سنان بيرق في دهاليز العدالة اليمنية، حيث تُختلط النصوص الجافة بنداءات الضَّمير الإنساني، هناك صرخة حارقة لا تهدأ: أين كرامة الإنسان وسط جداول الدّيات وأرقام القوانين؟ إنَّ الأرواح التي تُزهق لا تُقاس بملايين الرّيالات ولا بأرصدة الذهب، بل بنبض الإنسان الذي سكنها، وبالحلم الذي خفق فيها. فإذا كانت العدالة الحقَّة هي ميزان الحياة، فلا بد أن تُحرَّر من قيود الأرقام ومن ظلال قوانين عفا عليها الزمن. حين نتأمَّل بعيون الناقد، لا بعيون المُقلّد، في نصوص القانون اليمني، وتحديدًا المادة (40) من قانون الجرائم والعقوبات رقم (32) لعام 2006م، نجد دية القتل العمد وشبه العمد مُحدَّدة بخمسة ملايين وخمسمائة ألف ريال. وعلى الورق قد يبدو هذا المبلغ جدارًا صلبًا يحمي الحياة… ولكن، هل المال يستطيع أن يشتري الحياة؟ هل باستطاعة الرّيالات أن تُعيد ضحكة قُتلت، أو حلمًا سُحق تحت حذاء الجريمة؟ لا شيء يُعادل روح إنسان. ولا شيء يعوّض أمًّا مفجوعة، أو طُفلًا يتيمًا، أو حلمًا ضاع تحت السّكين. أما حين ننحدر إلى القتل الخطأ، حيث تتضاءل الدّية إلى مليون وستمائة ألف ريال، فهنا نلمس جرحًا آخر: وكأنَّ الدَّم، حين يُراق دون عمد، يُعد أرخص! وكأنَّ النَّدم والدّموع يُمكن أن يُخفّفان من ثقل التبعة! ولكنَّ الكارثة الأعظم… هي ما يخصّ دية المرأة! المادة (42/11) تنطق بما يعجز اللسان عن تصديقه: "ودية المرأة نصف دية الرجل." أين العدالة إذن؟ أين المساواة التي نادى بها الدَّهر بأسره؟ أيعقل أنَّ حياة امرأة تُحتسب بنصف حياة رجل؟ أيعقل أن ننحني أمام نص قديم، ونهين في ذات اللحظة إنسانيتنا الحديثة؟ ثم يزيد النص أنَّ أرش المرأة مثل أرش الرجل إلى ثلث الدية، ثم يُنصَّف بعدها… وكأنَّ أنوثتها تُصبح خصمًا في ميزان العدالة لا قيمة مضافة! إنَّ العمد، كما وصفته المادة (9)، هو نيّة قاتلة، وإرادة حارقة، وسهم مصوّب بعين مفتوحة نحو زهق الرُّوح. لا رحمة فيه ولا تأويل. ومن ثم كان القصاص هو الحكم العادل، الذي تُصفّق له قوانين السَّماء قبل الأرض. ولكن حين تسقط سطوة القصاص وتُستبدل بالدّية، فهل يُعقل أن تتفاوت الأرواح بحسب جنسها؟ وأمَّا الخطأ، كما وضَّحته المادة (10)، فهو السّقوط البشري المعتاد، الذي لا يخلو من ندم، لكن الخطأ يبقى خطأً، ودروسه يجب أن تُكتب بالدّموع لا بالأرقام. وفي النهاية، في زمن تصدح فيه الإنسانية بالمساواة، يُصبح من المعيب أن تبقى القوانين رهينة نظرة قديمة تزدري نصف المجتمع. روح المرأة لا تُساوي نصف روح الرجل. ولا الكرامة تُقسَّم إلى أجزاء. إنَّ العدالة اليوم، إن كانت جديرة باسمها، يجب أن تصرخ معنا: الإنسان إنسان… لا وزن له إلا بكرامته، ولا قيمة له إلا بحقّه المُطلق في الحياة.
أيها السَّادة، يا من تكتبون القوانين وتخطُّون مصائر البشر، لا تجعلوا أرواحنا مُجرَّد أرقام على صفحات باردة، بل اجعلوا من القانون قصيدة حبّ للحياة، وعهداً للعدالة، ورسالة للأجيال القادمة، بأنَّ الإنسان أغلى من المال، وأسمى من أي نص جامد. الرأي القانوني والنقدي : أيُّها الأحرار من أبناء العدالة، يا من تحملون في قلوبكم نبض الإنسانية، ها نحن اليوم أمام حقيقة مُرّة لا تحتمل التجميل: بعض القوانين التي صيغت يومًا تحت شعار العدالة، تحوَّلت مع مرور الزَّمن إلى قيود تخنق روح الإنسان بدل أن تطلقها نحو الحُرّية والكرامة ! إنَّ نصوص الدّية، كما وردت، لم تعد سوى بقايا زمنٍ غابر. كتابات جامدة على ورقٍ أصفر، لا تعرف حرارة الدَّم ولا صرخة الألم ولا دمعة اليتيم. القانون أيُّها السَّادة، ليس تاجرًا يُقايض الأرواح بأرقام ! القانون هو أنفاس الناس، هو وجعهم حين يُظلمون، وأملهم حين يطلبون الإنصاف. لهذا، نحن هنا، نعلنها عالية مُدوّية: كفانا قوانين تقيس دماء البشر بعدد الأوراق النقديّة ! كفانا نُصوصًا تُساوم على كرامة الإنسان، وتختزل آمال الشعوب في معادلات مالية باردة! أولاً: دية الرجل بين وهم العدل وحقيقة الإهانة خمسة ملايين ونصف ريال… هكذا تقول الأوراق! لكن أي ورقة، وأي حبر، وأي عقل، يستطيع أن يزن حياة إنسان بمالٍ مهما عظُم؟ هل الروح، تلك الأعجوبة الإلهية، تُساوي مالًا؟ هل حياة الأب الذي يسهر لأطفاله، أو الشاب الذي يحمل أحلام وطنه، يمكن أن تُقايض بذهب أو فضة؟ لا، وألف لا! إنَّنا حين نقف صامتين أمام هذه النُّصوص، نمنح القتلة تذكرة مفتوحة للعبث بأرواح الناس، ونُحوّل الحياة إلى صفقة خسيسة بين مُجرم وجيب عامر. فأين هي العدالة الرادعة؟ أين هي الهيبة التي يجب أن تُحيط بالحياة الإنسانية؟ لا جريمة تردع، ولا نفس تهاب، ولا عدل ينتصر! ثانيًا: دية المرأة… صفعةٌ لوجه العدالة أما دية المرأة، فهي جرح نازف في جبين القانون! نصف دية الرجل؟! أيُّ منطقٍ سقيم هذا؟ أيُّ عدلٍ أعوج يقيس روح الأم، الأخت، الزوجة، بنصف قيمة الرجل؟ أيعقل أن تكون المهر عند الزواج أضعاف ديتها عند الموت؟ أيّ سخرية سوداء هذه التي نعيشها؟ أيّ مهزلة أخلاقية تجعل الروح تُثمَّن على أساس جنسها؟ إنَّ تقليل قيمة دية المرأة ليس فقط ظُلمًا لها، بل إهانة للعدالة ذاتها، هو إعلان صريح أنَّ القانون، حين يغفو عن مبادئه، يصبح آلةً للقهر بدل أن يكون رايةً للحرية.
ثالثًا: في وجه القوانين المُتكلسة… صوت الإنسان يعلو اليوم، في زمن الكرامة، في عصر الحقوق والمساواة، نعلنها بكل وضوح: لا مكان بعد اليوم لقوانين تفرّق بين دم ودم ! لا قيمة لإنسان على حساب آخر! العدالة لا تُوزن بالذكورة أو الأنوثة، ولا تُقسَّم بين غني وفقير، ولا تُفضّل قويًّا على ضعيف. إنَّ كرامة الإنسان واحدة، لا تتجزأ، لا تنقص ولا تزيد. ومن يقبل بأن تكون روح المرأة أقل قيمة، فقد خان الإنسانية، وخان مبادئ العدالة الكبرى. نحن نُطالب بتعديل هذه القوانين اليوم، لا غدًا، نُطالب بها لأنَّنا نُؤمن أنَّ الإنسان أكبر من النَّصوص المُتحجّرة، وأعظم من قيود الزمن البائد. دعونا نكتب قانونًا جديدًا، قانونًا يحمل في أحشائه نبض الحياة، واحترام الإنسان، دعونا نُعيد للعدالة وجهها الحقيقي… لا نصفها! ففي مجتمع يحترم الإنسان كإنسان، تزدهر العدالة، وتنتصر الكرامة، وينهض المُستقبل من تحت رماد الماضي. الخاتمة والرؤية: أيُّها الأحرار في كل زمانٍ ومكان، أيُّها المُؤمنون بأنَّ الإنسان خُلِق مُكرَّمًا لا مُهانًا، إنَّ العدالة ليست ورقةً في دفتر القوانين، وليست مادةً محفوظةً في الأرفف الباردة، بل هي روحٌ نابضة، هي صرخة الحق في وجه الباطل، وهي اليد التي ترفع المظلوم لا التي تُثقل كاهله بالقيود. من هُنا، من قلبٍ لا يعرف إلا الإيمان بالإنسان، أناديكم: كفى بالقوانين أن تبيع دماءنا بثمنٍ بخس، كفى للكرامة أن تُساوم عليها كما تُساوم السلع الرَّخيصة في أسواق المصالح! إنَّ دم الإنسان لا يُقدّر بثمن، وإنَّ كرامته لا تُختزل برقمٍ أو تعويضٍ يُخطه قلم غافل. نريد قانونًا يليق بإنسانيَّتنا! نريد عدالةً تشرق شمسها على الجميع، لا قانونًا ينحني أمام ذوي النفوذ ويقسو على البسطاء! أيُّها القضاة، أيُّها المحامون، أيُّها المُشرّعون: أنتم أمناء على الأمل… أنتم حملة مشاعل العدالة في ليل هذا العالم الطويل، فلا تجعلوا أقلامكم خناجر تطعن أرواح البشر، ولا تحوّلوا نصوصكم إلى سلاسل تُكبّل المساواة. تذكَّروا دومًا أنَّ روح القانون أسمى من نَّصّه، وأنَّ نبض الإنسان أثمن من أي قاعدة صماء. لا حضارة تقوم على أنقاض العدل، ولا وطن يستقرّ إذا خان الكرامة.
إنَّنا نرفع اليوم نداءنا عاليًا: لن نبني مُستقبلنا على قوانين جامدة ماتت منذ زمن، بل سنخط بعرق الكرامة وبدم الإنسانية، قانونًا يحترم كلّ روح، ويُعلي من شأن الإنسان فوق كلّ اعتبار. وليعلم الجميع، أنَّ العدالة ليست ترفًا، وليست شعارًا سياسيًّا، بل هي روح الحياة، وهي الميزان الذي يحفظ للإنسان إنسانيَّته، ويحمي المجتمع من الانهيار. فلتكن خطوتنا القادمة خطوةً نحو قانونٍ لا يُفرّق بين غني وفقير، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين قويّ وضعيف، بل قانونٌ يرى الإنسان أولًا، ويرى فيه قلبًا نابضًا بالحياة، لا رقمًا في سجل، ولا قضيّةً تُقايض بثمن. سنظل نُنادي، وسنظل نكتب، وسنظل نحلم… حتى يأتي يومٌ تصحو فيه القوانين، وتصحو معه ضمائر البشر. وحينها… وحينها فقط، سنقول للعالم بأسره: هُنا قامت حضارة العدل، هُنا وُلد إنسان جديد! من حائط الكاتب على الفيسبوك