سمر الكدهي هناك نظرة استغرابٍ باردة في عيون الكثيرين اليوم. نظرةٌ لا تلاحق بالضرورة من يؤدي فرضه، فهذا مشهدٌ قد أَلِفَته العيون. لكنها تلاحق بعين الشك والريبة كل روحٍ قررت أن تتجاوز المألوف، لتولد في فجر القلب. حين تبصر يداً تقلّب حبات سبحةٍ بذكرٍ لا يفتر، قد تُتهم بالدروشة. وحين تسمع قلباً يلهج بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بشوقٍ يلمع في عينيه، قد يُرمى بالغلو. وحين يحكي رجلٌ كيف أن دوخة عجز عنها الأطباء قد شُفيت بآلاف من "لا إله إلا الله"، قد تقول في نفسك: "يا للعجب! أيعقل في عصر العلم أن نعود إلى هذه الوصفات الخرافية؟". إن هذا السؤال هو العجيب، لا فعلهم! إنه كمن رأى عالِم فلكٍ قضى عمره يتأمل النجوم، ثم حين رآه يتأمل أمه بحب، قال له: "أتترك المجرات وتنظر إلى عجوز؟". لم يدرك هذا المسكين أن حبه لأمه هو الأصل الذي منحه الشغف لينظر إلى السماء. وصلتنا بالله هي الأصل، وكل علومنا فروع. وهل رأيت فرعاً يستغرب من أصله؟! أنت كمن رأى نهراً يكدح ويجري، يخترق الصخور ويسقي الوديان، ثم حين وصل أخيراً إلى البحر وعانقه، قلتَ: "يا للخسارة! لقد ضاع النهر!". لم تدرك أنه لم يضع، بل وصل إلى غايته، وتحقق في البحر. وصلتنا بالله هي بحرنا الذي إليه نجري، وكل علومنا أنهار تحاول أن تجد طريقها إليه. فكيف تستغرب من نهر وجد بحره؟! وهذا الأصل لم نعرفه من فراغ، بل دلّنا عليه دينٌ لم يصلنا في رسالة باردة، بل وصل محمولاً على أشواق الأنبياء، مجبولاً بعناء الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. وصل بدموعه في جوف الليل وهو يناجي "يا رب أمتي، أمتي". وصل بدمه الطاهر الذي سال على أرض أُحد. وصل بروحه التي عرجت إلى ما هو أبعد من كل سماء، فرأت ما لم تره عين. ثم يأتي من يأتي، ويتهم من يقتبس قبساً من هذا النور بالرجعية؟! يا الله! أي رجعية في اتباع سيد المتقدمين؟! المشكلة ليست فيهم، بل في فهمنا المبتور للإنسان. أنتم تنظرون إليه كطين، وهم أدركوا أنه "نفخةٌ من روحه". وأنتم تبحثون عن دواء الطين في صيدليات الأرض، وهم بحثوا عن دواء "النفخة" في خزائن السماء. أدركوا أن هناك آلاماً لا تظهر في الأشعة، وجروحاً لا تبرأ بالمضادات الحيوية. هناك "نوبات هلع" لا يوقفها طبيب، و"دوخة روح" لا يشخصها جهاز. هذه العلل العميقة، دواؤها ليس في صيدليات الأرض، بل في الصيدلية الإلهية التي قال عنها ربها بوضوح مباشر لا يحتاج إلى وسيط: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". وهنا يأتي السؤال الحاسم: إذا كنت تؤمن بالقرآن، فكيف تستغرب ممن يحاول أن يعيشه؟ إن هذا القرآن الذي بين أيدينا قد بيّن كل شيء بكل وضوح. فالتزام هذا الشخص ليس إلا تصديقاً عملياً لما تؤمن به أنت نظرياً. أما إذا كان إيمانك بالقرآن مجرد غلاف ثقافي لا يمس القلب، فهذه قصة أخرى، قصة انفصام بين اللسان والقلب، لا قصة ثقافة ووعي. إن حصيلتك العلمية، مهما عظمت، تجيبك عن سؤال "كيف؟"؛ كيف يعمل الكون؟ كيف ينقسم الجين؟ لكنها تقف عاجزة تماماً أمام أسئلة الوجود الكبرى: "لماذا؟". لماذا أنا هنا؟ ما غاية وجودي؟ إنها الأسئلة التي تجعل الروح تصرخ في عجب وحيرة، باحثة عن حقيقة قريبة لكنها مجهولة، وهي الصرخة التي لم يجسدها أحد كما جسدها شهيد الحقيقة الحلاج، حين ناجى ربه قائلاً: عجبتُ منك و منّي يا مُنية المتمنّي أدنيتني منك حتّى ظننتُ أنّك أنّي هذا القرب الذي لا يُدرك بالعقل، وهذا "الأنا" الذي لا يُعرف إلا بالله، لا تجيب عنه مختبرات الكيمياء، بل يجيب عنه الوحي الذي نزل على قلب ذلك النبي الأمين. إنك بدون الله، مهما تعددت شهاداتك، لست إلا صدىً بلا صوت، بريقاً بلا نجم، شعاعاً أضاع شمسه. كل علومك هي أثر القدم على الرمال، والله هو "الطريق". فلا تخافوا على من عاد إلى الله. إنه كنجمٍ تائهٍ في ظلمة الفضاء، حتى لمح "شمسَهُ" التي منها نوره الأول، فعاد يدور في فلكها بتسبيحٍ أبدي. إنكم تظنونه قيداً، وهو قمة الحرية. وتحسبونه فناءً، وهو عين البقاء. الأسى ليس عليهم. الأسى على من لا يزال في ظلمته، يظن أن نوره ذاتي. الأسى على من لم يسمع بعد نداء الحنين في أعماق روحه. وها هو الإمام الشافعي، مجدد عصره، يعود بلسان حاله ليصف لنا مشهد هذه القافلة التائهة، فيقول: كَالعِيسِ في البَيداءِ يَقتُلُها الظَما وَالماءُ فَوقَ ظُهورِها مَحمولُ وفي الختام، اعلموا أن القصة كلها ليست قصة عقلٍ أو جهل. بل هي قصة "نفخةٍ" من روحه، أُرسلت في رحلة قصيرة إلى عالم الطين، وهي تحنّ أبداً إلى مصدرها الذي منه انبثقت. فالذي رأيتموه يسجد، لم يكن يمارس طقساً، بل كان يضع بوصلة حنينه على اتجاه الوطن. والذي رأيتموه يذكر الله، لم يكن يردد كلاماً، بل كان ينادي على "أهله" في الملكوت الأعلى. والذي رأيتموه يبكي شوقاً للنبي، لم يكن يتأثر بقصة، بل كان يسترجع ملامح "الدليل" الذي يعرف وحده طريق العودة. إن كل ما في هذا الكون، من الذرة إلى المجرة، هو رسالة تشير إليه، وكما عبر الشاعر أبو نواس في لحظة توبة وصدق نادرة عن هذه الحقيقة فقال: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الوَاحِدُ ولكن مهلاً! فالدين كله ليس مجرد خريطة للعودة، بل هو طريق واحد محدد المعالم. قد تتعدد الدروب التي تظن أنها تؤدي إلى الله، لكن الطريق الآمن الوحيد هو الذي عبّده بدمه ودموعه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. هو الصراط المستقيم الذي لا يضل سالكه. فلا تستغربوا من عودتهم، بل استغربوا من طول غربتكم. فالقصة كلها، منذ البدء وحتى المنتهى، ليست قصة ثقافة أو علم، بل قصة "ابنٍ" ضل طريقه عن "أبيه"، وقصة "محبٍّ" أضناه الفراق عن "خالقه". والآن، وبعد كل هذا، تعالَ إلى حقيقة بسيطة: روحك التي بين جنبيك هي نفخةٌ من الله. فهل يعقل بمنطق العقل، قبل منطق الإيمان، أن تجد هذه النفخة الإلهية راحتها بعيدةً عن أصلها؟ محال! إنها كرسالة وصلت إلى عنوان مؤقت، ولا بد في نهاية اليوم أن تعود إلى مرسلها. فهل أعددتَ الرسالة جيداً لتعود نقية كما أُرسلت؟ فاسأل نفسك الليلة: متى آخر مرة نظفت الغبار الذي عليها، وتركتَها تتنفس. فمن وجد طريقه، فقد بدأت رحلته الحقيقية للتو. ومن لا يزال تائهاً، فما هو إلا غريبٌ يبكي على أطلال غربته وهو لا يدري. وكما قال الحق في محكم تنزيله، فإنها "لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ".