تتلاقى حكمة الفيلسوف العربي ابن خلدون مع الرؤية الفلسفية للروائي الروسي دوستويفسكي في نقطة جوهرية وحاسمة: أن الأخلاق والقيم الإنسانية لا يمكن أن تزدهر في بيئة يسودها الفقر والحرمان. إنها علاقة عميقة ومعقدة بين الجوع وفساد الأخلاق، فكما أن الجسد يحتاج إلى الغذاء ليقوم بوظائفه الحيوية، فإن الروح تحتاج إلى الكرامة والأمان لكي تنمو وتتطور. هذا التوافق الفكري بين حضارتين مختلفتين يعكس حقيقة كونية راسخة، وهي أن الجوع ليس مجرد حالة فسيولوجية، بل هو قوة قادرة على تهشيم الكرامة الإنسانية وقلب الموازين الأخلاقية. الجوع يهشّم الكرامة الإنسانية ويُفسِد القِيَم عندما يسيطر الجوع على الإنسان، يتحول البحث عن لقمة العيش إلى الهدف الأسمى، وتتلاشى أمامه الكثير من القيم والمبادئ. الجوع ليس شعورًا بالخواء في المعدة فحسب، بل هو حالة نفسية واجتماعية تضع الإنسان في موقف ضعف وعجز تام. يصبح مستعدًا لفعل أي شيء، مهما كان منافيًا لأخلاقه، من أجل إشباع ألم الجوع الذي يؤلمه ويؤلم من حوله، وخاصة عائلته. هذه الحالة من اليأس المطلق تدفع الكثيرين إلى التخلي عن الأمانة والصدق، وقد تصل بهم إلى حد السرقة أو الكذب أو الغش. هنا، لا يمكننا أن نصدر حكمًا أخلاقيًا قاسيًا على هؤلاء الناس دون فهم الظروف التي دفعتهم إلى هذا السلوك. الجوع ليس عذرًا لفعل الشر، ولكنه سبب رئيسي في تدمير الكرامة الإنسانية التي هي أساس الأخلاق كلها. هو يجرّد الإنسان من قدرته على التفكير السليم، ويجعله أسيرًا لغريزة البقاء. بناء الفضيلة على أساس متين من الكفاية والأمان يُظهر قول دوستويفسكي الشهير "أطعم الناس أولاً، ومن ثم طالبهم بالفضيلة" فهمًا عميقًا للطبيعة البشرية. لا يمكن أن تطلب من شخص أن يكون فاضلًا وشريفًا وهو يرى أبناءه يتضورون جوعًا. إن الحاجات الأساسية للإنسان، مثل الغذاء والمسكن والأمان، هي حجر الأساس الذي تُبنى عليه الفضائل. عندما يشعر الإنسان بالأمان الاقتصادي والاجتماعي، يكون لديه الوقت والطاقة للتفكير في الأمور الروحية والأخلاقية، والمشاركة في بناء مجتمع أفضل. لذلك، فإن أي محاولة لإصلاح المجتمع أخلاقيًا دون معالجة مشكلة الفقر والجوع هي محاولة محكوم عليها بالفشل. إنها أشبه بمن يريد أن يبني قصرًا فخمًا على رمال متحركة. المجتمعات التي تسودها الفاقة والحرمان غالبًا ما تكون أرضًا خصبة للجريمة والفساد، لأن الحاجة تدفع الناس إلى سلوكيات لا يمكن تبريرها في الظروف العادية. تعميق الرؤية من المنظور الديني وفي هذا السياق، تؤكد الشريعة الإسلامية هذا المبدأ، ففي الوقت الذي تدعو فيه إلى القناعة والتعفف، فإنها جعلت من العدالة الاجتماعية والضمان الاجتماعي (الزكاة) ركنًا أساسيًا. لقد جاءت هذه التشريعات لتضمن حق الكفاية لكل فرد، وتنزعه من وهدة الحاجة التي تدفع لفساد الأخلاق. فالإسلام لم يطالب الإنسان بالفضيلة والتعفف وهو محروم من حقه في العيش الكريم، بل ألزم الدولة والمجتمع برفع شبح الفقر أولًا، لكي يتفرغ الإنسان للعبادة والبناء الأخلاقي بكرامة واطمئنان. مسؤولية المجتمعات والدول إن علاج مشكلة الجوع ليس مسؤولية فردية فحسب، بل هو مسؤولية جماعية تقع على عاتق الدول والمجتمعات ككل. يجب على الحكومات أن تتبنى سياسات اقتصادية عادلة تضمن توفير لقمة العيش لكل أفراد المجتمع، وتعمل على تحقيق الأمن الغذائي المستدام. يجب أن تكون هناك شبكات للرعاية الاجتماعية تضمن عدم سقوط أي فرد في هوة الفقر المدقع. إن بناء مجتمع فاضل يبدأ من توفير الكرامة الإنسانية للجميع، ولا كرامة حقيقية في ظل الجوع. عندما يشبع الناس، فإنهم يصبحون أكثر قدرة على التفكير بوضوح، واتخاذ قرارات أخلاقية صحيحة، والمساهمة بفاعلية في بناء مجتمعهم. إن العلاقة بين الغذاء والأخلاق علاقة تبادلية؛ فالأخلاق تبني مجتمعات عادلة توفر الغذاء للجميع، والغذاء يمهد الطريق لنمو الأخلاق والفضائل. باختصار، فإن الكرامة والأخلاق ليسا ترفًا يمكن الوصول إليه بعد تحقيق الازدهار المادي، بل هما شرطان أساسيان لتحقيقه. إن إطعام الناس هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع فاضل ومزدهر. 23 أغسطس 2025م قرية الزريبة زبيد محافظة الحديدة