محمد المساح..وداعا يا صاحبنا الجميل!    صورة ..الحوثيون يهدّون الناشط السعودي حصان الرئيس الراحل "صالح" في الحديدة    آية في القرآن تجلب الرزق وفضل سورة فيه تبعد الفقر    ما هي قصة شحنة الأدوية التي أحدثت ضجةً في ميناء عدن؟(وثيقة)    العليمي يتحدث صادقآ عن آلآف المشاريع في المناطق المحررة    العليمي يكرّر كذبات سيّده عفاش بالحديث عن مشاريع غير موجودة على الأرض    رفع جاهزية اللواء الخامس دفاع شبوة لإغاثة المواطنين من السيول    مقتل مغترب يمني من تعز طعناً على أيدي رفاقه في السكن    انهيار منزل بمدينة شبام التأريخية بوادي حضرموت    نصيب تهامة من المناصب العليا للشرعية مستشار لا يستشار    وفاة الكاتب والصحفي اليمني محمد المساح عن عمر ناهز 75 عامًا    على الجنوب طرق كل أبواب التعاون بما فيها روسيا وايران    عاجل: انفجارات عنيفة تهز مدينة عربية وحرائق كبيرة تتصاعد من قاعدة عسكرية قصفتها اسرائيل "فيديو"    صورة تُثير الجدل: هل ترك اللواء هيثم قاسم طاهر العسكرية واتجه للزراعة؟...اليك الحقيقة(صورة)    صور الاقمار الصناعية تكشف حجم الاضرار بعد ضربة إسرائيل على إيران "شاهد"    وزير سابق يكشف عن الشخص الذي يمتلك رؤية متكاملة لحل مشاكل اليمن...من هو؟    الدوري الايطالي: يوفنتوس يتعثر خارج أرضه ضد كالياري    نادي المعلمين اليمنيين يطالب بإطلاق سراح أربعة معلمين معتقلين لدى الحوثيين    مبنى تاريخي يودع شبام حضرموت بصمت تحت تأثير الامطار!    رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    تظاهرات يمنية حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    شبوة.. جنود محتجون يمنعون مرور ناقلات المشتقات النفطية إلى محافظة مأرب    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    لحظة بلحظة.. إسرائيل «تضرب» بقلب إيران وطهران: النووي آمن    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



10سنوات من الصراع ل"القبض" على العالم ...
نشر في يمنات يوم 01 - 01 - 2011

قبل عشر سنوات من الآن، كان العالم يستعد لدخول ألفية جديدة يحدوه الأمل والرجاء في مستقبل واعد للبشرية، لكن مع ذلك ظلت أسئلة كثيرة تتردد وتفرض نفسها حاولت أن تصل إلى إجابات يمكن أن تشكل معالم أو ملامح تلك الألفية الجديدة .
كان أبرز هذه التساؤلات ذلك السؤال المحوري الذي طرحه أستاذ العلوم السياسية الأمريكي ليستر ثورو في مؤلفه الشهير الصادر عام 1997 تحت عنوان “Head to Head" أو (المتناطحون)، كان ثورو يسأل: من سيسيطر على القرن الحادي والعشرين؟
سؤال السيطرة على القرن الحادي والعشرين كان سؤال من سيسيطر على العالم ذاته، وإذا كان هذا السؤال قد مثّل صدمة مبكرة لطموحات المشروع الأمريكي “الإمبراطوري" الذي ظهر في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وبالتحديد ابتداء من عام 1991 فالولايات المتحدة لم تكن على ثقة فقط بأنها سوف تسيطر على العالم في القرن الحادي والعشرين من دون منازع، بل كانت على يقين أنها ستفرض حكماً إمبراطورياً يتيح لها السيطرة والهيمنة المطلقة . ولذلك كانت صدمة سؤال ثورو مضاعفة عندما أكد في نهاية تحليله أن من يسيطر على العالم في القرن الحادي والعشرين هو من سيملك القوة المتفوقة على كل أنواع القوة العسكرية والاقتصادية والأيديولوجية والصناعية . وقد انتهى ثورو إلى أن القوة المتفوقة هي القوة العقلية وهي ثمرة الاستثمار في العلم، وأن اليابان هي من ستكون لها الغلبة في القرن الحادي والعشرين لأنها الأكثر استثماراً في القوة العقلية وفي العلم والتكنولوجيا فائقة التطور .
نبوءة ثورو جاءت صادمة لذلك “الفريق الجهنمي" الذي كان يعمل في وزارة الدفاع الأمريكية في ذلك الوقت، وعلى رأسه بول وولفويتز الذي كان قد أعد تقريراً في نهاية حكم الرئيس جورج بوش (الأب) تضمن توصيات لما يجب أن تقوم به الولايات المتحدة للسيطرة على العالم، كانت أبرزها ضرورة منع ظهور أي قوة منافسة للولايات المتحدة عالمياً حتى ولو كانت من الحليفين الأوروبي والياباني، وتحجيم اندفاع تجربة الاتحاد الأوروبي وعرقلتها، ومنع أوروبا من امتلاك هوية أمنية مستقلة عن حلف شمال الأطلسي (الناتو) باعتبار الحلف أداة مهمة لبقاء سيطرة أمريكا على أوروبا، ثم العمل على إبقاء روسيا عند مستوى قوة من الدرجة الثانية، وضبط حركة القوى الإقليمية الصاعدة خاصة الصين والهند من المنافسة على الزعامة الدولية .

هذا التقرير الذي جرى سحبه سريعاً بسبب احتجاجات أوروبية ويابانية ظل هاجساً عند فريق صقور المحافظين الجدد الذين عادوا إلى البيت الأبيض بعد انتهاء ولايتي الرئيس بيل كلينتون وفوز جورج بوش (الابن) بالرئاسة على منافسه الديمقراطي في نوفمبر/تشرين الثاني2000 .
وهكذا كان العالم ومع بداية القرن الحادي والعشرين على أعتاب تنافس شديد على قيادة العالم بين الولايات المتحدة وحلفائها الذين حالوا دون تمكين الولايات المتحدة من أن تصبح قطباً أحادياً عالمياً مسيطراً وأن تفرض نظاماً عالمياً أحادى القطبية، حيث ظهرت بوادر خلافات أوروبية - أمريكية من خلال سعي أوروبا لامتلاك دور أوروبي مستقل عن الناتو، ومن خلال تجديد روسيا تحت زعامة فلاديمير بوتين طموحاتها الوطنية والإسراع في ترميم قوتها واستعادة عافيتها والتطلع للتنسيق مع قوى دولية أخرى لفرض نظام عالمي متعدد الأقطاب .

وكان العالم أيضاً في ظل هذا التنافس يستعد للتفاعل مع ثلاث ثورات كبرى في آن واحد هي: الثورة السياسية التي تعني الانتقال الحاسم من الشمولية والسلطوية إلى الديمقراطية . والثورة القيمية التي تتمثل في ظاهرتين: أولاهما، تلك التي أعادت الاعتبار للقيم الروحية والدينية والمعنوية، وثانيتهما، تتعلق بتحدي الجماهير للنخب السياسية من خلال المطالبة بالمزيد من المشاركة السياسية، والتدخل في عملية صنع القرار . أما الثورة الثالثة، فهي الثورة المعرفية، التي فرضت انساقاً فكرية مفتوحة قادرة على المزج بين أكثر من نسق فكري واحد حسب حاجة وخصوصية كل مجتمع من المجتمعات، هذه الثورة كانت تهدف إلى الانتقال بالعالم من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، ومن ثورة المعلومات إلى الثورة المعرفية ومن مجتمع المعلومات بما يتطلبه من حريات واسعة أبرزها حرية الفكر وحرية تداول المعلومات إلى مجتمع إنتاج المعرفة حيث يكون الإبداع للقوة العقلية على النحو الذي تنبأ به ليستر ثورو في مؤلفه المشار إليه .

وهكذا كان العالم على وعود بالتقدم والرخاء والحريات، ثم، وهذا هو الأهم، التنافس الديمقراطي على تأسيس نظام عالمي جديد بين نظام أحادي القطبية تتزعمه الولايات المتحدة التي تطمح إلى جعله “نظاماً إمبراطورياً"، وبين نظام متعدد الأقطاب تتنافس فيه قوى دولية عديدة لمصلحة العالم، سواء في ما يتعلق بإشاعة “ديمقراطية القرار الدولي" أو ما يتعلق ب “عدالة توزيع الثروات" في العالم من خلال تحقيق الرخاء عبر التوسع في الولوج إلى عالم إنتاج المعرفة والاقتصاد المعلوماتي الجديد .

الشرق الأوسط الكبير وغزو العراق
حمل مشروع الشرق الأوسط الكبير عنوان إعادة رسم الخرائط السياسية في الشرق الأوسط، واعتبر غزو العراق واحتلاله قفزة لاختراق النظام العربي وتفكيكه وفق النموذج الذي سوف يفرض على العراق، ولذلك فإن الجوهر الحقيقي للمشروع هو إعادة تقسيم ما سبق تقسيمه من الوطن العربي تحت شعارات متعددة لتيسير عملية السيطرة والتحكم في منطقة هي الأهم استراتيجياً على مستوى العالم، وهي الأشد خطورة بالنسبة لامتلاك مصادر الطاقة ومخزونها: النفط والغاز، فمن خلال هذه السيطرة يمكن فرض المشروع الإمبراطوري الأمريكي .

وبعد أن أكملت الولايات المتحدة غزوها للعراق بسقوط بغداد، وبعد فشل قوات الاحتلال الأمريكية في إيجاد ما يثبت امتلاك العراق لأي نوع من أنواع أسلحة الدمار الشامل، التي كانت أقوى المبررات الأمريكية للغزو، حرص الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش على تجنب أي حديث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وتحول إلى الدعوة للتغيير في الشرق الأوسط، واعتبر التغيير الذي حدث في العراق بإسقاط حكم صدام حسين “حجر زاوية" إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط . فقد صرح بوش بأن “ظهور عراق حر وسلمي أمر مهم لاستقرار الشرق الأوسط، وشرق أوسط مستقر أمر مهم بالنسبة لأمن الشعب الأمريكي"، كما صرح ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي بأن العراق “سيصبح مثالاً للشرق الأوسط بأكمله" وبالتالي “سيساهم مباشرة في أمن أمريكا وأصدقائنا"، وركز مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية على هذه النظرية عندما قال إن الولايات المتحدة قد بدأت “التزاماً لأجيال حيال العراق مشابهاً لجهودها لإعادة صياغة ألمانيا في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية" .

هذا المسؤول الكبير، ويعمل مستشاراً للرئيس الأمريكي، حدد استراتيجية طويلة المدى تنشر فيها الولايات المتحدة قيمها عبر العراق ومنطقة الشرق الأوسط، بالضبط مثلما حولت الولايات المتحدة أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين، وأوضح هذا المسؤول أن “الهدف" الأعظم للولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 هو “انتشار قيمنا، وفهم أن قيمنا وأمننا متداخلة، كما كان في أوروبا، ولكنها مرتبطة بالشرق الأوسط أيضاً" .

بهذا المعنى يمكن أن نفهم أن الاحتلال الأمريكي للعراق، ليس نهاية لمشوار طويل استغرقته “الأزمة الأمريكية المفتعلة" مع نظام صدام حسين، ولكنه بداية لمشوار أمريكي أطول يربط القيم الأمريكية بإقامة عراق حر يستخدم منطلقاً للتغيير في المنطقة كلها، وفي قلبها، بالطبع الصراع العربي - “الإسرائيلي" .

وبهذا المعنى أيضاً، يمكن أن نفهم أن الدول العربية باتت معرضة لعمليات تغييرية شاملة وعميقة، وأن الأمر لم يعد مجرد تأثر، بدرجة أو بأخرى، بما يسمى ب “نكبة العراق"، ولكنه يرتبط بمصير المشروع الأمريكي في العراق، وهو مشروع وصفه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق بأنه “غير قابل للفشل"، لأن الفشل سوف يؤثر سلبياً في احتمالات نجاح المشروع الإمبراطوري الأمريكي كله، الذي جعل من التغيير في الشرق الأوسط قاعدة انطلاق للمشروع الإمبراطوري الكوني . والتقرير الذي أعده “معهد أمريكان انتربرايز" الذي يرتبط بتيار المحافظين الجدد الذين يقودون السياسة الخارجية الأمريكية ويتبنى المشروع الإمبراطوري الأمريكي والذي تحدث بوضوح عن خطة التغيير الشاملة التي تبدأ بالعراق .

والمفكر الأمريكي المعروف نورمان ميللر قال إن الذين وضعوا خطة الحرب على العراق لا يهمهم بقاء صدام من عدمه، أو أن لدى العراق أسلحة دمار شامل، فهدفهم بعد ضرب العراق عسكرياً هو إقامة إمبراطوريتهم التي تنطلق من الأرض العربية إلى ما بعد العراق . والكاتب الأمريكي روبرت كراوتمهمر - الذي يعد أحد أبرز الذين يعبرون عن فكر قيادات البنتاغون - شرح بالتفصيل أن خطة الحرب على العراق لا ترمي إلى الضربة العسكرية ثم الخروج (همساً)، لكن الخطة تقوم على استراتيجية الدخول (همساً)، أي دخول العالم العربي من بوابة العراق، لإجراء تغييرات مطلوبة في أنحاء العالم العربي والإسلامي .
المعنى نفسه أكده ويليام بيرنز مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، عندما تحدث عن العلاقة بين الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله وقضية التغيير الديمقراطي وموقعها من المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط، فهو يعترف بأن الاهتمام بتحقيق إصلاح سياسي وتغيير ديمقراطي في العالم العربى ليس مجرد مسألة قيم أمريكية، أو ضمان حقوق الإنسان الأساسية، على الرغم مما لهذين الاهتمامين من أهمية قصوى، إنه أيضاً مسألة مصالح أمريكية واقعية .

الأهم من ذلك هو الاقتناع بأنه إذا كانت حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت) قد حدثت لحماية الأوضاع القائمة في المنطقة فإن الحرب الثالثة (الغزو الأمريكي للعراق) قد شنت لتدمير هذه الأوضاع، وخلق واقع جديد وإحداث تغيير أوسع على الأرض يصعب أن يصب لمصلحة النظم الحاكمة في دول المنطقة . فهذه النظم خلقت فراغاً خطراً وتخلت عن دورها وفرصتها في أن يكون لها كلمة في عملية التغيير المطلوبة .

هذه الرؤية رأت أن دول الخليج بصفة خاصة ظلت طيلة ال 30 سنة الماضية مشغولة بحماية الوضع القائم فيها واحتواء مختلف المخاطر المحلية والخارجية، بدءاً من القومية العربية إلى القضية الفلسطينية مروراً بالثورة الإسلامية في إيران وتهديدات العراق العسكرية، فضلاً عن تفاقم المشكلات السكانية والاقتصادية في الداخل، ولم تحظ أي من تلك القضايا والمشكلات بتفكير جدي ورؤية استراتيجية فعلية بعيدة المدى . فقد كانت السياسة الشائعة إما شراء ولاءات مختلف اللاعبين أو إيجاد طرق لكسب الوقت بأمل أن تحل المشكلات نفسها بنفسها .
كما رأت هذه الرؤية أن المنطقة كانت تواجه النتائج المتراكمة لردود الفعل المتأخرة على سلسلة طويلة من المخاطر، التي كانت تعد “مخاطر حاضرة" في حينها، والحل يكمن في ضرورة تبني حزمة من الإجراءات تشكل فيما بينها استراتيجية شاملة وموحدة حتى وإن تم تنفيذها على مراحل، ويأتي في مقدمتها الإصلاح السياسي الشامل الذي يفتح الفرص أمام الإصلاح الاقتصادي والثقافي والاجتماعي .
بهذا المعنى نستطيع أن نفهم خيوط الارتباط بين المشروع الإمبراطوري الأمريكي والغزو الأمريكي للعراق واحتلاله والتدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية للدول العربية . فقد جرى التعبير عن ذلك في عدد من المشروعات الأمريكية التي جاءت لتؤكد أن الاحتلال الأمريكي للعراق مجرد بداية لربط القيم الأمريكية والأمن القومي الأمريكي بقضية التغيير في العراق والخليج ومجمل الدول العربية من ناحية، وربط هذا التغيير بمستقبل الصراع العربي - “الإسرائيلي" من ناحية أخرى، وجاء مشروع الشرق الأوسط الكبير ومن بعده مشروع الشرق الأوسط الجديد ليعبر عن هذه الروابط الخطيرة، وليكشف مدى العلاقة الممتدة بين المشروع الإمبراطوري الأمريكي الراهن والمشاريع الاستعمارية الغربية والصهيونية الخاصة بالشرق الأوسط على مدى ما يقرب من قرن ونصف القرن .
فمشروع “الشرق الأوسط الكبير" كان التعبير السياسي المرافق للغزو وللاحتلال الأمريكي للعراق، باعتبار أن هذا المشروع وهذه الحرب سوف يؤسسان معاً لفرض الإمبراطورية الأمريكية . ويكمن الغرض من توسيع هذا المشروع الإمبراطوري لإقليم الشرق الأوسط ليمتد إلى وسط آسيا في حرص واشنطن على فرض سيطرتها الكاملة على أهم منابع النفط في العالم وفقاً لتطلعات تيار المحافظين الجدد الذي يرى أن هذه السيطرة ضرورية لبناء النظام الإمبراطوري الأمريكي .

فقد سعت “إسرائيل" إلى إعادة مشروع الشرق الأوسط إلى أصوله الإمبراطورية من ناحية، أي ربطه بالمصالح العالمية الأمريكية، كما سعت إلى تحويله إلى شراكة أمريكية - “إسرائيلية" من خلال اجتماع واشنطن الذي عقد في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر/كانون الأول 2004 بين مستشاري شارون ورؤساء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية “الإسرائيلية" وعدد من كبار خبراء ومستشاري الأمن القومي والاستخبارات الأمريكية . كان هدف هذا الاجتماع هو البحث في الخطوات التنفيذية لتطبيق خطة الشرق الأوسط الكبير في أسرع وقت ممكن من خلال مناقشة مذكرتين أعدتا لهذا الغرض، الأولى أمريكية أعدها وليم تومسون رئيس فريق العمل الأمريكي، والثانية “إسرائيلية" أعدها دانيال ليرانو حام أحد مستشاري رئيس الوزراء “الإسرائيلي" السابق آرييل شارون المقربين والتي حملت اسم “الهندسة السياسية لخريطة الشرق الأوسط في السنوات الثلاث القادمة" .

أحد أهداف هذه “الهندسة السياسية" لخريطة الشرق الأوسط كان إعادة توجيه مسار العلاقات العربية باتجاه ربطها ب"إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية ضمن إطار العلاقات الثنائية وعلى حساب العلاقات العربية - العربية والاتفاقيات الثنائية والجماعية للتعاون الاقتصادي والأمني، وقد استطاعت “إسرائيل" أن تنحرف بالمشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير أو الموسع مستغلة فشل المشروع الأمريكي في العراق، سواء على مستوى فرض الاستقرار والأمن للحكومة العراقية الموالية وتثبيت النفوذ الأمريكي بالعراق أو على مستوى تحقيق الديمقراطية بإقامة عراق جديد ديمقراطي يكون نموذجاً للنظم التي يجب أن تقوم في المنطقة وفقاً لمشروع الشرق الأوسط الكبير حسب وعود الرئيس الأمريكي جورج بوش .
انهيار الحلم الإمبراطوري
أدى الانتصار المعنوي الذي حققته الولايات المتحدة في الحرب الباردة في بداية التسعينيات إلى بروز ادعاءات مفادها أن الإنسانية بلغت “نهاية التاريخ" وأن واشنطن ستنعم بسيادة وسؤدد يدومان إلى الأبد . ولذلك كان طبيعياً، ضمن هذا الاعتقاد، أن تصف وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت الولايات المتحدة بأنها “دولة لا نظير لها ولا غنى عنها"، ولذلك كان حلم “القوة العظمى الأحادية" هو المسيطر على العقل الاستراتيجي الأمريكي مع دخول العالم إلى الألفية الثالثة وبداية القرن الحادي والعشرين، فهي (الولايات المتحدة)، رغم أن أن تعداد سكانها لم يتجاوز 5% فقط من إجمالي سكان العالم في ذلك الوقت، فإنها كانت تنتج بمفردها ربع الناتج الإجمالي العالمي، وكان لديها 250 ألف جندي منتشرين حول العالم في أكبر من 700 قاعدة عسكرية موزعة على 130 دولة . كانت تلك السنوات هي قمة ما يعرف ب “الياكس أمريكانا" أو “أوج القوة الأمريكية" .

هذه القوة الأمريكية امتدت لتعرض النفوذ الأمريكي عالمياً، ومنه أخذ كل ما هو أمريكي يتحول إلى عالمي، حتى العولمة بدأت تروج لأيديولوجية حملت اسم “أيديولوجية العولمة" كانت أمريكية، وبرز اقتصاد السوق والنظام الرأسمالي والنظام الديمقراطي الأمريكي كمعالم للتقدم، وبات على كل من يريد أن يلحق ب “قطار العولمة" أو “قطار التقدم" أن يلحق ب “القطار الأمريكي" وأن “يكيف هياكله الاقتصادية ويعدل نظمه السياسية لتتواءم مع الصيحة الأمريكية العالمية" .

وإذا كانت السنوات الأخيرة التي سبقت دخول العالم إلى القرن الحادي والعشرين قد شهدت بعض محاولات التمرد على الزعامة الأمريكية من جانب أوروبا واليابان وروسيا فإن تفجيرات11 سبتمبر 2001 فرضت على هذه الأطراف الدولية المتمردة وفي كل إدارة جورج بوش (الابن) أن تخضع ثانية للهيمنة الأمريكية، وكانت أوروبا هي أبرز من اضطر للخضوع لسطوة هذه الهيمنة بالتراجع عن طموحها لتأسيس هوية أمنية أوروبية مستقلة والتوقف عن التمرد على انخراطها في حلف شمال الأطلسي .

فقد كان لحلف شمال الأطلسي (الناتو) دور مركزي بالنسبة لدول أوروبا الغربية طيلة سنوات الحرب الباردة، وكان هذا الدور، أو بالأحرى، الأدوار التي قام بها الحلف في أوروبا وخاصة هدف تحقيق الأمن والاستقرار في أوروبا الغربية بعد سنوات الدمار والمعاناة التي عاشتها خلال الحرب العالمية الثانية، محكومة بمجموعة من الأهداف، كان أبرزها بالطبع تأمين الدفاع الشامل عن أوروبا الغربية ضد أي اجتياح سوفييتي، وإيقاف طموحات الاتحاد السوفييتي وتطلعاته بنقل الفكر الشيوعي بالقوة العسكرية عن طريق أداته العسكرية (حلف وارسو) إلى أوروبا الغربية . وكان تنافس قطبين عالميين خلال الحرب الباردة قد سمح للناتو بأن يقوم بهذين الدورين كل على حدة . لكن مع سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي أخذ الكثيرون يتشككون في الأساس المنطقي للناتو، وهل هناك ضرورة لبقائه واستمراره مع انتفاء مصدر التهديد الذي تأسس الحلف من أجله أم لا؟

وظهرت أسئلة أخرى كثيرة خاصة في أوروبا تتحدث عن مسألة مدى منطقية وضرورة تأسيس هوية أمنية أوروبية مستقلة عن الشطر الأطلسي من الحلف، وهل في مقدور أوروبا أن تستقل أمنياً عن الولايات المتحدة أم لا؟ وما هي الأهداف الجديدة التي يمكن أن تجمع أوروبا مع الولايات المتحدة وتبرر استمرار العمل ضمن إطار الحلف؟ وهل الأجدى لأوروبا إشغال نفسها بالبحث عن أهداف تبرر استمرار انخراطها في أمن مشترك مع الأمريكيين، أم أن الأجدى هو تأسيس أمن أوروبي مستقل يكون رديفاً لطموحات أوروبية بأن تكون أوروبا الموحدة سياسياً واقتصادياً قادرة على تأسيس قطب عالمي قادر على المنافسة القوية على الزعامة الدولية في نظام عالمي جديد بديل لعالم الثنائية القطبية، بدلاً من أن تخضع لسيطرة قطب عالمي واحد، حتى لو كان هذا القطب هو الصديق الأمريكي؟
هذه الأسئلة شغلت الفكر الاستراتيجي الأوروبي لسنوات محدودة قبل أن تقع أحداث التفجيرات الأمريكية عام 2001 التي دفعت الولايات المتحدة لإعلان الحرب على الإرهاب، حيث بدأ البعض يتحدث عن “الإرهاب الإسلامي" الذي تحول إلى “عدو بديل" للعدو الشيوعي السابق، ولكنه عدو قادر على تهديد أوروبا والولايات المتحدة، ليس فقط من داخل الأراضي الأوروبية بل ومن خارجها أيضاً .
كوابيس العراق وأفغانستان
يبدو أن الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما لم يكن يدرك حجم الكارثة التي ورثها من سلفه جورج بوش (الابن)، سواء في أزمات الداخل الأمريكي أو أزمات الخارج
المتلاحقة، أو سواء في الشرق الأوسط مع تعثر عملية السلام أو في العراق الذي لم يعرف الهدوء والاستقرار منذ احتلاله وتدميره من جانب الأمريكيين، أو في أفغانستان التي تحولت إلى “فيتنام القرن الحادي والعشرين" للولايات المتحدة، أو مواجهته مخاطر الانتشار النووي خاصة من جانب كوريا الشمالية أو إيران، ناهيك عن إدارة التنافس مع القوى الدولية الجديدة خاصة الصين والهند وروسيا، على نحو ما عبرت عنه الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس أوباما لأربع دول آسيوية في شهر أكتوبر/ تشرين أول 2010 (الهند واندونيسيا واليابان وكوريا الجنوبية) .

فمنذ عودة الرئيس الأمريكي باراك أوباما من زيارته إلى الصين في منتصف نوفمبر 2009 والإدارة الأمريكية، وما يحيط بها من مؤسسات سياسية وفكرية يسودها ما يمكن تسميته ب “ارتباك الإدراك" نحو الصين، خصوصاً أن هذا الارتباك الأمريكي تجاه الصين جاء مزدوجاً، فهو ارتباك في إدارك القوة الحقيقية للصين، وحدود تلك القوة ومصادرها من ناحية، ومن ناحية أخرى ارتباك في إدراك السياسات الأمريكية الأفضل للتعامل مع الصين بما يحقق للولايات المتحدة أقصى فائدة ممكنة وأدنى خسائر محتملة .
أحد أبرز معالم هذا الارتباك ذلك الاشتباك الأمريكي مع الصين الذي كان يمكن تجنبه بسهولة بالعزوف عن الوقوع في إغراءاته، على النحو الذي حدث جراء إقدام واشنطن على عقد صفقة أسلحة كبرى مع تايوان، رغم إدراكها أن تايوان خط أحمر صيني، وعلى نحو استقبال واشنطن لزعيم التبت الدلاي لاما في البيت الأبيض، وهو خط أحمر صيني آخر، وبالذات في الظروف الجديدة الخاصة بالنهوض الصيني كقوة عالمية كبرى، قادرة على أن تمنع الغير من التدخل في شؤونها الداخلية .
هذا الاشتباك الأمريكي الذي يبدو مفتعلاً ومرغوباً فيه بدافع الاحتكاك بالصين، يختلف كثيراً عن الخلاصة التي توصلت إليها مجلة “تايم" الأمريكية بخصوص زيارة أوباما إلى الصين، وهي الزيارة التي وإن لم يفلح خلالها الرئيس أوباما في استمالة الصين نحو التعاون في ملفين رئيسين يخيفان، أو يقلقان واشنطن، وهما ملف سعر العملة الصينية والملف النووي الإيراني، فإنها نجحت في أن يخرج أوباما منها بثلاث “عبر"، سرعان ما نسيها الرئيس الأمريكي عقب عودته من بكين .

العبرة الأولى: وتتلخص في أن نجم الصين قد بزغ أو على الأقل في حالة بزوغ، في حين أن النجم الأمريكي قد أفل، أو على أفضل الأحوال، في حالة أفول . تكفي مقارنة الميزان التجاري بين البلدين، ومعدلات النمو للتدليل على ذلك، فالولايات المتحدة مدينة للصين بثمانمئة مليار دولار، ومعدل نمو الاقتصاد الصيني يتراوح بين 7 و8%، في حين أن معدل نمو الاقتصاد الأمريكي يتراوح بين 2 و3% فقط .

العبرة الثانية: هي أن الصين، رغم ما تمتلكه من مصادر للقوة لا تريد أن تقود العالم، أو هي عازفة عن هذه المهمة، ربما من استيعاب قوي لدروس التجربة السوفيتية، وحرصها على تجنب ثمن المنافسة على الزعامة، أو لأسباب أخرى صينية بحتة، لكنها في الوقت نفسه لديها من المصالح ما يختلف مع المصالح الأمريكية . أحد الأمثلة البارزة لذلك هو الخلاف الصيني -الأمريكي حول إدارة أزمة الملف النووي الإيراني، فالصين ترفض عقوبات تؤثر في الاستقرار السياسي الداخلي في إيران، وترفض، على الإطلاق، الخيار العسكري الذي يسعى البعض إلى الترويج له، أو فرضه على نحو ما يلهث “الإسرائيليون" . فالاستثمارات الصينية الضخمة في إيران واعتمادها الكبير على إيران في الحصول على نسبة هائلة من حاجاتها من الطاقة (النفط والغاز) تجبر الصين على رفض أي إجراء يحدث أضراراً بهذه المصالح، خصوصاً أنها تدرك أن البرنامج النووي الإيراني لا يمثل خطراً وشيكاً . وقدمت المجلة قراءة على لسان الرئيس أوباما للموقف الصيني من أزمة الملف النووي الإيراني، تقول: “إدارة العالم من شأنكم، فنحن نصب تركيزنا على إدارة بلادنا، وعلى ضمان الأمن في الدول المجاورة، ونحن نرغب في انسجام العلاقات معكم، ولكن لا تتوقعوا أن نقوم بشيء يلحق الضرر بمصالحنا الوطنية" .
العبرة الثالثة: هي أن الكيمياء الشخصية ليس في مقدورها أن تغير العالم، أو تحل الأزمات، فالمراهنة على أن يحقق الرئيس أوباما بإطلالته الطيبة، تحولاً في مفاهيم وإدراكات القيادة الصينية كانت فاشلة، خصوصاً أن القيادة في الصين ليست قيادة فردية مركزة في الرئيس الصيني، ولكنها موزعة على المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني أو لجنته الدائمة التي تسمى اللجنة الدائمة للمكتب السياسي، والتي يبلغ عدد أعضائها تسعة أعضاء .
انفجارات 2001 وصدمة جورج بوش

الآمال والطموحات تحطمت بدرجة كبيرة على صخرة إدارة جورج بوش (الابن) وفريقه من المحافظين الجدد، ابتداء من تفجيرات نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001 أي بعد ثمانية أشهر فقط من تولى هذه الإدارة مسؤولياتها الدستورية . فقد انطلقت هذه الإدارة وتحت مزاعم تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول تلك إلى شن حرب كونية ضد ما أسمته ب “الإرهاب الإسلامي" أو “الإرهاب" وضد ما أسمته “الدول الفاشلة" وكانت تعني دولاً عربية بعينها اتهمتها بمسؤولية “تفريخ الإرهاب" الذي قام بتفجيرات 11 سبتمبر وبالتحديد “تنظيم القاعدة" .
هذه الحرب ضد ما سمي ب “الدول الفاشلة" تحولت إلى أداة وذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية وإجبارها على الانخراط في الحرب على الإرهاب، تحت وهم “التحول إلى الحكم الديمقراطي"، لكن التوسع في الحرب على الإرهاب شهد تطورين مهمين: أولهما، اعتناق الإدارة الأمريكية استراتيجية جديدة هي استراتيجية “الضربات الاستباقية" التي ومن خلالها أضحى متاحاً لواشنطن أن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول تحت زعم التصدي لتهديدات متوقعة أو حتى محتملة . وثانيهما، التوسع في مفهوم “الإرهاب" ليضم كل الدول والقوى غير المنخرطة في الحرب التي أرادتها واشنطن عالمية تحت شعار جورج بوش إما مع الولايات المتحدة وإما ضدها، وأصبح من هم ضدها “إرهابيين" أو على أقل تقدير “داعمين للإرهاب"، وأخذوا مسمى “محور الشر" الذي توسع ليضم العراق وإيران وسوريا والسودان وليبيا وكوريا الشمالية ومنظمات المقاومة العربية، خاصة حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين .
هذان التطوران تحولا في ظل الالتزام الأمريكي بالحرب على الإرهاب وعلى “الدول الفاشلة" إلى إشاعة حالة من الفوضى العالمية هددت الاستقرار في الشرق الأوسط على وجه الخصوص، بعد غزو الأمريكيين لأفغانستان عام 2002 تحت دعوى إسقاط حكم “حركة طالبان"، وهزيمة “تنظيم القاعدة" وتدميره، ثم غزو العراق عام 2003 تحت راية تأسيس الشرق الأوسط الكبير باعتباره مدخل واشنطن لفرض إمبراطوريتها على العالم .

تراجع أمريكي ملحوظ في مسألة فرض التغيير الديمقراطي من الخارج
إذا كان المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير قد شهد بعض المراجعات نتيجة وجهات نظر أوروبية وعربية مختلفة، وبالذات بالنسبة لموضوع فرض التغيير الديمقراطي، وهذه المراجعات ظهرت فيما بعد في مؤتمر “سي آيلاند" بولاية جورجيا الأمريكية التي شهدت تأسيس شراكة أمريكية - أوروبية بحضور الدول الأخرى أعضاء مجموعة الثماني (روسيا واليابان وكندا) أخذت اسم “الشراكة من أجل التقدم والمستقبل المشترك مع الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا" الذي أقر آلية “منتدى المستقبل" الذي عقد دورته الأولى في العاصمة المغربية الرباط (10-11/12/2004) وشهد تراجعاً أمريكياً ملحوظاً في مسألة فرض التغيير الديمقراطي من الخارج، فإن الدور “الإسرائيلي" عمل في الاتجاه المضاد لهذه الشراكة الأمريكية مع مجموعة الثماني والدول العربية التي حضرت الدورة الأولى ل “منتدى المستقبل" الذي لم تحضره “إسرائيل" .
أوباما وصل إلى البيت الأبيض على أمل تحقيق التغيير
اقترنت الحرب على الإرهاب بالحرب دفاعاً عن المصالح والثروات وخاصة في إقليم الشرق الأوسط، الذي بلورت الولايات المتحدة مفهوماً جديداً له هو الشرق الأوسط الكبير الذي تطور لاحقاً بمشاركة أوروبية إلى الشرق الأوسط الموسع وفي القلب منه إقليم الخليج .
هكذا أصبح للشريكين الأوروبي والأمريكي أهداف وطموحات جديدة لا تفرض فقط البقاء الأوروبي ضمن الناتو بل وتدعيمه وتطوير أهدافه ومؤسساته وأدواته، فقد طور الحلف دوره الدفاعي وأعاد تنظيمه بناءً على المستجدات السياسية والأمنية التي حدثت في البلقان وبعض دول أوروبا الشرقية، وذلك لاحتواء النزاعات العرقية والإقليمية على الساحة الأوروبية خوفاً من أي توسع دراماتيكي لأخطار تلك النزاعات التي باتت تشكل تهديداً جديداً للأمن الأوروبي - الأطلسي على حد سواء .
ومن هذا المنطلق كان تورط الحلف مع الولايات المتحدة في الحرب على أفغانستان، لكنه واجه انقساماً حقيقياً من جانب فرنسا وألمانيا بصفة خاصة للمشاركة في الحرب على العراق، ولم يكن التمرد فرنسياً وألمانياً فقط بل كان تركياً أيضاً، حيث رفضت تركيا دخول القوات الأمريكية إلى العراق من أراضيها، هذه النجاحات الأمريكية المشار إليها تحولت إلى “كوابيس" أفزعت الأمريكيين من حلمهم . فإدراك تفوق القوة أغرى الأمريكيين بالتورط في حربين في وقت واحد “أفغانستان" و"العراق"، ومن ثم كان استنزاف القوة الأمريكية في هاتين الحربين اللتين اقترنتا بصعود ملحوظ لقوى دولية منافسة خاصة الصين والهند، إضافة إلى النمور الآسيوية والعودة الروسية مؤشرات ل “السقوط الأمريكي" المدوي الذي امتدت أصداؤه عالمياً، لكن الصدى الأقوى كان في الداخل الأمريكي مع تفجر الأزمة المالية الأمريكية التي تحولت بسبب تشابك
الاقتصادات إلى أزمة عالمية.

لقد تضافرت عوامل كثيرة لتقود إلى سقوط الحلم الأمريكي، كان أبرزها الصراعات الحادة المتصاعدة حول الموارد الطبيعية خاصة النفط والغاز والاستنزاف الأمريكي الهائل في حربي أفغانستان والعراق، مع حرص إدارة بوش على المضي في سياسة تخفيض الضرائب ما تسبب في إلحاق دمار بالاقتصاد الأمريكي، وكانت النتيجة هي تداعي القدرات الأمريكية أمام المنافسين الجدد وعلى الأخص الصين والهند وروسيا، واقتناع الأمريكيين بأن التغيير هو الحل، ومن هنا جاء فوز باراك أوباما في انتخابات نوفمبر 2008 كأول رئيس أمريكي أسود إعلاناً برغبة أمريكية جديدة في التغيير، وكانت دعوة الانسحاب من العراق في مقدمة أجندة هذا التغيير الذي تحمس له باراك أوباما ودعا له . رغم ذلك فإنه بعد مرور عامين من حكم أوباما لم يحدث التغيير المطلوب .
تعمد استفزاز “التنين"
مجموعة من العبر كانت تفرض على الإدارة القيام بمراجعة دقيقة للتوجه الأمريكي نحو الصين، ولكن السياسات الأمريكية جاءت معاكسة، سواء من خلال التهديدات المباشرة التي جاءت على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية للصين بفرض مقاطعة دبلوماسية لها إذا تحدت ما أسمته ب “إرادة المجتمع الدولي" ورفضت القبول بفرض عقوبات موجعة ضد إيران، أو بالإعلان عن صفقة الأسلحة المتطورة والضخمة مع تايوان، واستقبال زعيم التبت الدلاي لاما، وكلها ممارسات تقول إن واشنطن تريد الاحتكاك بالصين واستفزازها، في حين أن المصالح الأمريكية لا تقول ذلك على نحو ما يؤكد الكاتب الأمريكي مارتن جاكوس مؤلف كتاب “عندما تحكم الصين العالم" في مقال مهم نشره في صحيفة “كريستيان ساينس مونيتور" .
الخليج - د . محمد السعيد ادريس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.