذه على مينائي سواكن ومصوع على البحر الأحمر ليتمكن من السيطرة على هذا الإقليم الواسع العريض , ويبدو أن هذا جزءاً من مخططه في المنطقة . كما أن هناك نوعاً من المشاكل تتعلق بالحدود بين حكومة مصر والسودان التابعة لمصر وإيالة الحبش التابعة لوالي جدة , والتي تضم المنطقة الغربية على ساحل البحر بما فيها سواكن ومصوع . والمشكلة الثانية تتمثل في جمع الضرائب من قبائل الهند وهي قبائل رعوية تجوب المنطقة من مديرية التكا إلى سواحل البحر الأحمر ضمن حدود إيالة الحبش , أما المشكلة الثالثة والأهم فهي الحاجة الماسة إلى ميناء لتصدير غلات السودان الأوسط وبما أن سواكن هي أقرب إلى تلك المنطقة فقد تطلعت مصر اليها فرأى محمد علي ضرورة حصوله على مينائي سواكن ومصوع من السلطان العثماني وسعى في ذلك حتى تم له استئجار ميناء سواكن في عام 1843م ثم ميناء مصوع في 1846م على أن يدفع الأجرة سنوياً والتي كانت قابلة للتجديد كل سنة وبذلك أصبحا تابعين لمديرية التكا. وفي عهد الخديوي عباس أعيدتا لإيالة جدة إلا أن مصر قد بذلت العديد من المحاولات في عهد إسماعيل لإعادة المينائي لإدارتها عندما أحست بتزايد أهمية البحر الأحمر وتبودلت الخطابات في هذا الشأن بين جدة ومصر والسلطان العثماني . وتضمنت خطابات إسماعيل أن مينائي سواكن ومصوع الحقا بمديرية التكا في عهد محمد علي وبناءً على طلب منه ولكنهما أعيدا في عهد عباس إلى إيالة جدة بيد إن الصالح العام يستدعي ضرورة إعادتهما إلى الإدارة المصرية وإلحاقهما بمديرية التكا. ومن ضمن التبريرات التي أبداها إسماعيل هو الضرب على أيدي تجار الرقيق الذين يستعملون هذه الموانئ لترحيل بضائعهم المحرمة ففي أواسط 1865م أصدر السلطان العثماني فرمان بإحالة مينائي سواكن ومصوع إلى الإدارة المصرية على أن يدفع إيرادها إلى خزينة جدة كما كان متبعاً في عهد محمد علي.. فمحافظة سواكن كانت تمتد على البحر الأحمر من رأس علبه إلى رأس قصار , أما محافظة مصوع فقد امتدت من رأس قصار حيث تنتهي محافظة سواكن , وتمتد إلى حلة رهيطة عند مضيق باب المندب. يتبع في العدد القادم بإذن الله تعالى.