بلال عليان ابو الوفاق في مدينةٍ كانت تُلقّب يومًا ب"عاصمة الثقافة"، اغتيلت امرأةٌ كانت تحاول أن تُبقي وجه المدينة نظيفا، رغم كل ما تراكم عليه من غبار السياسة وأوساخ الفوضى. أكثر من عشرين رصاصة اخترقت جسد الأستاذة افتهان المشهري، مديرة صندوق النظافة والتحسين بمحافظة تعز، من مسافة صفر. لم يكن القتل مجرد فعلٍ إجرامي، بل كان إعلانا صريحا بأن القذارة انتصرت، ولو مؤقتا، على من يحاولون تنظيفها. افتهان لم تكن مجرد موظفة حكومية تؤدي مهامها اليومية، بل كانت امرأةً تحمل مشروعا، وتحلم بمدينةٍ تستحق أن تُحترم. أنهت مناقشة رسالة الماجستير في يونيو الماضي، وكانت تستعد لإطلاق مبادرات تطويرية في قطاع النظافة، واضعة نصب عينيها هدفا نبيلا: أن تكون تعز جديرة باسمها، مدينة نظيفة في الشكل والمضمون. لكن يبدو أن هذا الحلم كان أكبر من أن يُحتمل. فالذين أطلقوا النار لم يقتلوا جسدا فقط، بل اغتالوا فكرة، ورسالة، وضميرا. هل اعتقدوا أن افتهان كانت تمثل حاجزًا أمام انتشار قاذوراتهم؟ هل أرادوا بإزاحتها أن يفتحوا الطريق أمام مشاريعهم القذرة، حرفيا ومعنويا؟ إن الطريقة التي قُتلت بها، من مسافة صفر، وبعددٍ مهول من الطلقات، لا تعكس فقط رغبة في الإلغاء، بل تعطشا للدم، وكراهية لكل ما هو نظيف. الأكثر فداحة أن الجريمة لم تكن مفاجئة. سبقتها تهديدات، واقتحام لمبنى إدارة الصندوق، في سابقة خطيرة تنذر بانهيار ما تبقى من هيبة المؤسسات المدنية. كيف يمكن لمدينةٍ تُعرف بأنها منارة للوعي أن تسمح بمرور هذه الجريمة دون مساءلة؟ كيف يمكن أن تُغتال امرأة في وضح النهار، دون أن ترتجف المدينة كلها؟ الجريمة مدانة بكل الأوجه: قانونيا، دينيا، قبليا، وأخلاقيا. لا مبرر لرفع اليد على موظف عام، فكيف بالقتل؟ لا مبرر لاستهداف امرأة تحمل مشروعا تنمويا، فكيف بإطلاق عشرين رصاصة على جسدها من مسافة صفر؟ إنها جريمة لا تستهدف افتهان وحدها، بل تستهدف كل امرأة تؤمن بدورها، وكل موظف يحاول أن يكون نزيها، وكل مدينة تحلم أن تكون نظيفة. افتهان كانت تمثل شيئا أكبر من منصبها. كانت تمثل صوتا نسائيا قويا في بيئةٍ لا ترحم النساء، وكانت تقف بشجاعة في وجه الفوضى، وتحاول أن تُعيد للمدينة شيئًا من كرامتها. اغتيالها هو اغتيال للمرأة، للمدنية، للسلام، ولتعز نفسها. تعز اليوم ليست بخير. المدينة التي أنجبت المثقفين والمبدعين، باتت تُغتال فيها النساء في وضح النهار. لكننا نؤمن أن صوت افتهان لن يُدفن، وأن رسالتها ستبقى، وأن كل طلقة أُطلقت على جسدها ستتحول إلى سؤالٍ صارخ في وجه الجميع: من قتل افتهان؟ ولماذا؟ إن العدالة اليوم ليست ترفا، بل ضرورة. والسكوت ليس حيادا، بل خيانة. يجب أن يُفتح تحقيق شفاف، وأن يُحاسب الجناة، وأن تُحمى المؤسسات، وأن يُعاد الاعتبار للمرأة اليمنية التي تقف في الصفوف الأمامية رغم كل التهديدات. افتهان المشهري لم تكن ضحية عابرة، بل شهيدة الواجب والكرامة. ودمها سيظل يصرخ في وجه كل من ظن أن القذارة يمكن أن تنتصر على النظافة، وأن الرصاص يمكن أن يُسكت الحلم