في زمن تتلاطم فيه أمواج الدمار على شواطئ غزة، وتتحول فيه أرواح الأبرياء إلى مجرد أرقام في نشرات الأخبار، يبرز التناقض الصارخ بين الخطاب الديني الرسمي والمأساة الإنسانية. كان المولد النبوي الشريف فرصة لتذكير الأمة بمنهج نبي الرحمة والجهاد، لكن ما حدث كان مغايرًا تمامًا. فمن على منبر الكلمة في مصر، ألقى وزير الأوقاف المصري الدكتور أسامة الأزهري خطبة عذبة عن التسامح وعمارة الأرض، وكأنها موسيقى تُعزف في بيت عزاء. لقد كان الحديث عن التسامح منفصلاً عن سياقه، بل كان صمتًا مطبقًا على قضية هي جوهر الدين. فكيف يتحدث الواعظ عن الأخلاق الحميدة ويتجاهل أصلها الأسمى: نصرة المظلوم وصد العدوان؟ غابت عن هذه الخطبة "الجامعة" أحاديث الجهاد في سبيل الله، ومواقف النبي صلى الله عليه وسلم في الدفاع عن المستضعفين. وكأن تلك المعاني قد شُطبت من تاريخ النبوة، ولم تعد جزءًا من أخلاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم. لم يذكر الوزير بكلمة واحدة معاناة أهل غزة، وكأنه يقف في جزيرة منعزلة، متجاهلاً أن نصرة الحق وصد العدوان هما جزء لا يتجزأ من الدين. لكن المفارقة الكبرى والطعنة التي تزيد الألم، هي حين يوجه هذا الخطاب "المتسامح" رسالة لأهل غزة بوجوب الصمود والتشبث بأرضهم. كيف يطلب مسؤول من شعب يُقتل ويُدمر ويُجوع، أن يصمد، بينما بلده يتخذ موقف المتفرج، بل وموقف الشريك؟ إن الحديث عن الصمود يصبح مجرد شعار أجوف حين يأتي من بلد يرفد اقتصاد العدو بمليارات الدولارات لاستيراد الغاز، ويقدم له التسهيلات البحرية والجوية في موانئه، ويحتضن في عاصمته سفير هذا الكيان وقنصلياته، بينما يمنع شعبه من التعبير عن غضبه في حين أن دولًا كثيرة قد اتخذت إجراءات ضد هذا الكيان الفاشي، والمظاهرات تملأ مدن العالم وشوارعه. الرجال مواقف. يتساءل البعض عن موقف الرئيس الراحل محمد مرسي، حين صرح "لن نترك غزة وحيدة"، ليؤكد للعالم أجمع جدية مصر. وهذا لم يكن مجرد كلام، بل كان فعلًا أثر في ميزان القوى حينها، وأعاد إلى الأمة بعضًا من كرامتها. إن الأمة بحاجة اليوم إلى وعاظ يقولون الحق، لا يخشون في الله لومة لائم. نحتاج إلى خطباء لا يفرطون في أمانة تبليغ الدين بكامله، وعلماء يذكرون الحاكم بمسؤوليته أمام الله وأمام التاريخ. إن العالم المجدد العز بن عبد السلام، "سلطان العلماء" الذي قاوم التتار بفتواه، هو قدوة لكل من يدعي التجديد في الخطاب الديني، فالتجديد الحقيقي يبدأ بقلب شجاع يرفض الظلم، ولسان ناطق بالحق، لا بلسان يزين الأقوال ويخفي الأفعال. لا يمكن أن تكون مصر "أم الدنيا" ما لم تكن "أم الأمة" بقائدها الذي ينصر قضاياها العادلة. فإلى متى يستمر هذا الخذلان، ويستمر هذا الصمت؟ وهل سنجد إجابة يوم الحشر الأعظم حين يسألنا الله عما فرطنا فيه من نصرة إخوتنا المظلومين؟