شهدت الساحة الدولية مؤخراً "تسونامي" سياسي متسارع تمثل في موجة اعترافات متتالية بالدولة الفلسطينية، وهو ما يمثل تحولاً دبلوماسياً لافتاً في مسار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. هذا الحراك، الذي تقوده دول غربية كبرى، يثير تساؤلات حول أهدافه، ومواقف الأطراف المعنية، والسيناريوهات المحتملة لمستقبل القضية، خاصة في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة. غزة: المحرك الرئيسي للحراك الدبلوماسي تُعد الحرب الإسرائيلية على غزة نقطة تحول كبرى في القضية الفلسطينية، والمحرك الأساسي للموجة الحالية من الاعترافات الدولية. لقد كشفت هذه الحرب عن أزمة إنسانية كارثية في القطاع، حيث تسببت في مقتل عشرات الآلاف، وتدمير البنية التحتية، وتفشي المجاعة والأمراض. وصفت الأممالمتحدة الوضع بأنه "يتجاوز الكارثة" و"يصل إلى نقطة الانهيار". هذه الحقائق المأساوية، التي تُنقل يومياً عبر وسائل الإعلام ومنظمات الإغاثة، شكلت ضغطاً غير مسبوق على الحكومات الغربية، وجعلت من الصعب عليها الاستمرار في دعم إسرائيل دون قيد أو شرط. كما أن اتهامات الإبادة الجماعية التي وجهتها جنوب إفريقيا لإسرائيل أمام محكمة العدل الدولية زادت من هذا الضغط، وجعلت بعض الدول تتخذ خطوات عملية للضغط على إسرائيل، مثل فرض عقوبات على مسؤولين ومستوطنين، وتقييد تصدير الأسلحة. هذا التحول يأتي كرد فعل مباشر على تداعيات حرب غزة، وتزايد الوعي العالمي بضرورة إيجاد حل سياسي دائم وشامل يرتكز على حل الدولتين. من يقود الحراك الدولي؟ لطالما كان الاعتراف بالدولة الفلسطينية قضية محورها دول العالم الثالث والمنظمات الدولية، لكن ما يميز الموجة الحالية هو انضمام قوى غربية وازنة كانت تُعد تاريخياً من حلفاء إسرائيل الأقرب. فقد أعلنت دول مثل فرنسا، وبريطانيا، وكندا، وأستراليا، وبلجيكا، ومالطا، وسان مارينو، اعتزامها أو قيامها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. وهناك أيضاً جهود دبلوماسية عربية بالتنسيق مع دول أوروبية مثل فرنسا، لتفعيل حل الدولتين كسبيل وحيد لتحقيق السلام. موقف المعارضين: الولاياتالمتحدة وإسرائيل * الولاياتالمتحدة: تُعد الولاياتالمتحدةالأمريكية المعارض الأبرز للاعترافات الأحادية بالدولة الفلسطينية. ورغم تأكيدها على دعم "حل الدولتين"، إلا أنها تصر على أن قيام الدولة الفلسطينية يجب أن يأتي عبر مفاوضات مباشرة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وليس عبر خطوات أحادية الجانب. وقد وصف مسؤولون أمريكيون الاعترافات الأخيرة بأنها "استعراضية" لا تؤدي إلى سلام دائم، واستمرت واشنطن في استخدام حق النقض (الفيتو) لمنع انضمام فلسطين كعضو كامل في الأممالمتحدة. * إسرائيل: تعتبر إسرائيل هذه الاعترافات "جائزة للإرهاب" و"تهديداً لوجودها"، وقد رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذه الخطوات بشدة. وتتخذ الحكومة الإسرائيلية موقفاً معادياً، مؤكدة أنها لن تقبل بأي حل لا يضمن أمنها. وقد أشار الإعلام الإسرائيلي إلى أن هذه الاعترافات تمثل "تسونامي سياسياً" يستدعي رداً حازماً، ما دفع الحكومة إلى بحث سيناريوهات للرد. هل ستسلم إسرائيل بالأمر الواقع وهل ستوقف حرب الإبادة؟ من غير المرجح أن تستسلم إسرائيل للأمر الواقع بسهولة، أو أن توقف حربها في غزة في المدى القريب. فالحكومة الحالية، التي يهيمن عليها تيار اليمين، ترفض فكرة الدولة الفلسطينية بشكل قاطع وتعتبر حربها في غزة ضرورية لتحقيق هدفين أساسيين: * القضاء على حركة حماس: وهو هدف لم يتحقق بعد، ولا تزال إسرائيل تؤكد أنها ستواصل عملياتها العسكرية حتى يتم القضاء على قدرات الحركة. * إعادة المحتجزين: ورغم إطلاق سراح بعض المحتجزين، إلا أن المفاوضات لا تزال متعثرة، ولا تظهر إسرائيل أي مؤشرات على رغبتها في التوصل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار. وقد أعلنت إسرائيل بالفعل عن خطط لتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية كرد مباشر على هذه الاعترافات، بهدف فرض وقائع جديدة على الأرض وجعل أي حل مستقبلي مستحيلاً. كما أن هناك مقترحات إسرائيلية أخرى قد تشمل إغلاق القنصليات في الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، أو فرض سيادتها على مناطق استراتيجية مثل غور الأردن. السيناريوهات المحتملة لمستقبل غزة والحل الشامل في ظل هذه المعطيات، يمكن رسم عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل غزة والحل السياسي الأوسع: * استمرار الحرب في غزة: هذا هو السيناريو الأقرب للواقع في المدى القصير، حيث ستواصل إسرائيل عملياتها العسكرية المكثفة، مع التركيز على المناطق التي لم يتم "تطهيرها" بعد. هذا السيناريو سيؤدي إلى المزيد من الضحايا والدمار. * وقف إطلاق نار جزئي: قد يتم التوصل إلى هدنة إنسانية مؤقتة تسمح بتبادل للأسرى وإدخال المساعدات، لكنها لن تنهي الحرب بشكل كامل. هذا السيناريو يهدف إلى تخفيف الضغط الدولي دون المساس بالأهداف الإسرائيلية المعلنة. * تصعيد سياسي ودبلوماسي متزايد: ستواصل الدول المعترفة ضغوطها على إسرائيل من خلال الدبلوماسية الدولية، وقد يتم ترجمة هذه الاعترافات إلى خطوات عملية مثل فرض عقوبات على المستوطنات أو ملاحقة المسؤولين الإسرائيليين قضائياً. هذا السيناريو قد يزيد من عزلة إسرائيل الدولية ويضغط عليها للعودة إلى طاولة المفاوضات. * الرد الإسرائيلي العدواني: قد ترد إسرائيل بخطوات تصعيدية على الأرض، مثل ضم أجزاء من الضفة الغربية أو توسيع الاستيطان بشكل غير مسبوق، مما قد يؤدي إلى مزيد من التوتر والعنف في المنطقة. هذا السيناريو قد يهدد بانهيار السلطة الفلسطينية ويجعل "حل الدولتين" أمراً من الماضي. * الدفع نحو مؤتمر سلام دولي شامل: وهو السيناريو الذي يأمل به المجتمع الدولي، حيث قد تؤدي هذه الموجة من الاعترافات والضغوط الاقتصادية والدبلوماسية، خاصة من الدول الداعمة تاريخياً لإسرائيل، إلى إجبارها على القبول بحل سياسي شامل، يعيد الإعمار ويضع إدارة جديدة للقطاع ويحدد خارطة طريق واضحة ومحددة لإنهاء الصراع. هذا السيناريو قد يجبر جميع الأطراف على الانخراط في عملية سياسية جديدة، لكن نجاحه يعتمد على إرادة الأطراف وقدرة المجتمع الدولي على تجاوز المعارضة الإسرائيلية والأمريكية. في الختام، يمثل الحراك الدولي الحالي فرصة تاريخية لإعادة إحياء القضية الفلسطينية على الساحة الدولية، وإجبار الأطراف على مواجهة الواقع الجديد الذي فرضته تداعيات حرب غزة. ومع ذلك، لا يزال الطريق محفوفاً بالتحديات، خاصة في ظل المعارضة القوية من إسرائيل والولاياتالمتحدة، ويبقى السؤال الأهم هو ما إذا كانت هذه "التسونامي" ستؤدي إلى تغيير حقيقي أم أنها ستظل مجرد موجة عابرة في بحر الصراع الدائم.