علي علي العيزري* منذ بداية النشأة الأولى، وقبل تطور الفكر وإعمال اللغة أداةً لذلك الفكر، كانت اللغة ترجمان المعاني التي تطرحها العمليات العقلية. وقد خصَّ الله الإنسان ببديع هذه الترجمة منذ أن قال سبحانه لآدم: "أنبئهم بأسمائهم هؤلاء"، فكانت بداية حركة الترجمة قبل أن تُعرف بمصطلحها وتتشكل قواعدها وتراكيبها. ومع تنامي الفكر الإنساني أصبحت اللغة عمود الحياة ووسيلة التواصل والتفاهم بين البشر. فما إن بسطت المعاني الحسية صفحاتها المعبرة عن شتى مناحي الحياة حتى دعت الحاجة الملحة إلى اللغة. وللخيال رؤيته الخاصة في نقل أحداث المشهد، غير أنّي أجدني أقرب إلى الواقع حين أتصفح ما جادت به ألسنة العرب وقرائحهم، وما فاضت به أذهانهم، بل وما تحكم حتى بألبابنا إلى يومنا هذا. وهنا يبرز السؤال الذي شغل أحبار من استهوتهم هذه اللغة وتنافسوا على قصب السبق في ميادين التأليف: ما أهمية اللغة؟ بين أحضانها تعرّفت الشعوب وتعارفت، وبها تقلدت كنوز المعرفة والحضارة التي أذنت بتطورها ومنحتها صولجان الأفضلية بين الأمم. فقد كانت، وما زالت، اللغة العربية نبراس اللغات. غير أنّ التطور الذي حققته الشعوب الأخرى، وعلى رأسها الإنجليزية، أفسح المجال لهذه الأخيرة لتتربع على عرش الأفضلية، حتى غدت اللغة الأولى في العالم، بينما تراجعت العربية يتيمة في المرتبة السادسة بين لغات العالم. ولعل الحقيقة الثابتة: كلما تطوّر الإنسان صاحب ذلك التطور انتشار لغته وعلو مكانتها. أفلا آن لعروس اللغات وحورية المؤلفات أن تعود إلى مجدها الذي لا تستطيع أي لغة أخرى إنكاره؟ إن الوعي الكامل بقيمة العربية كفيل بأن يحفز الأقلام لتدوينها وإحيائها. وبدلاً من أن تقتبس من غيرها فنون الإبداع، ستظل – بما تملكه من مفردات وتراكيب وأساليب – قادرة على استيعاب المتغيرات، ناشرةً شذى عطرها في الأجواء الفكرية. كل بلد اتسعت ثقافته الفكرية واللغوية، اتسعت قدرته على استيعاب الحداثة والتطور. وما زلت أذكر مقولة أحد الشعراء حين نعت بلدتي ب"واق الواق". لقد تعجرفت هذه الكنية وأشعلت في ذهني هستيريا من التساؤلات: أليس لذلك الوطن صوت مسموع؟ أليس له تاريخ ثقافي يستحق به لقباً أرقى؟ لقد دفعتني هذه العبارة إلى المضي قدماً نحو تدوين هذا البلد في قائمة البلدان المتحضرة. ومن رأيي أنّ لا نقصان له في الحضارة، ولا سبيل أصدق لترجمتها إلا عبر اللغة، بما يبدد تلك الادعاءات الباطلة. إنّ الدارسين يبذلون غاية الجهد في ترسيخ الثقافة وتنميتها، والكتّاب يعملون بطرقهم الخاصة على وضع مؤلفاتهم في الصدارة، سواء في مكتبات الوطن العربي أو في العالم. وإن صح اعتقادي، فذلك هو السبيل لبيان مكانة بلدي بين سائر الأوطان. عندها فقط سيذيع صيته ويزاحم الأمم في شؤونها العالمية، ويكون له الحق في إبداء الرأي في المسائل الخاصة والعامة على المستويات الدولية. وللمفكرين والدارسين أثر بالغ في تحقيق هذا المسعى. فما دامت الدراسات قائمة على تغذية العربية بالمؤلفات والرسائل التي تحوي كنوزاً ثقافية، فإنها ستخلّد بقاء حضارتنا لغةً وشعباً وأرضاً. بل ستحقق مقولة الشاعر: "سجّل مكانك في التاريخ يا قلم"، إذ وحده الاهتمام بالدراسات العليا في هذا المجال كفيل بالحفاظ على بريق العربية. وحينها ستسعى اللغات الأخرى إلى ترجمة مؤلفاتنا، لا كما حدث في خمسينيات القرن الماضي حين نُسبت منجزاتنا إليهم، بل لتدرك مكانة العربية القائمة على الفكر الحضاري الدائم. *مدرّس بجامعة صنعاء – كلية الآداب والعلوم الإنسانية – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها باحث دكتوراه في الترجمة والذكاء الاصطناعي