في عالمٍ تلاشت فيه الحدود التقليدية للحروب، لم يعد الصراع مقتصرًا على المواجهة العسكرية المباشرة أو الصخب الميداني، بل انتقل إلى أروقة "صناعة الوعي" و"هندسة الفقر". إن ما نشهده اليوم هو محاولة ممنهجة لتحويل الإنسان من كائنٍ مفكر ذي رسالة حضارية، إلى مجرد "ترس" في آلة استهلاكية ضخمة، يُنهكه الركض خلف لقمة العيش حتى يغيب عن ذهنه السؤال الأهم: لماذا نُستنزف؟ ومن المستفيد من بقائنا في دوامة الاحتياج؟ الفقر كأداة سياسية.. لا مصادفة اقتصادية يخطئ من يظن أن الفقر في مجتمعاتنا هو مجرد تعثر عابر في مؤشرات النمو أو نتيجة طبيعية لندرة الموارد؛ بل هو في جوهره "سياسة مقصودة" وأداة من أدوات الإخضاع. إن إشغال الشعوب بضمان البقاء البيولوجي (الطعام والمأوى) هو أسلوب قديم متجدد لضمان عدم تفرغ العقول للنقد أو التغيير. حين يتحول الفقر من أزمة مادية إلى "حالة نفسية متوارثة"، يفقد الفرد ثقته في قدرته على الفعل، وينطفئ لديه بصيص الأمل، وهنا تكتمل حلقة السيطرة؛ فالإنسان المنهك يسهل قياده، والمواطن المستسلم هو البيئة الخصبة للتبعية والارتهان للخارج. سلاسل العصر: من قيد الحديد إلى أسر الذهن لقد استبدلت القوى المهيمنة، وعلى رأسها الأجندة الصهيونية التي فصلنا القول في مخططاتها سابقاً، السلاسل الحديدية ب "قيود ذهنية" ناعمة وأكثر فتكاً. هذه القيود تتمثل في: * الإغراق الاستهلاكي: تحويل قيمة المرء إلى ما يملكه لا ما يحمله من قيم. * تشتيت الوعي الجمعي: إثارة الصراعات الهامشية والنزاعات البينية لاستنزاف الطاقات الفكرية. * تسطيح الفكر: عبر منصات إعلامية لا تقدم معرفة، بل تقدم "تخديراً" مستمراً. إنهم لا يريدون "مواطناً متطوراً" يمتلك أدوات التحليل والمقارنة، بل يريدون "عاملاً منهكاً" يستهلك ما ينتجون، وينفذ ما يخططون، دون أن يشعر بمرور الزمن أو ضياع المعنى والهوية. لماذا يخشون الوعي؟ إن المعادلة بسيطة بقدر ما هي خطيرة، فالوعي هو "مضاد السموم" لكل الأجندات المشبوهة: * المواطن الواعي: يدرك حقوقه وواجباته، فيصبح صخرة صلبة تتحطم عليها أمواج الفساد والظلم. * المثقف الحقيقي: يمارس "الشك المنهجي" والتحليل العميق، فلا يبتلع الأكاذيب المغلفة بغلاف الحقيقة. * المستنير إيمانياً: يمتلك بوصلة قيمية نابعة من هويته الإسلامية والوطنية، لذا فهو "عصي على التدجين" ولا يُقاد كالقطيع. من هنا، يبرز الوعي كأخطر سلاح يهدد الأنظمة القائمة على التجهيل. إنه الكاشف ل "الأجندات الصهيونية" التي تحاول إعادة صياغة المنطقة عبر تفريغها من محتواها القيمي والديني قبل السيطرة على ثرواتها المادية. الخاتمة: استرداد الوعي.. واجب الوقت وفريضة المرحلة إن معركتنا الحقيقية اليوم ليست مجرد معركة خبز، بل هي معركة "استرداد الوعي المسلوب". إن الخطوة الأولى تبدأ بإدراك أن الفقر والتبعية ليسا قدراً محتوماً، بل هما واقع مفروض لغايات سياسية، وكسرهما يتطلب تكاتفاً مجتمعياً شاملاً. إن دورنا اليوم، ومن خلال مسؤوليتنا في توحيد الخطاب الديني والوطني، هو العمل على تحويل المنبر والقلم إلى أدوات تنوير تعيد صياغة العقل اليمني والعربي بما يتسق مع قيم العزة والكرامة. إن تحرير الأرض يبدأ حتماً من تحرير الذهن من "القيود الناعمة"، وترسيخ قيم الاكتفاء والرسالية في النفوس. لنكن على يقين بأن الشعوب التي تعي حقيقة ما يُحاك ضدها، وتستمسك بحبل وعيها وهويتها، هي شعوب لا تُقهر، ولا تُخترق، ولن تضل الطريق مهما بلغت قوة الرياح المعاكسة.