يُعد الصراع العربي–الإسرائيلي من أقدم وأعمق الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وهو صراع محوري تمحور في جذوره حول الأرض والهوية، وارتبط تاريخيًا ودينيًا بالمرويات الإسلامية واليهودية على السواء، وتجلى بصورة سياسية وعسكرية ممتدة لأكثر من سبعين عامًا، منذ نكبة عام 1948، مرورًا بالحروب العربية–الإسرائيلية، ووصولًا إلى مشهد التطبيع والتحولات الجارية اليوم. أما الصراع الإسرائيلي–الإيراني فيُعد استثنائيًا في طبيعته، ويتسم بطابع براغماتي متقلب، يتجاوز الثنائيات التقليدية للصراعات العقائدية أو القومية، ليعكس في جوهره تعقيدات المصالح والتقاطعات الجيوسياسية في الإقليم. فرغم ما يبدو من عداء صارخ في الخطاب السياسي والإعلامي بين طهران وتل أبيب في العقود الأخيرة، إلا أن تاريخ العلاقات بين إيران وإسرائيل – لا سيما في عهد الشاه – يروي وجهًا آخر؛ حيث شهدت تلك المرحلة تعاونًا وثيقًا، خاصة في مجالات الطاقة والتسليح. ولعل أبرز مثال على ذلك هو دعم إسرائيل لإيران بالسلاح خلال حرب الخليج الأولى (1980–1988)، حين كانت إيران في مواجهة نظام صدام حسين، حليف الغرب في تلك المرحلة.
كما أن تأسيس البرنامج النووي الإيراني يعود إلى فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي، بدعم مباشر من الولاياتالمتحدة ودول غربية، في إطار ما عُرف بمشروع "الذرة من أجل السلام"، ما يعكس وجود شبكة مصالح استراتيجية بين طهران والغرب آنذاك، تتجاوز السرديات السياسية الراهنة.
عند التأمل في نمط الضربات الإسرائيلية الأخيرة، يتضح أنها لا تأتي في سياق حرب شاملة بقدر ما تُستخدم كأدوات لإعادة ضبط ميزان القوى أو إفشال تقاطعات سياسية غير مرغوبة. فقد استهدفت هذه الضربات شخصيات وقيادات تعتبرها تل أبيب "غير منضبطة" أو تشكّل خطرًا على حالة الردع الإقليمي، ما يعكس أن تلك الضربات تمثل سياسة "مواجهة للتوازن" لا "مواجهة للحسم".
ويُلاحظ أن هذه الاستراتيجية تتكرر في عدة مسارح إقليمية، كما في الضربات التي طالت قيادات عسكرية أو أمنية في سوريا ولبنان، وكذلك في الضربات التي وُجّهت مؤخرًا إلى مواقع داخل اليمن، وهي ضربات تحمل رسائل سياسية بالدرجة الأولى، تسعى من خلالها إسرائيل إلى عرقلة أي تقارب في الشروط التفاوضية سواء على المستوى النووي الإيراني، أو في ملفات التطبيع والتهدئة الإقليمية.
تعمل إسرائيل من خلال هذه العمليات المحدودة على منع خصومها من امتلاك هامش استراتيجي واسع يمكن استثماره في أي مفاوضات مستقبلية، كما تحاول فرض معادلة ردع قوامها الاستباق والمباغتة، دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة واسعة النطاق، وهو ما يؤكد الطبيعة "الاحتوائية" لهذه الاستراتيجية أكثر من كونها حربًا صريحة.
في ضوء المتغيرات الإقليمية الراهنة، يُطرح تساؤل جوهري حول مآلات العلاقة بين إيران وإسرائيل: هل تتجه نحو توازن طويل الأمد؟ أم إلى شكل من أشكال الاتفاق الضمني أو المعلن؟ أم أنها مرشحة للاستمرار كحالة استنزاف مدروسة؟ في كل الحالات، يبقى الوطن العربي هو ساحة التوترات، والميدان الذي تُخاض فيه حروب بالوكالة تُشعلها أطراف خارجية، وتُدار بدماء عربية.
وما يزيد المشهد تعقيدًا هو أن الاستراتيجية الإسرائيلية لا تقوم على إنهاء الخصم الإيراني بشكل نهائي، بل على إضعافه وإبقائه في حالة استنزاف دائم، بما يضمن انشغاله في محيطه الجغرافي والطائفي. وهذا الإضعاف – لا الإنهاء – يتيح لإسرائيل هامشًا أوسع من التحرك الاستراتيجي لاستكمال مشروعها الإقليمي، الذي تُحركه رؤية "إسرائيل الكبرى" – أكانت بحمولتها الدينية أو بصيغتها الواقعية القائمة على التفوق والسيطرة الجيوسياسية والاقتصادية.
ومن هنا، يكمن التحدي الحقيقي الذي يواجه الوطن العربي: ما بعد لحظة "توازن" أو "تفاهم" محتمل بين إسرائيل وإيران، إذ قد تجد إسرائيل نفسها في وضع يسمح لها بتكريس تفوقها دون مقاومة حقيقية، إذا ما تم إنهاك القوى العربية وتفكيك الهياكل الوطنية بفعل صراعات داخلية أو إقليمية مدارة خارجيًا.
وبذلك، فإن الحرب التي أشعلت نيرانها منذ عقود لم تُخمد، بل أعادت تشكيل أدواتها وحدودها ومفاعيلها، ليبقى الوطن العربي هو الرهان، وهو أيضًا الخاسر الأكبر إن لم يُعدّ مشروعًا استراتيجيًا جماعيًا يستشرف القادم ويتجاوز ردود الفعل اللحظية.
انطلاقًا مما سبق، يمكن استشراف سيناريو بالغ الخطورة يتمثل في أن إضعاف إيران ومحورها – سواء عبر الضربات العسكرية، أو التفاهمات النووية، أو اتفاق شامل مع إسرائيل – ليس هدفًا نهائيًا بحد ذاته، بل مرحلة انتقالية نحو الهدف الأعمق: تفكيك البنية الجغرافية والسياسية للعالم العربي، وتفتيت وحدته الإقليمية لصالح مشروع توسعي إسرائيلي يجد في الضعف العربي بيئة خصبة للتمدد.
في هذا السياق، تبدو دول مركزية كالسعودية ومصر وسوريا والعراق عرضة لموجة جديدة من الضغوطات الجيوسياسية، التي قد تتخذ شكل تدخلات مباشرة أو ناعمة، أو تفجيرات داخلية مدعومة خارجيًا، ضمن مسار يهدف إلى تفتيت النفوذ القومي وتحويل هذه الدول إلى كيانات وظيفية مجزأة، غير قادرة على بناء مشروع نهضوي جامع.
وتعكس خطابات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب – لا سيما في حديثه عن غزة، أو عن شبه الجزيرة العربية – نَفَسًا استعماريًا جديدًا يعبّر عن أطماع دولية في قلب العالم العربي، بوصفه الفضاء الجغرافي الأهم من حيث الثروات والموقع، والمجال الذي لم تُحسم فيه معركة النفوذ بعد. فمساحة إسرائيل الضيقة، مقارنة بشبه الجزيرة العربية أو دول وادي النيل وبلاد الشام، تُغري المشروع الصهيوني بالسعي نحو "تمدد استراتيجي" يتجاوز الأمن العسكري إلى الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية، خاصة في ظل ما يُسمى ب"صفقة القرن" أو مشاريع التطبيع المشروطة.
إنّ مظاهر الابتهاج العربي المصاحبة للضربات الإسرائيلية ضد إيران، وإن بدت في ظاهرها نوعًا من التشفي أو الانتصار الرمزي، إلا أنها في جوهرها تعبّر عن انزلاق خطير نحو غياب البوصلة الاستراتيجية. فهذه الضربات، مهما حملت من رسائل تكتيكية، لا تصب في مصلحة القضايا العربية الكبرى، بل قد تُسهم في فتح الباب أمام مرحلة جديدة من تمدد المشروع الإسرائيلي داخل الجغرافيا العربية.