غزة في الذكرى السنوية الثانية للحرب: صفعات متجددة وانهيار صحي... وخلف الكواليس وثيقة بلير ومفاوضات شرم الشيخ، والمساعدات العسكرية الأمريكية المزمع إرسالها إلى الكيان الإسرائيلي.. لقد تجاوزت الأحداث الراهنة في فلسطينوغزة مجرد كونها "صراعًا"، لتصبح عملية إعادة هيكلة جذرية للمنطقة بأسرها. بعد مرور عامين على عملية "طوفان الأقصى"، يتأكد يومًا بعد يوم أنها لم تكن مجرد رد فعل، بل كانت "عملية التصحيح الكبرى" التي أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة العالمية، وأوقفت قطار التصفية والتطبيع الشامل الذي كان يمضي بوتيرة متسارعة. أولاً: طوفان الأقصى: إعادة البرمجة الاستراتيجية والصفعات المتجددة التحليل الأولي للواقع المعاش يؤكد أن العملية كسرت معادلات كانت تبدو ثابتة، وحققت إنجازات استراتيجية كبرى على الرغم من التضحيات الجسيمة: * إفشال التصفية وكسر العزلة: لولا الطوفان، كان ملف فلسطين مهددًا بالإغلاق الكامل تحت وطأة التطبيع والهيمنة الإسرائيلية المباشرة والعلنية على المحيط العربي. * تشكيل المحور الجديد وتغيير قواعد الاشتباك: أظهرت الأحداث توأمة عضوية بين حركات المقاومة في فلسطين، لبنان، العراق، واليمن. لعل أبرز تجليات هذا التغيير هو إغلاق مضيق باب المندب في وجه الملاحة المرتبطة بالاحتلال وإطلاق النار على البوارج الأمريكية والبريطانية، وهو حدث كان مستحيلاً تصوره قبل العملية. * توحيد الجبهة المقاومة: نجح الطوفان في توحيد جناحي الإسلام، السني والشيعي، في جبهة مقاومة واحدة، وهو ما أدى إلى إفشال جهود طويلة الأمد لاستغلال الخلافات الطائفية لخدمة الأهداف الصهيونية. * الصفعات الميدانية المستمرة (في الذكرى الثانية): يتزامن التحليل مع استمرار الاشتباكات العنيفة في جبهات غزة، وتحديداً خان يونس، في ذكرى الطوفان. تؤكد هذه التطورات أن المقاومة لا تزال تمسك بزمام المبادرة وتوقع الخسائر، حيث اعترف العدو بحوادث "خطيرة" وتعدد المروحيات التي تنقل المصابين، مما يرسخ حقيقة فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه على مدار عامين. ثانياً: الكارثة الإنسانية والانهيار الصحي: "الإبادة الصحية" في الجانب المقابل للمعادلة، يكشف تقرير وزارة الصحة الفلسطينية في غزة حجم الكارثة الإنسانية التي بلغت حد "الإبادة الصحية" بعد 730 يومًا من العدوان: * أرقام الإبادة الجماعية: بلغ إجمالي الشهداء والجرحى (حتى نهاية سبتمبر الماضي) أكثر من 67,000 شهيد وأكثر من 169,000 جريح، بينهم آلاف الأطفال والنساء. * تدمير المنظومة الصحية: خرج 25 مستشفى عن الخدمة، ودُمر 103 مراكز للرعاية الأولية. وتوقفت الأنظمة الكهربائية وأجهزة توليد الأكسجين بشكل كارثي. * المجاعة وسوء التغذية: تم تسجيل 460 حالة وفاة بسبب المجاعة وسوء التغذية، منهم 154 طفلاً. ولا يزال أكثر من 51 ألف طفل دون الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد، وتفاقمت الأوضاع الصحية في مناطق التجميع القسري بسبب تفشي الأمراض. * إغلاق المعابر وحرمان المرضى: أدى إغلاق المعابر إلى حرمان 18 ألف مريض من السفر للعلاج، منهم 5580 طفلاً. هذه المعطيات لا تصف "أزمة إنسانية"، بل تصف استهدافًا ممنهجًا لركيزة الوجود البشري، يتطلب تدخلات طارئة وتجريمًا دوليًا لمواصلة تقويض ما تبقى من خدمات صحية. ثالثاً: المواقف الدولية والدعم العسكري الأمريكي والاحتجاج العالمي على الرغم من الكارثة الإنسانية، تُظهر المواقف الدولية تباينًا حادًا، يقوده الدعم الأمريكي غير المسبوق لإسرائيل، في مقابل تنامي حركة الاحتجاج الشعبي العالمي: * دعم عسكري بمليارات الدولارات: تبرز التقارير عن حجم المساعدات العسكرية الأمريكية الكبيرة المزمع تقديمها لإسرائيل، الحليف الأقرب للولايات المتحدة في المنطقة، كعامل حاسم في استمرار الحرب. فقد أحال البيت الأبيض طلبات جديدة لإسرائيل إلى وزارة الحرب الأمريكية (البنتاغون) التي تشرف على جزء من هذه المساعدات، والتي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات. هذا الدعم يشمل ذخائر دقيقة وأنظمة دفاعية متقدمة، وهو ما يثير انتقادات حادة بشأن تناقض السياسة الأمريكية في دعوة لضبط النفس والحرص على المدنيين، بينما توفر الأدوات اللازمة لاستدامة العمليات العسكرية. وتشير التقديرات الأولية إلى أن تكلفة التدخلات العسكرية الأمريكية المباشرة (التي تشمل نشر حاملات الطائرات وتعزيز القواعد والتعامل مع هجمات المحور الجديد) في الشرق الأوسط بعد الطوفان تُقدر هي الأخرى بعشرات المليارات. هذا الحجم الهائل من الدعم المادي والعسكري يغذي الشعور بالازدواجية في المعايير الدولية ويقلل من تأثير الضغوط الهادفة لوقف إطلاق النار. * صوت الشعوب في الشوارع العالمية: في المقابل، شهد العالم موجة غير مسبوقة من المظاهرات المؤيدة لوقف الحرب على غزة والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية دون قيود. لقد تحولت عواصم العالم الغربية والعربية إلى ساحات احتجاج ضخمة، حيث يطالب الملايين حكوماتهم بوقف دعمها العسكري والسياسي لإسرائيل والضغط الفوري لوقف إطلاق النار. هذه الحشود، التي تضم أطيافًا سياسية ودينية وإثنية واسعة، تُشكل أكبر ضغط شعبي على السياسات الرسمية منذ عقود، وتؤكد أن الرأي العام العالمي يرفض استهداف المدنيين والتجويع المتعمد، ويرى أن الإبادة الإنسانية في غزة تتجاوز أي مبرر أمني. هذا الحراك الشعبي هو ورقة ضغط أخلاقية لا يمكن للساسة تجاهلها على المدى الطويل. رابعاً: المستجدات الرئيسية: وثيقة بلير ومفاوضات شرم الشيخ * الوثيقة المسربة من مكتب توني بلير: المعلومات المتوفرة والمُسربة تشير إلى أن الوثيقة المنسوبة لمكتب رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير (الذي يعمل مستشارًا لقضايا المنطقة) تدور حول "اليوم التالي" للحرب. جوهر الوثيقة يرتكز على رؤية لمستقبل غزة تخدم المصالح الغربية والإسرائيلية وتقضي على أي وجود للمقاومة. * هدف الوثيقة: إعادة هيكلة غزة بشكل كامل تحت إشراف "قوة متعددة الجنسيات" أو "تحالف عربي-دولي" مؤقت، ومن ثم نقل السيطرة إلى "قيادة فلسطينية تكنوقراطية" متوافقة مع الرؤية الغربية، مع تهميش أو استبعاد كامل للمقاومة. * الخطر الكامن: تعتبر هذه الوثيقة، إن صحت، مؤشراً على محاولات لفرض واقع سياسي جديد بالقوة لا يعترف بإرادة الشعب الفلسطيني ولا يتجاوز مربع الترتيبات الأمنية والوصاية الخارجية، وهو ما يعكس استمرار الأجندة التي تهدف إلى إعادة التصفية للقضية عبر بوابة الإغاثة وإعادة الإعمار. * المفاوضات في شرم الشيخ والجهود الدبلوماسية: تُعد المفاوضات في شرم الشيخ جزءًا من جهود دولية وإقليمية أوسع للتوصل إلى صفقة تبادل أسرى وإقرار هدنة طويلة الأمد. * الهدف المعلن: التوصل إلى هدنة طويلة الأمد وتبادل للأسرى كخطوة نحو وقف دائم لإطلاق النار. * العقبات الرئيسية: تتمحور العقبات حول الضمانات لوقف دائم لإطلاق النار (وهو مطلب المقاومة الأساسي)، وانسحاب القوات الإسرائيلية الكامل من القطاع، وطبيعة "اليوم التالي" لحكم غزة. الاحتلال يسعى لهدنة مؤقتة تتيح له استعادة أسراه دون التزام بوقف دائم، مع محاولة فرض شروط على مستقبل غزة. * الموقف العربي/الدولي: تتزايد الضغوط الدولية لضمان تدفق المساعدات ورفض أي تهجير قصري للفلسطينيين، إلا أن الجدية في فرض وقف إطلاق النار الدائم لا تزال تواجه فيتو الدعم الأمريكي للاحتلال. خلاصة التحليل إن أحداث الساعة تضعنا أمام مشهد متناقض ومركب: * الميدان: تؤكد المقاومة صمودها وقدرتها على استدامة الصراع وتجديد صفعات العدو بعد عامين، مما يثبت أن الخيار العسكري لا يزال فعالاً في كسر الهيبة الصهيونية. * الوضع الإنساني: وصل الوضع في غزة إلى حد "الإبادة الصحية" والمجاعة الممنهجة، مما يمثل ضغطًا أخلاقيًا وقانونيًا هائلاً على المجتمع الدولي. * السياسي: يتمثل التحدي الأكبر في الصراع على "اليوم التالي". فبينما تحاول القوى الغربية، مدعومة بأفكار مثل وثيقة بلير، هندسة قيادة جديدة منزوعة القوة في غزة، تتمسك المقاومة بمطالبها الأساسية في مفاوضات الهدنة بضرورة الوقف الدائم للحرب والانسحاب الكامل. النتيجة: إن طوفان الأقصى كان إعلانًا تاريخيًا أنهى مرحلة "موت سريري" للقضية الفلسطينية برمتها. المرحلة الحالية هي معركة تثبيت النتائج الاستراتيجية للطوفان في وجه الانهيار الإنساني والمحاولات السياسية ل "سرقة الانتصار" عبر فرض وصاية دولية أو عربية على غزة تتجاهل دور تضحيات المقاومة. إن الصمود في الميدان هو المفتاح لفرض واقع سياسي جديد يختلف جذريًا عما خطط له في أروقة الشرق الأوسط الجديد الذي طالما تحدث عنه نتنياهو وحكومته ذات التوجه اليميني المتشدد، وزبانية السياسة والتخطيط في إدارة الرئيس ترامب.