يتقاسم سكان العاصمة اليمنية صنعاء حالة عامة من التشاؤم وعدم الارتياح حيال كل ما يعتمل على واجهة مشهد الأزمة السياسية القائمة من تطورات، تتجه إلى ترجيح حالة من التصادم بين المناوئين للنظام الحاكم وبين أنصاره والقوات الموالية لهرم السلطة الجريح والغائب . صنعاء فقدت لدى الكثيرين قدراتها المقنعة على الاحتفاظ بحالة محايدة من السكينة والسلم الاجتماعي بعيداً عن عنفوان وصخب التفاعلات المحتدمة في محيطها القبلي والديموغرافي، لتتحول إلى مدينة غير آمنة تحيطها احتمالات الانهيار تحت وطأة زلزال الاقتتال الداخلي الوشيك . مشاهد التصاعد اللافت للمظاهر المسلحة في كل أنحاء المدينة والإفرازات الداكنة لخارطة الانقسام الطارئة في المواقف والتوجهات بين أبناء الجلدة الواحدة، جعلت شوارع وأحياء العاصمة أشبه بساحات تهيمن عليها سطوة العسكر ومناظر قاتمة من التأهب المسلح المثير للقلق . أرتال الدبابات والسيارات المصفحة وناقلات الجند وصور المجاميع القبلية المسلحة ومظاهر التحفز المريب لمواجهات مؤجلة، أغرقت صنعاء في تفاصيل يومية ومغايرة توارت فيها مشاهد أكثر وداً لأطفال يتقاذفون الكرة في ساحة ترابية في أحد الأحياء المتقدمة بحي الحصبة، وطالبات مدارس يعبرن مفرق جولة “الميزان" بمساعدة شرطي المرور المسن العم “سالم" الذي يعد الشخصية العسكرية الأكثر حضوراً ووداً في مخيلة طلاب وطالبات المدارس الأساسية الكائنة في محيط الجزء الشمالي من شارع الدائري، اختفى “العم سالم" بشكل قسري من الشارع بعد أن تحول موقعه التقليدي تحت المظلة الأسمنتية التي تتوسط الشارع إلى موقع تمركز ثابت لعناصر دورية عسكرية تابعة لقوات الفرقة الأولى مدرع المنشقة . التجوال في “الحصبة" أكبر أحياء العاصمة أو ما تبقى منه في ظروف كالتي تمر بها في الوقت الراهن المدينة، يمثل مناسبة لاستشعار فداحة ما يمكن أن تقترفه الحرب وأطرافها من فظائع . بائع الفل “سعيد حزام"، الشاب التهامي الذي اعتاد ومنذ سنوات الوقوف على ناصية الرصيف المحاذي لمبنى الغرفة الصناعية والتجارية ليوزع ابتساماته الطيبة وعقود الفل الندي على المارة والفتيات بأسعار منافسة، لم يعد قادراً على الوقوف أو استعادة ناصيته بعد أن أصيب برصاصتين في فخذه الأيمن في مستهل الساعة الأولى من أيام المواجهات الأخيرة أطلقها عليه مسلح قبلي . فيما تكفل آخرون من أتباع الشيخ الأحمر باحتلال موقعه والاستحواذ على صندوق الثلج الذي اعتاد أن يضع فيه بضاعته الطازجة من عقود الفل . ذات الشاب التهامي، الذي زارته “الخليج" في حانوت بائس يقطنه في أحد الأحياء الخلفية بحي الحصبة حيث يرقد مصاباً منذ أسابيع، بدا متأثراً بحالة من الحزن العميق المشوب بالحنق ليس على ما لحقه من إصابات مؤثرة، ولكن على فقده لصندوق الثلج وعقود الفل الندي، ليعبر بعفوية وبلهجته التهامية عما يعتمل داخله من مشاعر بالقول: “إن المواجهات التي اندلعت في الحي قد ألحقت به إصابة أقعدته وجعلته غير قادر على الحركة"، وتساءل: “لماذا أخذوا ما لديه من فل وصندوق يضعه فيه مليء بالثلج"، وقال: “اليوم ليس معي فل ولا أرجل"، في إشارة إلى إصابته البليغة في رجله . أما حديقة الثورة، المتنفس الوحيد لأهالي حي الحصبة والأحياء المجاورة بالعاصمة والتي تحتل مساحة شاسعة تمتد إلى محيط ثلاثة شوارع رئيسة، فقد أغلقت أبوابها أمام استقبال مجاميع الأطفال والعائلات التي كانت ترتادها بشكل يومي لقضاء أوقات غير مكلفة من الترويح المتاح، لتستقبل قبل يومين نوعاً آخر من الزائرين الجدد الذين وفدوا على متن سيارات مكشوفة بعضها يحمل “لوحات عسكرية" لينتشروا بأسلحتهم في أنحاء متفرقة من الحديقة التي تحولت إلى ما يشبه “الثكنة العسكرية" لرجال القبائل المسلحين ومجاميع محدودة من العسكر المتوزعين في مواقع متقدمة باتجاه بوابة وزارة الداخلية على الشارع المقابل لسور الحديقة الغربي .