على غفلة من معارضيه نسج الرئيس علي عبدالله صالح خيوط سيناريو توريث السلطة في اليمن مستنداً إلى سيطرته شبه الكلية على القوات المسلحة والأمن بعد حرب صيف 1994 وسيطرة المؤتمر الشعبي العام على مقاليد السلطة منذ عام 1997. وإذ لا يعلم متى فكر صالح جدياً في توريث السلطة، فمن المعروف أن نجله أحمد ظهر للحياة السياسية عام 1997 كعضو في مجلس النواب عن الدائرة 11 بأمانة العاصمة. حينها كان الحديث عن توريث السلطة خافتاً ومقتصراً على النخبة السياسية وبالذات المقربة من الرئيس، ولم يتسرب منه شيء إلى وسائل الإعلام. وفيما يبدو فإن بطانة الرئيس ومستشاريه زينوا للرئيس الدفع بأنجاله وأقاربه إلى المشهد السياسي، بعد أن أوهموه أنه القائد الفذ الذي وحد اليمن وأحكم سيطرته على القبائل والأحزاب في سابقة قلما تكررت في تاريخ اليمن. لكن قبل أن يغدو التوريث محل تداول وسائل الإعلام سعى الرئيس صالح إلى تثبيت ملكه من خلال هندسة العملية الديمقراطية بحيث تصب نتائج الانتخابات في صالح طبقة سياسية ألفت الرئيس وألفها منذ ما قبل الوحدة اليمنية، وجرى احتواء معظم أفرادها في المؤتمر الشعبي العام. بعد حرب 1994 وإقصاء الحزب الاشتراكي اليمني من السلطة وتعميد الوحدة بين الشمال والجنوب بقوة الضم والإلحاق، تخلص صالح من خصم سياسي شكل تحدياً حقيقياً لنظامه ولمشروع التفرد بالسلطة و من ثم توريثها، لكنه لم يكتف بذلك، إذ سارع أيضاً إلى إقصاء التجمع اليمني للإصلاح شريكه في السلطة والحرب، وكان المبرر هذه المرة أن اليمن منذ قيام الوحدة حكمت بائتلافات حزبية لم تساعد على انسجام السلطة واستقرارها. هكذا قفزت إلى السطح فكرة " الأغلبية المريحة " التي هندسها مستشار الرئيس الدكتور عبد الكريم الإرياني وتحققت فعلياً في الانتخابات النيابية 1997، التي فاز فيها المؤتمر الشعبي بما يقارب ثلثي مقاعد مجلس النواب. غير أن صالح لم يقتنع – وهو الرجل العسكري- بإمكانية توريث السلطة في اليمن لشخصية مدنية لا علاقة لها بالمؤسسة العسكرية. ومن هنا ظهر أحمد فجأة في احتفال تخرج من كلية عسكرية بالمملكة الأردنية، ليكلف بعد عودته بقيادة الحرس الجمهوري. أدرك القادة العسكريين المخضرمين، وجلهم من أبناء قبيلة الرئيس / سنحان أن صالح لم يعد يثق في الاعتماد عليهم، وأن ترفيع رتبة نجله في الجيش توحي أن خطوات التوريث دخلت مرحلة عملية، ساعد عليها فيما يبدو المتغيرات التي جرت في سوريا عام 2000 عندما تولى بشار الأسد السلطة خلفاً لوالده، وما راج حينها من حديث عن الجملكيات العربية في العراق ومصر وليبيا واليمن. في الإطار ذاته تعرض عدد من القيادات العسكرية المقربة من الرئيس لحادثة مروعة أودت بحياتهم، ما عزز القول أن الرئيس يعمل على تثبيت قوة نجله أحمد في الجيش على حساب الحرس القديم. أردف الرئيس خطوة تولية أحمد الحرس الجمهوري بإجراءات أخرى غدا الأمن المركزي بموجبها تحت قيادة يحيى محمد عبدالله صالح نجل شقيق الرئيس، بينما تولى طارق محمد عبدالله صالح قيادة الحرس الخاص، وأسندت إلى عمار محمد عبدالله صالح مهمة إدارة الأمن القومي، بينما حافظ محمد صالح الأحمر على منصبه في قيادة القوات الجوية. وإذ استكمل صالح سيناريو التوريث من خلال المؤسسة العسكرية، فقد عمد إلى تمييع الحياة السياسية وتحويل الديمقراطية الوليدة في اليمن إلى ديكور هش لا يقوى على مجابهة التحديات، وفي إطار الهامش الديمقراطي جرت عدة انتخابات نيابية ومحلية ورئاسية، أفضت جميعها إلى تعزيز سلطة صالح وخنق معارضيه السياسيين في الزوايا الضيقة. تحديان لتمرير مشروع التوريث، كان على صالح أن يطمئن إلى القوى الإقليمية والدولية وانتزاع مباركتها لنظامه و لعائلته الحاكمة، وقد تمكن من ذلك بالفعل عندما أجرى صفقة مشبوهة مع الجارة السعودية، تنازلت اليمن بموجبها عن حقوقها التاريخية في أراض انتزعتها المملكة من اليمن بقوة السلاح منذ عقود، وكان لافتاً أن الصفقة لم يتبعها أي تحسن في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، ما عزز التكهنات التي ذهبت إلى القول أن اتفاقية ترسيم الحدود كانت مقابل دعم الأسرة الحاكمة في السعودية لأسرة صالح وضمان توريث السلطة في اليمن. و مؤخراً وفي إطار التعاون اللا محدود الذي قدمه صالح لواشنطن في حربها على ما يسمى بالإرهاب، بات بالإمكان القول أن البيت الأبيض لا يمانع من توريث السلطة، ما دام الخلف ملتزم بسياسة السلف. إلا أن مشروع التوريث اصطدم بتحديين رئيسين أحدهما في المسرح السياسي، والآخر في المسرح العسكري، فمنذ 2001 تقاربت قوى المعارضة الإسلامية واليسارية والقومية، وشكلت تكتلاً معارضاً باسم اللقاء المشترك، في جبهة وطنية غير مألوفة عربياً. ورغم إن نجاحات المشترك لم تقطع الخط تماماً على سيناريو التوريث إلا أن صحافة المعارضة عملت على كشف خفايا مشروع الأسرة الحاكمة، التي عملت بدأب على مقايضة توريث هرم السلطة بتوريث الوظيفة العامة، إذ جرى استيعاب أبناء المشائخ وأبناء الوزراء وأبنا أعضاء مجلس النواب و تمكينهم من مناصب سياسية تصب في مصلحة تعزيز النظام و تقوية نفوذ نجل رئيس البلاد. وإلى جانب التناول الإعلامي لمشروع التوريث دخلت المعارضة اليمنية في تنافس جاد مع الرئيس صالح في الانتخابات الرئاسية 2006 التي كان بطلها مرشح اللقاء المشترك المهندس فيصل بن شملان والذي وإن لم يفز بالمقعد الرئاسي إلا أن حجم ما حصل عليه من أصوات وفي ظل التزوير، كشف شعبية الرئيس المتدنية رغم الهالة التي نسجها الإعلام من حوله. لقد اكتشف صالح بعد هذه التجربة أن سيناريو التوريث لن يمر عبر صندوق الانتخاب، فعمل وحزبه من حينها على تعطيل الحياة الديمقراطية وتأزيم الحياة السياسية، وصولاً إلى تأجيل انتخابات 2009 النيابية لمدة عامين، و الهروب من الحوار مع اللقاء المشترك إلى افتعال حروب و مواجهات في صعدة وفي الجنوب. التحدي الثاني، يتعلق بشخصية عسكرية كانت بمثابة الذراع الأيمن للرئيس صالح منذ توليه السلطة عام 1978، حيث كان اللواء علي محسن الأحمر بمثابة الرجل الثاني في السلطة، وبرغم أن الرجل كان بعيداً عن الأضواء إلا أن علاقاته المتشعبة بمشائخ القبائل وبالإخوان المسلمين، بالإضافة إلى مرتبته العسكرية كلها عوامل عززت من قوة الرجل وأضعفت في المقابل فرص القفز عليه. ولأن حرب صعدة 2004 قد اندلعت بعيد حملة إعلامية لصحف المعارضة ضد التوريث، فقد قيل أن الرئيس صالح وجد في الحرب فرصة للتخلص من قوة علي محسن ليخلو المسرح أمام نجل الرئيس، وقد سربت وثائق ويكليكس ما يؤكد أن صالح دبر بالفعل محاولة إغتيال فاشلة لصديقه القديم. بيد أن حديث التوتر بين الرجلين ظل متضارباً، حيث لم يبدر من علي محسن ما يوحي بخصومة مع الرئيس إلى أن قامت ثورة الشباب في فبراير 2011، وهي الفرصة التي اغتنمها اللواء محسن لكي ينشق على صالح ونجله ويقلب عليهما طاولة التوريث. اسلام تايمز