اليوم روسيا تستعيد دورها في حركة التوازن الدولي , وبعدها الصين التي بدأت المناورة على تايوان , والكوريتان في انتظار ما تسفر عنه الاحداث , في جزيرة القرم , كما أن الصراعات التي كان النظام الدولي يدير حركة توازنه من خلالها سوف تفرض واقعا جديدا في الخارطة العالمية . اليوم بدأ سؤال التحديث والتجديد في النظم العالمية يطرح بقوة سواء في أروقة الأممالمتحدة التي سيطرت عليها أمريكا لعقود , أم في مجلس الأمن الذي ضم في عضويته الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية , لقد كان الدب الروسي جريئا وهو يخوض معركة تحديث العالم , كما كان جريئا وهو يعلن هزيمته أمام الرأسمالية في نهاية القرن العشرين. لم تجرؤ أمريكا حتى اللحظة على خوض معركتها العسكرية مع الروس بل تركت الأمر للاتحاد الأوروبي وقد لجأت الى الجانب الاقتصادي مع قليل من الدبلوماسية الدولية لكن في غالب الظن أن النظام الرأسمالي الذي تقوده أمريكا آيل للسقوط , وسوف يشهد العالم بزوغا كبيرا للتنين الصيني وعودة قوية للروس كقوة ردع قادرة على احداث التوازن في العالم . النظام الدولي القديم الذي فرضته الحروب في القرن الماضي أمام اختبار حقيقي اليوم , ويبدو أن موضوع تحديثه وتجديده أصبح واقعا حيويا وفاعلا بعد أن برز سؤاله اليوم على لسان الكثير من الدول التي عانت من الغبن الدولي ومن مصادرة حق الحياة ومصادرة الحريات ومن التحكم بالمقدرات الاقتصادية للبلدان , خاصة بلدان العالم الثالث , الذي فقد مقومات وجوده وتفاعله مع المستويات الحضارية الجديدة , وأصبح سوقا مستهلكا لمنتج الشركات العالمية الكبرى التي تمارس الاستغلال والغبن على كل فرد صغيرا كان أو كبيرا من البشر دون احتساب للقيمة الانسانية , ففكرة السيطرة على مصادر الطاقة والتحكم بمصادر الغذاء , وفكرة الصراعات في العالم , تركت واقعا يشهد على الرأسمالية بالاستغلال والغبن والاضطهاد والطغيان وهو أمر تنبذه الفطرة السليمة , ولذلك خرج العالم اليوم كي يعيد تموضع نفسه ويعلن عن وجوده , فالتصريحات الصينية بشأن الموقف من حرب أوكرانيا كانت تحمل بعدا استشرافيا ينظر الى جزيرة تايوان وقد تحركت الصين عسكريا في هذا الاتجاه بمناورة عسكرية لكي تعلن من خلالها رفضها لسياسة الغبن التي تفرضها أمريكا على الشعوب والدول . ويبدو أن زعيم كوريا الشمالية سيفقد صوابه فالراجح أنه متسرع في قراراته وقد يعلن في لحظة عن نهاية العالم إذا استمرت أمريكا في ممارسة طغيانها , ولذلك صرح البيت الابيض أن أزمة أوكرانيا وتداعياتها بالغة الدقة والحساسية ويحتاج الى التروي في تحديد المواقف منها , وقد بدأت معركتها على استحياء من خلال الحرب الناعمة كي نستعيد أنفاسها , لكن التحالف الروسي الصيني قد درس الواقع بدقة وهو الأقدر على التعامل مع مفردات اللحظة , وقد قال بوتن أن العالم يستحيل أن يعيش بدوت روسيا , فالمعركة مصيرية وهي غير قابلة للتراجع إلا بالتنازل من قبل النظام الدولي القديم والقبول بشروط الواقع والتعامل مع تجلياته . لقد سيطر اللوبي الصهيوني على النظام العالمي القديم , وحاول أن يجعله متسقا مع مصالحه الاقتصادية والثقافية والعقائدية فخاض حروبا في الشرق الاوسط منفردا دون الرجوع الى المؤسسات الدولية ومثل ذلك من المآخذ التي تؤخذ اليوم على المؤسسات الدولية بعد قيام أمريكا بالتلويح والتشكيك بعضوية روسيا في مجلس الأمن الدولي والقول بعدم شرعيته , فالشيء بالشيء يذكر كما يقال ففي مقابل عدم شرعية روسيا في إرث الاتحاد السوفيتي أثير موضوع خوض أمريكا معاركها خارج نطاق المنظومة الدولية كحربها في العراق وقتل ما يقرب من مليون مواطن عراقي , وحروبها في المنطقة العربية وزعزعة استقرارها وحروبها في أفغانستان وغيرها من الحروب التي كانت تتعامل معها بشكل منفرد ودون مراعاة قوانين ومبادئ الأممالمتحدة . نحن اليوم أمام واقع جديد , ونظام دولي جديد لن يكون كسابقه وسوف يحدث تبدلا كبيرا في العالم كله , في السياسات وفي النظم وفي المستويات الحضارية , وفي النظم الثقافية والاجتماعية سواء كان ذلك من خلال الحرب العالمية الثالثة التي تلوح بوادرها في الافق أم من خلال حركة التموضع واعادة حركة التوازن الدولية التي تقوم به الكثير من الدول في العالم مثل الصينوروسيا وكوريا ومن تحالف معهم ضد أمريكا مثل ايران وغيرها من الدول التي فاض بها كيل الاستغلال الذي تمارسه أمريكا وحلفاؤها من الدول الاوربية وهو دور حيوي وفاعل وسوف نشهد نتائجه في قابل ايامنا . *** تقول التجارب وحقائق التاريخ أن دوام الحال من المحال , ويبدو أن النظام الرأسمالي آيل للسقوط كما سقط من قبله النظام الاشتراكي وتداعت من بعده المنظومة الاشتراكية الدولية كلها , واليوم تلوح في أفق الواقع بوادر سقوط المنظومة الرأسمالية التي تغلغلت في مفاصل الاقتصاد العالمي وأصبحت تفرض قيودا وتشكل تهديدا للأنظمة السياسية في العالم , ويلوح في الأفق أن روسيا سوف تنتقم للاتحاد السوفيتي وتسقي أمريكا من ذات الكأس الذي شرب منه ذات يوم , فالحرب التي يشتعل أوارها في أوكرانيا كانت محسوبة الابعاد والجوانب , فالتجارب الكثيرة جعلت بوتين يخوض حربه مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا في مستويات متعددة ليس البعد العسكري إلا خيارا واحدا منها , لكنه كان يدرك البعد الاقتصادي والثقافي والاجتماعي ولذلك نجح في تطهير الشركات الروسية الكبرى من شوائب الرأسمالية التي سارعت الى طرح اسهمها بثمن بخس , فربح الروس المليارات من خلال الخوف وشبح الانهيار. فقد الغرب مفردات الضغط الكبرى على الروس , وبالتالي كان وسيكون لمفردات المقاطعة للمنتجات الروسية من البترول والغاز الأثر السلبي الاكبر على الاتحاد الأوروبي وعلى أمريكا نفسها , فالمؤشرات تتحدث عن ارتفاع اسعار الطاقة والوقود واسعار الكثير من المواد الغذائية في السوق العالمية . تحرر الاقتصاد الروسي من تبعيته للنظام الرأسمالي , إذ كان نصف الدخل القومي يذهب الى حسابات خارج روسيا يستفيد منها الاتحاد الأوروبي وأمريكا كآلية معروفة للنظام الرأسمالي فهو كالمنشار لا يعطيك إلا بقدر ما يأخذ , يزيد ذلك أو ينقص وفق حسابات المصلحة السياسية وحركة التوازن الدولي . خدع بوتين الشركات وأصحاب رأس المال الذي يستثمر في بلاده بذكاء مفرط , قابله غباء مفرط من الغرب الذي بلع الطعم , فقد ترددت الشائعات أن البنك المركزي الروسي ليس لديه القدرة على دعم الروبل الذي سارع بالانهيار فكان الهلع والخوف سيد الموقف وتلك هي اللحظة التي صنعتها روسيا وأحسنت اقتناصها بسرعة البرق في سياق حربها وحركة توازنها مع أوروبا وأمريكا, فليس من الحكمة أبدا أن تدخل روسيا حربا غير محسوبة العواقب وغير مدروسة فذلك غباء لا تقع فيه روسيا مطلقا , وهي تعرف عدوها كيف يتصرف وماهي ردود فعله المحتملة , لكن روح المباغتة حكمت الموقف وسيطرت عليه ,كما أن شيخوخة النظام الرأسمالي أودت به الى المهالك , وتلك من سنن الله في كونه , فالظلم الى زوال مهما طال أمده ويدفع الله الظالمين بالظالمين حتى تستقر الحياة . اليوم العالم يعيد ترتيب نفسه وفق أسس وقيم جديدة , لكن العرب والمسلمين في شغل العداوات فكهون , فلا مشروع يلوح في الأفق اليوم قادر على دخول المعادلة الدولية وتوازنها الجديد سوى المشروع الايراني , الذي رغم الحصار الاقتصادي ورغم الاستهداف قادر على البزوغ والتحدي , وقد يحسن أدارة المرحلة لأنه يقف على أساس حضاري وثقافي متين , كما أنه يملك مفردات اللعبة وإن بدت صغيرة في ظاهرها إلا أنه سوف ينتصر في خاتمة المآل . المشروع العربي يعاني الضعف والوهن اليوم فحركة التفكيك التي اشتغل عليها الربيع العربي , وحركة الانقسامات لن تجعله إلا تابعا أمينا للقوى العظمى في العالم , ولذلك لن يكون هناك أي أثر للعرب في بنية النظام الدولي الجديد إلا إذا أعاد ترتيب نفسه في محور المقاومة الاسلامية الذي تقوده ايران , حينها سيكون للمسلمين شأن , لذلك ففكرة القومية العربية لابد أن تذوب في أطار المشروع الاسلامي الجامع فبدونه تصبح عدما وعنصرا خاملا في معادلة الوجود . فكرة الحرب الكونية غير بعيدة اليوم , فتسارع الاحداث في أوكرانيا وتداعياتها وآثارها لن تترك الدول الصناعية إلا أمام خيارات صعبة وهي الحرب ,حتى تحفظ توازنها خوف الضياع والتيه , ولذلك قد نشهد في قابل الايام حربا كونية , قد تشترك فيها الصين وكوريا وتتداعي فيها فرنسا والمانيا وبريطانيا , وهي حرب تفرضها الضرورات للتموضع الجديد للنظام الدولي الذي بدأ يتشكل اليوم في الخارطة الكونية , وإن لم يتحكم العقل في مجرياتها ستكون نهاية مفجعة للكون , فالسلاح النووي الذي تمتلكه الدول التي تخوض هذا الصراع قد يكون خيارا محتملا فروسيا تقول بصريح العبارة لن يكون هناك العالم بدون روسيا , وكبرياء أمريكا وطغيانها سيجعلها أمام الخيار النووي أو قاب قوسين أو أدنى منه . النظام الرأسمالي أصبح اليوم محاصرا بشبح الانهيار وهو منهار لا محالة , فالغبن والاستغلال الذي طغى به ومارسه في الزمن الماضي سوف يكون سببا مباشرا في سقوطه , كما أنه كان يتعامل مع البشر بمعايير مزدوجة واشاع القتل والدمار في الكثير من الأوطان , ويتعامل مع البشر بتمايز غير عادل وهو تمايز ضد سنن الله في كونه وضد فطرته التي فطر الناس عليها , وحركة التدافع من سنن الله في ترتيب الكون خوف الفساد وخوف الظلم والتمايز والعاقبة للمتقين .